**** كاريكاتور النخب أو جامية التحديث وجامية التأصيل الفصل الثاني
فالرؤية المعرفية القائلة بالمطابقة بين الإدراك والوجود (ابستمولوجيا المطابقة غير النقدية) هي التي تنتج الرؤية القيمية التي تطلقها فلا تعترف بالعالم الثاني في الحالتين: • التحديثي بعلم يظنه محيطا بالوجود الذي يحصره في علم مزعوم في الشهادة. • وكاريكاتور التأصيل يتصور علمه بالغيب محيطا فيتنج عن هذه الرؤية المعرفية القائلة بالمطابقة والإحاطة بالعلم الدنيوي والعلم الأخروي نكرانا للبعد الثاني من الوجود وللنسبة بينهما والتي من جنس علاقة المتناهي باللامتناهي والناقص بالتام والفاني الباقي قلب القيم كلها. ودعوى الإحاطة تلغي النسبي باسم المطلق والمطلق باسم النسبي. • فيهمل صاحب الكاريكاتور التأصيلي دور الدين في الدنيا لتحويله إلى تبرير الأمر الواقع بجاميته التي يظنها من مقتضيات الإيمان • ويهمل صاحب الكاريكاتور التحديثي دور الدنيا في الدنيا لتحويلها إلى التاريخ الطبيعي الجاري في الأمر الواقع بجاميته التي يظنها من مقتضيات العلم: فيكونا أداتي التبعية.
والآن سأترك جامية كاريكاتور التأصيل جانبا سواء كانت ثمرة الكلام والفقه أو ثمرة الفلسفة والتصوف، وسأقصر كلامي على جامية التحديث، وطبعا فأدعياء التفلسف أو التدين الجامين بين الجاميتين فهما من باب أولى موضوع هذه المحاولة وبيان علاقتهما بالقضيتين الابستمولوجية والأكسيولوجية. ذلك أن هدف البحث في هذه الحالة يصبح فلسفيا خالصا ولا يقتصر على الكلام في تبعات هذه المواقف على أزمة الحضارة الإسلامية الحالية. والعلاج الفلسفي الخالص سيتجاوز الحصر في ازمة حضارتنا إلى ازمة الحضارة الإنسانية الحالية ويثبت أن حدتها علتها كونية الحضارة الإسلامية وليس خصوصية الازمة. فما سعت المدرسة النقدية في فكرنا (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون خاصة) وسعت إليه المدرسة النقدية الكنطية فشل في الحالتين. فعندنا ظل العمل مقصورا على محاولات هؤلاء الثلاثة ولم يحدث تغيرا في الفكر الإسلامي بأصناف علوم الملة الغائية الخمسة مع الطابع البدائي لعلوم الآلة فيها جميعا. وفي الفلسفة الحديثة، تم وأد المدرسة النقدية بفعل نسقي بدأه هيجل وطوره ماركس وختمه نيتشة بما بعد الحداثة. فبيان محدودية النظر الفلسفي وعدم كفايته لتأسيس العمل والشروع في التحرر من نظرية المعرفة المطابقة لم يصمد كثيرا أمام نكوص هيجل إلى المطابقة قيس الإنساني على الطبيعي في الوضعية. ولذلك فلا يمكن التحرر من هذه الآفات الثلاث: • الهيجلية وفرعها الماركسي • والوضعية في العلوم الإنسانية • والنيتشوية التي جعلت كل المعرفة مردودة إلى “سرديات”. فثلاثتها تقول بالمطابقة إما مع القول بوجود حقيقة يردونها إلى ادراكها، أو بنفي ما وراء الإدراك “المبدع” للسرديات. فنفي ما وراء الإدراك قول بالمطابقة بين السرد والمسرود الذي لا مرجعية له خارج السرد وحتى الفرق بين السرد والمسرود فهو من حيل السرد حتى يبقى فيه ما يوهم بكونه معبرا عن شيء تعبيرا “موضوعيا” وخاصة في عالم القيم -والحقيقة قيمة