**** كاريكاتور النخب أو جامية التحديث وجامية التأصيل الفصل الخامس
وصلنا الآن إلى بيت القصيد في المحاولة: المنطق في الحقيقة جزء من الاخلاق. إنه أخلاق المعرفة بمعنيين: 1. مقياس سلامة الوصل بين المقدمات والنتائج صوريا. 2. مقياس نزاهة ثبات الدلالة مضمونيا للرموز المستعملة في الخطاب خلال النقلة من المقدمات إلى النتائج بأمانة دون غش كالشأن في الوزن. والضمانة الصورية شيء والضمانة المضمونية شيء ثان. • فالأولى تشبه مدى دقة الميزان • والثانية تشبه مدى أمانة الوزن. فيمكن الغش في مدى دقة الميزان ويمكن الغش في مدى أمانة الوزن. والمعلوم أن العيب في الميزان والوزن من أكبر الجرائم في أخلاق القرآن: وهو التطفيف في الكيل والاكتيال. فإذا سلمنا بأن دقة الميزان وأمانة الوزن حتى بدون غش لا تضمنان المطابقة بين ما يحققانه مع الموزون بإطلاق، انتقلنا من نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة إلى نظرية في المعرفة تنفيها وتعوضها بالأمانة والصدق في الكلام على ما ندركه من الموزون وليس عين الموزون فنصبح مجتهدين دون إطلاق. القول بالمنطق الجدلي تفص من الامرين: فعندما تلغي المبادئ الثلاثة للمنطق الأرسطي تحرر المتكلم من دقة النقلة من المقدمة إلى النتيجة ومن أمانة نقل المضمون لأنه يصبح غير ثابت. ولما كان الهدف هو العودة إلى القول بالمطابقة ونفي المسافية بين ما نعلم وحقيقة الأشياء، كان الإطلاق. وهذا الإطلاق لما يحصل بأداتي التحيل-تغيير دلالة حدود القياس في الاستدلال المنطقي يشبه عدم احترام الإنسان لكلمته في المعاملات-يجعل الأمر الواقع معيار الأمر الواجب فيكون المنطق الهجيلي صحيح على المتخادلين والمتصارعين في التنافس من أجل ما يعتبرونه خيرات بأدوات الشر والغش.
المنطق الجدلي هو منطق المعاملات في الجماعات المافياوية: حرب بين قائدين في نفس المافية كلاهما يتربص بالثاني والحصيلة من الصراع هي بقاء المافية بقائد أخبث تمكن من القضاء على القائد السابق، وهذا هو منطق التاريخ حسب هذه الفلسفة. فتعميق الذاتية يعني تعميق الخبث والغدر والسبق في الشر. ويزعم الكثير أن في ذلك عودة إلى الجميع يصبحون مثل الحيوانات يتآكلون. وهذا كذب على الحيوانات لأنها لا تتآكل في نفس النوع ولا تتجاوز حاجتها التي يقتضيها قيامها بخلاف هذا النوع من البشر الذين يتآكلون في نفس النوع ويفسدون كل شيء ولا يكتفون بسد حاجة قيامهم. إنه منطق العولمة الحالية. ولا يعني كلامي أني أقول بمنطق أرسطو أو أن هذا المنطق لا يمكن أن يستعمل بنفس الأخلاق لأن السفسطة هي بداية المنطق الجدلي باعتبارها تتلاعب على تغيير دلالة الحدود التي يتألف منها القياس ولا تستطيع أبدا أن تسكت متكلما -علم الكلام-لأنه يدخلك في التشقيق الدلالي الذي لا يتوقف. لذلك فالمتكلم والجدلي مثل التاجر الغشاش في المعاملات لا يمكنك أن تتغلب على غشه في جودة البضاعة أو الخدمة ولا في الوزن والميزان كيلا واكتيالا بحيث إن المنطق والميزان ليسا كافيين للتحرر من الغش، بل هما يغطيان عليه بما يدخله عليهما التاريخ من تلاعب بالصورة وبالمادة في آن.
