لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهكذبتا النخب العربية
لما دخلت دار المعلمين العليا عندما كانت عليا كان من بين الأصدقاء الكثير من أندادي سنا مغرمين باليسار عامة وبماو تسي تونغ إذ كان موضة الجيل.ومن مصادفات الدهر أن أحد المرضى النفسيين الذي كان حالة ممن درسناهم (مع أستاذ علم النفسي المرضي وهو طبيب الرئيس بورقيبة) يعتبر نفسه ماو.وبعد أن افترقنا كل حسب ظروفه وتقدمنا في السن وعاد اغلبنا لتونس بعد الهجرة الضرورية للدراسة لم أجدهم قد غادروا حبهم الأول بل صاروا زعماء.كنت أتوقع أن الموضة ستمر. لكنها تحجرت أكثر من تحجر سلفية الصف المقابل. والمهم هو ما يجري حاليا وخاصة بعد الربيع ودورهم في الكيد له مع أعدائه.فجلهم-والاستثناء لا يكاد يذكر-هم يسار العرب-من الماء إلى الماء-كما سأصفه بكلمة ممهدة لفهم الظاهرة التي فضحها الربيع العربي والثورة المضادة.لما عدنا والتقينا من جديد وتقدم بنا السن وجدت ظاهرتين عجيبتين:1. لم يتخل أحد منهم عن “عقيدته” الماركسية نهارا وقولا من أقصى اليمين ليلا وفعلا.2. والكثير منهم أصبح إما من موظفي الجهاز الامني والمخابراتي أو من موظفي ادارة سياسية وثقافية لنظام يسمح لهم بالوجهين: معارض نهارا وحليف ليلا.وغالبا ما يكون المرور بالاتحاد-إما اتحاد الطلبة أو اتحاد العمال-ليجمع بين مدرستي المخاتلة السياسية اساسي النظام في تونس حتى قبل الاستقلال.كنت “معجبا” بهذه القدرة ذات الوجهين و”متعجب” من “رضا” اصحابها عن أنفسهم بل ومفاخرتهم بها بوصفهم “مثقفين” و”رواد” في الفكر وفي الإبداع والتحيل.والامر أصبح اشد بروزا: فهم ومعهم القوميون والاتحادات وبقايا النظام السابق بنفس الخطابين: ينسبون الثورة لأنفسهم ويحالفون من يحاربها.ففضلا عن حلفهم مع من ذكرت في تونس يساندون السيسي وبشار وحفتر وكل ممولي الثورة المضادة اللذين يستثمرون فيهم لإفشال الثورة ولو بأسلوب السيسي.وما “اتعجب” منه كذلك أني رغم أني كنت في شبابي بورقيبيا وقوميا بروح إسلامية-لم أكن أميز بين كوني عربيا وكوني مسلما-لم يغرني الفكر اليساري.ولعل موقف اليسار والقوميين مني سره في هذا الانتساب إلى أسرة تقليدية وإسلامية ومحافظتي على صورة شديدة الإيجابية من “فكر” القرآن وقيم الإسلام.لكن ما كان يعزيني عن “شبه العزل” من الشلل أمران:1. تحررت من الملهيات التي تجمعهم وفرغني لما أطمح له.2. وهو أن جلهم من طبقات شديدة الشعبية.فكان رأيي فيهم أنهم لا يساريين ولا قوميون ولا حتى مبدئيون في أي شيء ولا هم يحزنون بل هم “خبزيست” أي باحثون عما يمدهم برغد العيش بأي ثمن.وفيهم ما يسميه نيتشه بأخلاق الضغينة أو الحسد الدائم لمن يتفوق عليهم بالعمل الجدي والشريف فيلبوا مطالب أنظمة الاستبداد والفساد: حب المظاهر.ويكفي أن يتابع الإنسان برامج الفضائيات وكثرة المعلقين والخبراء والصحفيين في كل بلاد العرب ليعلم من أي طينة هم: مجرد أبواق لا فكر ولا خلق.وما بت أخشاه هو بداية العدوى في الأحزاب الإسلامية. فقد كانت أشد حرصا على الأخلاق بالقياس إلى اليسار المعتمد على الكذب والغش والانتهازية.ومن أساليبهم في التغطية على سلوكهم أنهم يسقطون على كل من يخالفهم عيوبهم ظنا أن الجميع مثلهم فلا يسلمون بأنه يوجد من يتعالى على الدنايا.ولست اكتب هذا دفاعا عن نفسي فما أكتبه بين القراء وهم سيحكمون محتكمين إلى ضمائرهم. وحجتي دامغة: كلامي في ابن تيمية ظنوه مقابل أجر من الوهابية.ومعناه أنهم لا يقرأون لأن ما أقوله عن ابن تيمية هو ما تكفر به الوهابية هذا قبل أن تتبرأ منه الوهابية تبرؤ الإسلاميين من الاخوان.واحتقاري لأي إسلامي يتبرأ من الإخوان في السراء خوفا أو طمعا والكل يعلم أن الإخوان هم من حماهم عقودا في الضراء: أدافع عنهم ولست من الإخوان.عندما سئل الشعب وعلم أنه حر في الجواب الذي يعبر عن عميق اختياراته فضل الإسلاميين ليس للمظلومية فحسب بل لأنهم الأقرب لثقافته التقليدية.وكنت متحرزا من التجربة وحاولت مستطاعي أن أنصح بما اعتبره ميسرا للامتحان بالتواضع وتقاسم المسؤولية بصدق وأمانة لئلا يكون تشريك غيرهم صوريا.لكن هوس السلطة وسذاجة الفهم والاستيسار الدال على قصر النظر أدى إلى فشل التجربة في مصر أولا وفي تونس بنفس القدر لكن مأساة مصر أرجعت العقل.واليسار والقوميون -بنفس اللعبة-يشغلون مقاعد المعارضة ليس ضد عودة النظام السابق بل ضد ما بقي من الثورة بمواقف تعجيزية لكل الحلول التوافقية.أذكر أن أحد كبار زعماء اليسار المصريين التقيته في تونس فدار كلام حول الموقف من الجيش في مصر: فكان يريد دفع الإخوان للصدام معه بخبث لا يطاق. فلم أطق صبرا وقلت له إن ذلك دليل على أنكم حلفاء الجيش لم تصبروا على الإسلاميين وتريدون الحسم السريع بواسطة الجيش وهو ما كانوا يعدون له معه.ونفس الأمر كان اليسار والقوميون النقابيون يعدون له كما تبين من شهادة بعضهم لاحقا لنفس السيناريو المصري لو فضل الله وعودة الحكمة للإسلاميين.هذه شهادة حول دور اليسار والقوميين الفعلي في الثورة المضادة بخلاف القول: هم حلفاء الاستبداد والفساد. كلامهم الثوري ككلام حزب الله المقاوم.