كاريكاتور النخب، أو جامية التحديث وجامية التأصيل – الفصل الرابع

**** كاريكاتور النخب أو جامية التحديث وجامية التأصيل الفصل الرابع

قلت إذن إني أربأ بقيس القرآن على العلوم لأنه فوق التاريخ وهي تاريخية. لكن للقرآن رؤية وجودية فوق التاريخ وهي تتعلق بمبادئ عامة حول الله والإنسان والعالم الطبيعي والعالم التاريخي وما بين هذه العناصر من علاقات من منظور تربية الإنسان وحكمه لتحريره مما يترتب على عدم انتظام حريته.

لا يوجد تدافع (ترجمة الإسلاميين) للتنافي (رؤية الجدليين)، بل يوجد طرف ثالث هو في الحقيقة خامس وهو الأصل يجعل الحياة أمرا يخرج منه الموت، ويجعل الموت أمرا تخرج منه الحياة، ولا نعلم ما الذي يجري ليكون الخروجان ممكنين. وليس لأن الحي يقتل الحي فيكون هو فاعل خروج الميت منه. ولا لأن الميت يحيي الميت ليكون هو مخرج الحياة من الموت. الحدان حياة وموت لا دور لهما في ما يخرج منهما، لأن المخرج ليس أيا منهما بل هو طرف ثالث أصل لأربعة فروع: • الحي • والميت • ثم إخراج الحي من الميت • وإخراج الميت من الحي. وهذه أربعة فروع متضامنة وليس فرعين يتصارعان.

وإذن فنحن أمام نظام مؤلف من: • حدين، • وثمرتين بينهما، من أحدهما الى الثاني في الاتجاهين، • وأصل هو مهندس النظام وهو الفاعل. وإذا تصورنا أن الحي يخرج منه الميت لأنه يقتله، نصبح أمام رد الكافر على إبراهيم لما استعمل عبارة يحيي ويميت فقال له إني أيضا أحيي وأميت. ونفس المنطق ينطبق على خرافة التدافع. ففي الآيتين اللتين استنتج منها الإسلاميون هذه الفكرة التي هي تقليد بليد لمنطق الجدل، أي صراع ينتج عنه انتقال للأفضل، نجد نفس البنية. فأولا ليس للأمر علاقة بين جماعتين، بل على الاقل ثلاثة كما في فكرة الإصلاح بين الأخوين بأخ ثالث. وقد يكون أكثر من أخ ثالث لأن الجماعتين المتصارعتين اللتين علينا تحقيق الصلح بينهما يمكن أن يكون لكليهما سند من جماعة أخرى قد تتدخل عند تدخل الجماعة والمصلحة والتي عند الفشل تتحالف من المظلوم ضد الظالم. فيصبح صف المظلوم مضاعفا وكذلك صف الظالم. وحصيلة المعركة هي: • أولا علاقة بين التسابق في الخيرات (صف السند للمظلوم) • والتنافي عليها بالشرور (صف الظالم) والمبدأ هو انتصار من هم مع الحق على من هم مع الباطن فيكون ما يجري هو الامتحان الذي يثبت أن التسابق في الخيرات هو سبيل الإنسان المؤمن بعكس التنافس عليها بالشرور. وهذه بنية مجردة تجسد ما يترتب على حرية الإنسان إذا عملت بمنطق الأخلاق أو بعكسها أو بلغة قرآنية إذا كانت تسعى لبيان جدارتها بالاستخلاف أو لبيان صدق رأي ابليس فيها. ذلك أن نظام التربية والحكم في القرآن هو النظام الذي يقترحه القرآن فرصة ثانية للإنسان حتى يثبت جدارته بالاستخلاف.

وهذا النظام هو البنية التي تتعلق بمجال الحرية والتي تضاعف البنية التي تتعلق بمجال الضرورة. وكلتا البنيتين تخضعان إلى منطق التضامن بين عناصر البنية الكونية طبيعيها وتارخييها تناسقا هو شرط قيام الإنسان بوصفه مكلفا بعمارة الأرض بقيم الاستخلاف وشروطها التسابق في الخيرات. والنظامان متفاعلان ومتضامنان. ولنا منهما مثال في كيان الإنسان: • فهو تابع للنظام الطبيعي والضرورة في كيانه العضوي والمادي • وتابع للنظام التاريخي والحرية في نظامه الخلقي والروحي. • وللنظامين تفاعل في الاتجاهين من كيانه العضوي إلى كيانه الروحي والعكس بالعكس • وهو واحد كفرد. وكما سبق أن بينت في غير موضع أن مفهوم “الفرد” مفهوم ديني بوصفه ذاتا مكلفة ومسؤولة تأتي ربها فردا ولا علاقة له بالفلسفة التي يعترف له بعضها بالفردية الفيزيائية مثله مثل أي كائن ولا يعتبره ذا وجود متجاوز لحياته العضوية بمعنى أن موته نهاية وليس له قيام مختلف عن الظاهرات الطبيعية. والمعلوم أن مسلمات كنط التي ذكر منها ثلاثة لكنها في الحقيقة خمسة، هي شرط الاخلاق أو شرط اختلاف كيان الإنسان الروحي عن كيانه الطبيعي لأن ما به يختلف الاول عن الثاني هو هذه المسلمات الخمس: 1. الحرية 2. والخلود (أي البقاء بعد الحياة الطبيعية) 3. والإيمان بوجود الله 4. والمضمر هو البعث 5. والحساب. وبذلك فكل من يدعي أن كنط لا يؤسس الأخلاق على الدين إما غبي أم متغابي. ذلك أن الاستثناء من قانون الضرورة الطبيعية هو معنى الدين في العمق. طبيعيا لا مبرر ولا حاجة ولا تعليل للتمييز بين الإنسان وأي حيوان آخر، وينبغي ألا يستثنى منها وإلا لكان كما قال سبنوزا “دولة في الدولة”. وقبل سبينوزا، كل المتصوفة تقول هذا العقل وتعتبر الحرية والمسؤولية والاخلاق بمعناها الفقهي رسوما لا تعترف بها الحقائق التي يوصل إليها الكشف، وهم بهذا يعللون كل شيء في الوجود بوصفه ضرورة لو لم يكن الله يريدها لما حصلت وهو ما يسميه ابن تيمية رد المنشود إلى الموجود (دحضا لابن عربي). نظرية الجدل الهيجلي أعادت النظر في مبادئ العقل الثلاثة: • الهوية • والثالث المرفوع • والتناقض. إذا ألغينا التناقض لإدخال الثالث المرفوع فلا بد من تغيير الهوية. وتغيير الهوية هو منطلق هيجل. كيف يمكن أن يزيل المسافة بين الموضوع ومحمولاته أو اعراضه في القضية المنطقية. فبإزالة المسافة بين الموضوع ومحمولاته يزيل المسافة بين الجوهر والعرض الذي يصبح ظهور الصيرورة التي هي حيوية الجوهر فتكون النسبة بين الجوهر والعرض من جنس النسبة بين القوة ومفعولها في الفيزياء: القوة هي مفهومها والجوهر هو أعراضه أو تجلياته الفعلية. فيكون هيجل انتقل من الرؤية البارميندية إلى الرؤية الهرقليطية التي تقول بأن المرء لا يمكن أن يسبح في نفس النهر مرتين والبعض قال ولا حتى مرة بسبب مجرى الماء وتغيره في المكان خلال سريان الزمان. وبذلك يكون الوجود نفسه ثملا في مسعاه بين الوجود والعدم أو في الصيرورة بالمعنى الهيجلي. وإذا كان الجوهر عين أعراضه فإنه لم يبق فرق بين الفينومان والنومان الكنطيين ويتجاوز المقابلة بين الشيء في ذاته وما ندركه منه أعني فينومانه أو تجليه في اعراضه، بل إن المقابلة بين الجوهر والعرض لم يبق لها معنى ويكون هذا الكلام إدخالا لنظرية التطور في المعاني قبل التطورية الداروينية.

وتلك هي وحدة الوجود المذوتة التي يدعو هيجل إلى نقل وحدة الوجود المموضعة بمعنى التوحيد بين الله والطبيعة الطابعة التي يكون العالم صنيعها بوصفه طبيعة مطبوعة. وقد سبق ابن عربي المعنيين السبينوزي والهيجلي لأنه يعتبر العالم عين الله ويعتبر الإنسان عين الله فيجمع التطبيع والتذويت. وليست المجالي إلى تجلي الوجود الذي هو الله نفسه متعينا في العالم كموضوع وفي الإنسان كذات وهو ما بالغ تصوف الوحدة المطلقة فاعتبر كل ما يتعاوز الوعي الذاتي الإنسان من صنيعه، ومن ثم فالموجود الوحيد هو الله الإنسان وبقية الموجودات هي ما يدور بوهم الإنسان من مدارك هي من صنعه.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي