كاريكاتور النخب، أو جامية التحديث وجامية التأصيل – الفصل الثالث

**** كاريكاتور النخب أو جامية التحديث وجامية التأصيل الفصل الثالث

كل الامر مبني إذن على وهم أنه يوجد مبدآن: • سالب • وموجب منفصلان عما يدول حولهما ويتفاعلان بصورة صدامية ينتج عنها مبدأ ثالث هو حصيلة هذا الصراع وهي حصيلة دائمة في تصاعد لولبي ينتج كل ما عدى المبدئين تكرار لهما ولنفس المعركة الصدامة إلخ… والتحليل يبين سطحية هذه الآلية وينفي وجودها. وحتى أبسط الظاهرة، فسآخذ أمثلة من النبات والحيوان والإنسان بوصفه حيوانا عاقلا ثم أعود إلى ما دون الحياة من الكيمياء والفيزياء، وكلها لا تقبل التحليل الثنائي والصراعي الذي يرتقي إلى تجاوز التنافي بمبدأ ثالث هو التجاوز أو الآوفهيبونج. الغاية مضاعفة: ليست العلاقة بين زوجين ولا صدامية. وليكن مثالنا النباتي -الدرجة الأولى من الكائنات الحية. فهل التلقيح بين زوجين؟ وهل هو صدامي؟ أم إن فيه عاملين أثنين آخرين هما الرياح أو كائنات حية اخرى تنقل المؤثر الذكوري منه إلى المؤثر الأنوثي ليحصل التلاقح؟ ولو أخذنا التين المذكر ألا ينبغي نقله للمحتاج إلى التذكير هل يوجد تين؟ تدخل الرياح والنحل والإنسان في التلاقح بين المبدأين الذكري والأنثوي يجعل العملية أكثر تعقيد من العلاقة الزوجية بين مبدأين ويستثني الصراع من العملية تماما لأن الريح والنحل والإنسان لو تصارعت أو انعدم أحدها لاستحال التزاوج في بعض التلاقيح الضرورية للإثمار.

نمر الآن الدرجة الموالية من الكائنات الحية. ما نلاحظه في الحيوانات حيث يبدو الأمر وكان فيها صراعا ومقصورا على الزوجين. وهذا أيضا من التبسيط. فالصراع ليس بين الذكر والانثى بل بين: • الذكور على الإناث • والإناث على الذكور وليس فيه سالب وموجب، وثانيا الغاية ليست الإنجاب، بل تجويد النوع. • فالإناث يتمنعن لاختيار الأقوى • والذكور ربما لنفس الغاية وربما الأقوى والاجمل. وهو إذن ليس صراعا، بل هو أقرب إلى المفهوم القرآني “التسابق في الخيرات” بمعنى أن التعدد شرط في الاختيار والمفاضلة وليس أمرا ثانيا، لكأن العلاقة هي بين المبدأين ذكر أنثى. لا صراع بين الجنسين بل تكامل.