من القيم-التي هي حيل الإنسان لتزيين عالمه بلغة نيتشة. وأساس هذه الآفات خدعة المنطق الجدلي الهيجلي. فبه أعاد الفلسفة الحديثة إلى علم الكلام الوسيط، وعلى اساسه يصبح القول بالمطابقة جسرا ضروريا لنفي الفرق بين الإدراك والوجود والخلط بين الذاتي والموضوعي بإطلاق وليس بإضافة بمعنى توهم الإدراك المجمع عليه أو “ما بين الذوات” هو عين الوجود. وطبعا فهذه الرؤية متناقضة بالجوهر لأن المجمع عليه أو ما بين الذوات من معان مشتركة ليست مرجعيات وجودية موضوعية بل هي مرجعيات حضارية تتمايز بها الحضارات. ومن هنا التركيز في غاية المطاف على انغلاق الحضارات بعضها عن البعض ومن ثم نفي الكلي والقول بالسردية النيتشوية. وبعبارة أوضح، فإن مدار الإشكال هو ما بين هيجل ونيتشة من علاقات حميمة وخفية رغم ما يظنه الكثير من تناقض تام بينهما. والوصل يمر بالمنطق الجدلي الذي لا يمكن أن يفهم جيد الفهم من دون رد العلمي إلى الفني بالمعنى الإبداع الرمزي الذي يبدع موضوعه برده إليه فلا يبقى منه إلا الوجود الرمزي. فهذا هو شرط موت الله وتأليه الإنسان الذي يصبح خلاقا بـ”كن” وأمارا بـ”أريد”. فيكون الإنسان الأعلى هو عين الرب الذي يخلق عالما رمزيا لا يعبر عن عالم غير رمزي إذ هو خلق عن عدم تماما كما يقول علم الكلام الذي عاد إليه هيجل في محاولته تأسيس منطق الجدل وحلول الله في الإنسان برمز المسيح.
وبأوجز عبارة، يمكن القول إن الفلسفة انتهت وأصبحت علم كلام جديد يشغل فيه الإنسان ما كان يشغله الله في علم الكلام القديم. وهي إذن قراءة صوفية للدين وللفلسفة أنهتهما وجعلت جوهر الفكر هو ما يمكن مقارنته بنسيج رتيلاء توجد شروط وجودها وحتى ذاتها فتكون “كاوزا سوي” أو وحدة وجود أناسية. وبذلك فإن العلاج الشافي سيكون بالسؤال عن الغاية الأساسية للمنطق الجدلي: إنها تجاوز غاية الاختلاف بين الموجودات ببيان الوحدة حتى بين المتناقضين ومن ثم يمكن أن نثبت كل ما نريد فنستغني حتى عن الحاجة إلى الاحتكام إلى التجربة الطبيعية في علوم الطبيعة أو الروحية في علوم الإنسان. ذلك أن المنطق الذي لا يقول بذلك هو الذي أدى إلى المقابلة بين حدين مطلقي الفرق الوجودي والكياني هما الظاهر والباطن أو موضوع الإدراك الحسي وموضوع الإدراك العقلي. فتمييز المعقولات (النومان) والمحسوسات (الفينومان) لا يكفيان لتأسيس التمييز الكنطي الشيء في ذاته لولا عدم التناقض. فالقول بمبدأ عدم التناقض عامة عندما يطبق على المقابلة بين الضرورة شرط النظر وعلوم الطبيعة والحرية شرط العمل وعلوم الإنسان (تسمى بالألمانية علوم الروح) هو الذي فرض على النقد الكنطي أن يميز بين الفينومان والنومان وبين شروط النظر وشروط العمل، ولم يخرج هيجل من ذلك غير منطق الجدل. وليس بالصدفة أن سمى هيجل كتابه المؤسس لمنطق الجدل “فينومينولوجيا الروح” قاصدا دلالتي الكلمة في الألمانية لأنها تعني العقل والروح في آن، ومن ثم الفلسفي والديني كذلك، ولكن ليس مع المحافظة على ما بينهما من اختلاف الرؤى بمحو الفرق وجعل العلم محيطا فيهما كليهما بوحدة الفينومان والنومان.
وفي الحقيقة، فمن يغوص في نظرية هيجل، فإنه لا يوجد نومان وراء الفينومان، كما لا يوجد عالم وراء هذا العالم، ومن ثم فتاريخ الفلسفة وتاريخ الدين شيء واحد، وكلاهما يرد إلى تاريخ الإنسانية من حيث هي الروحي يتحقق أو الموضوعي يتروحن والروحي يتوضعن. ويبدو فيه شيء من تحرير الإنسان من الفصام. وبهذا المعنى، يصبح منطق الجدل هو عين ما كان يسمى بالميتافيزيقا، وهو في الحقيقة ميتاتاريخ الإنسانية من حيث هي صيرورة الروح واعيا بذاته ومتصالحا معها، ومن ثم تجاوز المقابلة الكنطية بين النظري والعملي وبين التاريخي والطبيعي وبين مثل الأخلاق العليا وما يجري في الوجود الفعلي كأمر واقع. فإذا أزلنا الفرق بين الواجب والواقع، فصار كل ما يحصل واجبا، صار التمييز بين الممكن والواجب وكذلك بين الممكن والممتنع وكذلك بين الممتنع والواجب أمورا ذاتية لا يعترف بها ما يحدث في التاريخ تماما كما لا يعترف بها ما يحدث في الطبيعة. فنسمي حرية مجرى الأشياء بمنطقها وبمدى قدرتها. وما كان ينسب إلى “إرادة” الله في الأديان وينسب إلى “ضرورة الطبيعة” في العلوم، صار من طبيعة واحدة لأن نظرية وحدة الوجود الطبعانية كما صاغها المتصوفة وسبينوزا تجعل الطبيعة في الفلسفة والتصور هي التي تؤدي وظيفة الله في الأديان. وهيجل اراد أن “يذوت” وحدة الوجود السبينوزية. وقد اصطلح على ذلك بما سماه الانقال من الرؤية الجوهرانية إلى الرؤية التذويتية للجوهر بجعله ليس مجرد موضوع خارجي، بل هو عين فعل الروح أو حيوية العقل والروح لأن “الله” حال في العالم وفي ذروته أو الإنسان والمثال هو المسيح. والغاية تعليل التثليث بوصفه أسمى حقيقة فلسفية ودينية.
والكثير يظنون أن في ذلك تشريف للإنسان ورفع من مقامه. لكنه تشريف مغشوش لأنه مبني على فرضتين كلتاهما مخادعة: • فعلم الإنسان غير مطابق ومن ثم فما يستنتجه هيجل علته إطلاق النسبي المؤدي إلى تنسيب المطلق • وعمل الإنسان ليس مطلقا ومن ثم فخرافة مكر التاريخ رؤية سحرية لمكر الله. ذلك أن مكر التاريخ يعني إضفاء الغائية على ما يحصل من دون أن يكون بقصد من الفاعل الإنساني دون أن ينسب إلى الله كالحال عند المتدين. فينسب إلى “التاريخ” وكأنه فاعل بمعنى ما يفيده هيجل بـ”العقل” في التاريخ. وهذا العقل في التاريخ إذا لم يكن عقل الفاعل الإنساني وعقل الله في رؤية المؤمن.
وختاما، فخرافة “العقل” في التاريخ أو “اليد الخفية” هي التي ينبني عليها اعتبار الضرورة غائية والتحرر من وجود ما يتجاوز الطبيعة ويعجز الإنسان عن بنائه على الغائية القصدية والواعية في عمل الإنسان. فالديموقراطية واقتصاد السوق كلاهما مبني على خرافة “اليد” الخفية أو التعديل الذاتي.