وحتى ندرك ذلك فلنأخذ حركة الحيوان المنوي في مسعاه إلى البويضة في رحم المرأة. فملايين الحيوانات تتسابق للوصول إلى البيضة والذي يصل قبل البقية يكون الأقوى والافضل للإنجاب، وإذن فالقانون ليس صراعا بين الحيوانات المنوية بل تسابق في الخيرات. ليس لأي حيوان منها تحيل تنافسي بالخبث. وعندما نرى الانثى في الحيوانات موضوعا لتسابق بين الذكور من أجل التلاقح، فإنه لا يوجد عند أي حيوان استراتيجية خبيثة لتعطيل البقية والوصول إلى الأنثى بغير شرطين هما في خدمة التلاقح الأسلم من أجل بقاء النوع أعني القوة والعنفوان، هما شرط التسابق في الخيرات وليس التنافس عليها بالشرور.
كذلك الامر بالنسبة إلى الأسواق: يمكن أن يوجد تسابق في الخيرات من أجل جودة البضاعة والخدمة وهو ليس منطق جدلي بين زوجين بل هو منطق بنيوي في جماعة يتدخل فيها خمسة عناصر وليس عنصرين موجب وسالب: 1. المعرفة 2. والاستثمار 3. والتمويل 4. والعمل المنتج 5. والاستهلاك. لكن الجدل يفسد البنية. فبدلا من البنية المخمسة هذه يتحول الاقتصاد إلى تجارة مغشوشة بين التاجر محتكر البضاعة أو الخدمة للتحكم في المستهلك والبنك محتكر التمويل للتحكم في المستثمر ويضيع بينهم العلم الذي يبدع كل ذلك بوصفه هو الذي يبدع صناعتهما ومنهجهما بما يخترعه منهما: صراع بين قطبين بدلا من البنية.
ونفس الشيء في الديموقراطية. بدلا من أن تكون تعاون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر ليكون “أمرهم شورى بينهم” اي بين كل المواطنين تتحول إلى صراع بين مافيتين تسميان حزبين وهما في الحقيقة أداتان بيد أصحاب المال المتسخ والإعلام المزيف للوعي: أي معدن عجل بني إسرائيل وخواره. وهذا التحريف لمنطق البنية بمنطق الجدل بين موجب وسالب وحصيلة يتبناه الإسلاميون بلا وعي عندما يتكلمون على “التدافع” الذي هو ترجمة غبية للجدل الصراعي فيجعلون التسابق في الخيرات تنافس عليها بالشرور كما وصفت. وإذن فمنطق هيجل ليس منطقا بل هو أخلاق المافيات. وعندما أترجم هذه المقابلة بين “التسابق في الخيرات” فهما قرآنيا لدور التعدد المشروط في المنطق البنيوي للعلاقات التعاونية بين البشر و”التنافس على الخيرات” بالشرور فهمها جدليا لعلاقة بين زوجين موجب وسالب ينتج عنهما حصيلة شريرة بالضرورة فابسطها على مقومات الوجود أصل إلى ما يلي. فالإرادة تتحول إلى إرادة الشر والمعرفة إلى صنع أدوات العدوان والقدرة إلى تبييت الشر والحياة إلى قتل الغير والوجود إلى تشويه الرؤى. • فالحرية تجعل الإرادة للإيجاب أو السلب • والمعرفة للصدق والكذب • والقدرة للخير والشر • والحياة للجمال والقبح • والوجود للجلال والذل. وذلك شرط التكليف والامتحان. وهذا هو منطق القرآن: فهو يشرح للإنسان في التذكير الكوني الاخير أو الرسالة الإسلامية النجدين ويترك له اختيار ما يثبت أهليته للاستخلاف أو عدم جدارته بها. ولهذه العلة كان كل القائلين بالجدل أعداء الإسلام. فهم يختارون طريق الشر فيسمون منطقا ما سماه ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية”. ورأس هذا الفساد هو اعتبار الامر الواقع واجبا. وهذا تجده في الأدب المنحط خاصة. فما يسمونه أدبا هو أفسد صور التاريخ الذي يعتبر الأمر الواقع في حياة البشر وهو دون شك موجود عين المنشود فيلغي الفرق بين ما يجذب الإنسان إلى الإخلاد إلى الارض وما يجذبه إلى التحرر من الضرورة. لذلك صار: • مَن مِن واجبه التعبير عن إرادة الجماعة يسمي خيانتها “اكراهات سياسية” أو “واقعية” أو “براجماتية” • ومن من واجبه طلب الحقيقة في العلم لذاته يجعله مجرد أداة لخيانة الحقيقة ويسمى ذلك نجاعة • ومن من واجبه أن يجعل القدرة في خدمة الخير يجعلها تبريرا للوسيلة بالغاية • ومن من واجبه أن يعبر عن جمال الحياة ليحررها من جاذبية السقوط يحولها إلى فن الإسقاط بحيث صارت كل الفنون استلذاذا بالقبائح بدلا من أن تكون رفعا للإنسان إلى الذوق الجميع والخلق الحميد • ومن من واجبه أن ينير الرؤى الوجودية دينيا وفلسفيا يتحول إلى إيديولوجي داعية لكل ما سبق. وهذا ما بات موضوع اجماع بين كاريكاتور الحداثة باسم الجدل وكاريكاتور الأصالة باسم التدافع. وكلاهما بوعي أو بغير وعي قلبوا العلاقة بين الموجود والمنشود فصار الموجود غاية المنشود ولم يبق للإنسان قدرة على الاشرئباب إلى ما يحرره من الأمر الواقع والإخلاد إلى الأرض فاستكلب الجميع. فتفهم حينئذ لماذا يمكن للماركسي أن يرد ما بينا أن بنيته مخمسة -الاقتصاد عملية بنيوية معقدة في العلم والاستثمار والتمويل والعمل المنتج والاستهلاك-إلى بينة التقابل بين راس المال والعمل أي إلى قطبين يعتبرهما متنافيين يحصل منهما تجاوز إلى غاية نفي المقابلة وهو أمر مناف لمنطقهم.
وفي الحقيقة لا معنى للقاء بين رأس المال والعمل والصراع بينهما من دون التبسيط الهيجلي في منطق الجدل المزعوم لأن المعادلة الحقيقية للفاعلية الاقتصادية التي يعمل بها رأس المال هي أنه يستعمل العلم واكتشافاته للاستثمار فيهما وتمويله واستخدام كفاءة منتجة ومسيرة للإنتاج سدا للطلب. والطلب بنوعيه عفويا ومختلقا كلاهما ثمرة ثقافة استهلاكية في المجتمع فيكون الاقتصاد مخمس الابعاد ومرتبطا بالثقافة التي هي بدورها يمكن أن تحلل مثل الاقتصاد بكونها علما واستثمارا وتمويلا وعملا منتجا من أ جل استهلاك لبضاعة أو خدمة رمزية فتتداخل بنيتان متماثلان في سد الحاجة المادية والروحية. ولما كانت الثقافة عامة والاستهلاكية خاصة ليست بنت اللحظة ولا بنت حضارة واحدة، بل هي تراث متراكم للبشرية كلها فيه سهم بات من العسير القبول بالتبسيط الهيجلي وصورته الماركسية المشوهة -لأن هيجل لا يفصل بين الروحي والمادي-تبين أن كاريكاتور الحداثة وكاريكاتور الاصالة أميون حقا. فكلاهما يعمل بمنطق الجدل ولا يدري أنه هو الذي يذهب بالإنسانية إلى حتفها لأنه أساس منطق العولمة التي تنبني على الصراع بين المافيات الاقتصادية (ومنها الثقافي الذي صار بضاعة وخدمة اقتصادية هو بدوره) التي تخضع لدين العجل الذهبي: تحكم البشر بمعدنه (المال) وبخواره (الايديولوجيا).