وكان يمكن أن أقف عند هذا الحد فلا أمر إلى الإنسان لو كان القصد بيان خطأ حصر الامر في الزوجين الممثلين للموجب والسالب (رغم أني لا أفهم كيف يمكن وصف أحد الزوجين بالسلب في حين أن دورهما متماثل في تحقيق الثمرة وليس أحدهما مثبت والثاني ناف لها). لكن تعميم ما هو ممكن للإنسان هو العلة. فالإنسان لا يكتفي بالتسابق في الخيرات الذي وصفنا عند الحيوان والنبات، بل هو يضيف مستوى آخر يمكن أن نسميه مستوى التنافس على الأخيار بالشرور. فالإنسان لا يكتفي بما هو شبه غريزي مثلا فيختار من أجل تحسين النوع كما يفعل الحيوان، بل من أجل منافع في العادة اقتصادية واجتماعية. فالإنسان لا يكتفي بما هو غريزي، بل هو يتنافس من أجل هذا الهدف أولا وبوسائل لا تسعى إلى الهدف مباشرة، بل تعسى إلى منع الغير من الوصول إليه قبله وهو معنى التنافس على الأخيار بالشرور الذي يختلف عن التسابق في الخيرات. ومن هنا يأتي الصراع والإجرام في العلاقة بين الناس. والعلة هي أن الإنسان حر يختار بين الخير والشر. لكن حتى في هذه الحالة فالتنافس ليس بين فردين وليس بين فردين من جنسين مختلفين، بل هو بين مجموعتين وفي الغالب في كل جنس على حدة للحصول على الغاية. فغالبا ما يكون الأمر علاقة بين اسرتين فأكثر تتنافس مع مصاهرة ذي جاه ومال. لو كان ذلك موجودا في المستويات الدنيا من حياة الحيوان لما قلت إن منطق الجدل علته تعميم الذاتيات الإنسانية على الوجود وحتى هذا فيكون بسبب التبسيط. وأوضح مثال خرافة الصراع بين السيد والعبد لكأنها معركة بين فردين وليست نظاما حضاريا له علاقة بحيازة القوة والمال والعدد الديموغرافي. المشكل ليس مبارزة بين شخصين ولا بين مبدأين أحدهما موجب والثاني سالب، بل هو نظام أساسه ديموغرافي لما كانت القوة بالعدد خاصة والسبق في حيازة السلاح والمال. السيادة والعبودية ليست مسألة جدلية بل هي مسألة قانونية واجتماعية تتعلق بعلاقات البشر في السلم الاجتماعي بمعيار القوة والمال، فيكون المنطق هو منطق البنى المعقدة وليس منطق التقابل بين الموجب والسالب والتأليف بينهما. والتفسير يكون باكتشاف البنى المعقدة وليس بالتبسيط إلى مثلث الوجود في ذاته ولغيره ولذاته، وهي كلها مفهومات اسقاطات لأحد إمكانات العلاقة بين البشر على مقابلها الوحيد في بقية الموجودات السوية. فلا يوجد عاقل يعتقد أن الهيدروجين والأكسيجين أحدهما موجب والثاني سالب، والماء هو حصيلة تجاوز التناقض بينهما في آوفهيبونج هيجلي. وقس عليه كل المؤلفات الكيمايوية. صحيح أن هيجل يستعمل خرافة المقابلة بين القطبين الموجب والسالب في المغناطيس، لكن حتى هذه ناتجة عن التبسيط. فلا شيء يثبت أن المؤثر هو القطبان وحدهما فتكون علاقة بين مبدأين، إذ كل النظام في العالم هو الذي يفسر هذه الظاهرة وقد لا يكون للمغناطيس نفس هذه الخاصية لو خرجنا من نظامنا الأرضي أو الشمسي. ولا شيء في العالم يجري بمعزل عن بقية نظام العالم، وإن كنا نحتاج للفصل بين الأشياء بالتجريد. والمعلوم أني أرفض أن استمد قوانين علمية من القرآن تنزيها للقرآن عن التاريخية ولا علم عندي ليس تاريخيا بمعنى أن نظرياته متطورة بتطور أدوات إدراكنا لمعطيات التجربة ولإبداع أدوات التعبير عنها بالنماذج الرياضية. لكن نظام العالم وقوانينه العامة ليس علوما، بل هي رؤية وجودية فوق التاريخ. وقد اضطررت للإشارة إليها للرد على الإسلاميين الذين يتكلمون على التدافع وهو ترجمة غبية لمنطق الجدل بمعنى أنهم يفسرون التاريخ الإنساني بالصراع بين البشر المؤثر فيه هم البشر المتصارعون وهو معنى المشاركة في المصطلح. لكن القرآن لا يتكلم على تدافع بل على دفع الله الناس بعضهم ببعض. لو كان التاريخ ثمرة التدافع لما بقي لله دور ولقلنا بالجدل الهيجلي ولاحتجنا إلى مكر التاريخ واليد الخفية التي تضع غائية بدون عقل إلهي محيط بالخلق وبعلمه. لكني أعتقد أن نظام الطبيعة نفسه لا يفسر نفسه، بل لا بد له من مبدأ متعال عليه لان كل علاقة فيه تفترض بقية العلاقات كلها. وذلك أمر لا يمكن أن يكون وليد الصدف لاستحالة تصور ذلك بمقتضى القوانين الرياضية (التواليف الممكنة لا متناهية واختيار أحدها يقتضي الإحاطة باللامتناهي المطلق وهو مستحيل عقلا على غير الخالق) لذلك فكل شيء في العالم متضامن مع كل شيء فيه، وله نظام واحد لا يكتفي بعلاقة بين مبدأين متنافيين.

وأهم مبدأ في علوم الطبيعة سخيف إذا لم يكن فرضية للستاتيك أو للتوازن المفروض قبل الحركة. فلو كان كل فعل يقابله رد فعله بمقداره وباتجاه مقابل، لامتنعت أي حركة لتوقف التفاعل بين الفعل ورد الفعل. فيكون العالم في “برا دو فورس” ثابت لا يتغير. لذلك فهذه فرضية للستاتيك وليس حقيقة علمية.

الانتقال إلى الديناميك وهو حاصل في العالم، يعني أن هذا المبدأ الستاتيكي أو السكوني يفترض كبداية، لكن الخروج منه يقتضي تدخل مبدأ آخر هو القوة وهذه هي التي تغير العلاقة بين المبدأين المزعومين في الفعل ورد الفعل المتساويين مع الفرق في الاتجاه. وهذا التدخل ينتج عن دور نظام العالم كله. ورأينا أن نظام العالم متضامن العناصر اللامتناهية، ومن ثم فما يحصل هو الفعل ورد الفعل ونظام العالم والتضامين بين عناصره والقدرة الخارقة التي تستطيع أن “تهندس” هذا النظام الذي لا يمكن تصوره وليد الصدفة وإلا فعلينا أن ننفي كل ما فيه من الأنظمة فيكون سحرا ومعجزات في غياب صاحب الغايات.

وبذلك يتبين أن الذين يزعمون الاستغناء عن الرؤية الدينية يعوضونها برؤية سحرية، فيصبح لكل نظام حتى لو كان جزئيا “يد خفية” ينسب إليه ما فيه من غائية تتحقق بلا قصد كما يزعم في قانون السوق وفي الديموقراطية. والممارسة تبين أن اليد ليست خفية بل هي ما سميته التنافس على الاخيار بالشرور. فلا أحد يجهل أن ما يحدث ليس بالصدفة ولا بيد خفية تريد الخير للإنسانية، بل هو مخطط له من قبل أهل الاحتكار في السوق والمافيات المالية والاعلامية في الديموقراطية. وهكذا ينفون القدرة العاقلة والخيرة ويعوضوها بكذبة تمكن من تمرير الغش النسقي في الأسواق وفي الديموقراطية ألاعيب مافياوية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي