كاريكاتور النخب، أو جامية التحديث وجامية التأصيل – الفصل الأول

**** كاريكاتور النخب أو جامية التحديث وجامية التأصيل الفصل الأول

تمكنت اخيرا من اكتشاف العبارة شبه العلمية عما سميته الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي من نخب العرب خاصة والمسلمين عامة. وسنرى أن هذه العبارة تبين التماثل بينهما، ورغم ما يبدو من تقابل وتضاد في موقفيهما هو علة ما بينهما من صراع دونكيخوتي هو سر الحرب الأهلية الدائمة لدينا.

ولأبدأ بكاريكاتور التحديث لأنه هو الذي يسيطر على الحالة الرسمية لكل أوجه الحياة في البلاد العربية إذ بيده أدوات الحكم والمعارضة في آن، في حين كاريكاتور التأصيل ليس بيده من الحكم شيء، ومعارضته شبه مستحيلة من دون أن تصبح مسلحة لمنعه من الوجود السلمي بسبب دور الأول وسنده العالمي. وقولي إن كاريكاتور الحداثة يجمع بين الدورين: • العائد إلى الحكم بالفعل • والعائد إلى الحكم بالقوة أو المعارضة قد لا يبدو معقولا. لكنه حقيقة. فالسند أو الحامي الاستعماري يحتاج دائما بدائل من جنسهم حتى يزايد بعضهم على بعضهم في إرضائه والتجسس على خصيمه شرطا في استقرار سلطانه عليهم جميعا. وقد يستعمل أحيانا بعض الكاريكاتور الثاني، وهم جامية الإسلام، الذين يستعملهم الحكام للحرب على الحركات الإسلامية باسم الإسلام، وهو ما يجعله الحكام الخادمين لحاميهم جزءا من استراتيجيته يسيطرون على الكاريكاتورين في دور الأداة المانعة من الانتقال إلى التحديث والتأصيل غير التابعين. وما يثبت توظيف الكاريكاتورين هو لقاء “فلاسفة” الحداثة الخلقية اللامبالية بالسياسة والدنيا و”متصوفة” اسلام اللامبالاة بعضهما في كاريكاتور مجسد لوحدتهما بالتعالي الزائف الذي يدعي التعقلن والتروحن. وهما كذبتان على الأخلاق: • فلا فلسفة دون وصل النظر بالعمل • ودين دون وصل العمل بالنظر. وأكثر من ذلك، هو أن التعالي المزعوم فلسفيا على العمل والسياسة هو موقف الجبناء، وهم أشد الناس تبعية للأمر الواقع والطمع في الاستفادة منه. كما أن التعالي المزعوم صوفيا عليهما هو موقف أشد الناس طمعا في الاستفادة من الأمر الواقع. كلاهما جامية الطابع والطبع، وهم أرذل خلق الله في كل العصور. ولا أحتاج لتسمية أحد، فالوصف تعريف كاف لمن له دراية بالساحة الفكرية العربية، كما لا أحتاج لإثبات أن الفلاسفة بحق والمتصوفة بحق كانوا من قادة النظر والعمل في حالة الفلاسفة، ومن قادة العمل والنظر في حالة المتصوفة. ومن كان جبانا من الاولين وجاميا من الثانين معلومون للجميع. فعند اليونان لا أحد ينكر دور أفلاطون وأرسطو السياسي والخلقي وخاصة أستاذ الجميع سقراط. أما النظر فلا شك أنهم ثلاثتهم معلوم الإنسانية كلها تمثيلا للمعرفي والقيمي (الابستيمولوجي والأكسيولوجي). وعندنا، وخاصة في اللحظات الحرجة من تاريخنا من قادة المقاومة، هم في الغالب فقهاء ومتصوفة.

لا يوجد فيلسوف كبير في التاريخ لم يعتبر النظر هدفه الأساسي هو العمل، ولا يوجد متصوف كبير في التاريخ لم يعتبر العمل هدفه النظر. والفرق بينهما هو التقابل بين البداية والغاية، وهو الفرق الجوهري بين الرسل والفلاسفة. لكن لا يمكن تصور النبي عاملا ثم ناظرا والفيلسوف ناظرا ثم عاملا. كلاهما شرطه أن يكون جامعا بين النظر والعمل سواء ظهر فعله بتقدم هذا على ذاك أو العكس. لكن الفعل الإنساني إذا كان عملا فهو عمل على علم، وإذا نظرا فهو نظر بعمل. فهو تجسد المعرفي والقيمي بوصفهما تعين الإثمار في الثمرة. كلاهما أثمر عقله ووجدانه في ذاته ثم تحولا إلى فاعلية إثمار للإنسانية. والخلقي فيهما متعين بوصفه اثر الإبستمولوجي في الأكسيولوجي عند الفيلسوف، وهو الجمع بين الحقيقة والحق (التواصي بالحق إذ يتحول إلى تواص بالصبر) أو أثر الأكسيولوجي في الإبستمولوجي وهو الجمع بين الحق والحقيقة (التواصي بالصبر يتحول إلى تواص بالحق)، فيكون في الحالتين إيمانا وعملا صالحا. أما الكاريكاتوران، فهما جامية تدعي التفلسف أو تدعي التصوف أو تجمع بينهما جمعا هو ذروة الكذب المطلق والنفاق الذي لا حد له. ولما كنا في لحظة من تاريخنا “فسدت فيه معاني الإنسانية” بالمعنى الخلدوني، فإن كل هذه المعاني الموجبة تنقلب إلى عكسها فلا يبقى من الأشياء إلا أسماؤها.

وبذلك تكون الاستقالة التاريخية تأييدا للانحطاط التاريخي وخدمة للأمر الواقع توهما بأن المعرفي ممكن من دون الخلقي، والخلقي ممكن من دون المعرفي فيكون الكاريكاتوران تأصيلا وتحديثا بالأقوال دون الأفعال، وتزول كونية القيم التي من بينها قيم النظر أساسا لكل فلسفة، وقيم العمل أساسا لكل تصوف. وحينها لا يبقى إلا القيمتان الاقتصاديتان وهما أدنى معنى القيم لأنها تتعلق بالتبادل النفعي ولا تتعلق بالتواصل الروحي بين البشر أولا، ثم بينهم وبين الوجود نفسه باعتباره جوهر الحياتين العلمية والخلقية وبهما تتحدد منزلة الإنسان الفعلية. الكاريكاتوران يتاجران بالأصالة والحداثة. والتجارة بحاجة إلى سوق نافقة. والسوق النافقة هي ما يحتاج إليها “أولوا أمرهم” في الداخل وسندهم في الخارج: • فالكاريكاتور المتاجر بالأصالة يحتاجه الحاكم في خطابه لمن يتصورونهم عامة: الجامية الدينية. • والكاريكاتور المتاجر بالحداثة يحتاجه في خطابه لمن يتصورنهم خاصة: الجامية الفلسفية فللكاريكاتورين نفس الوظيفة واختلافها بنوع المخاطب: فالحكام العملاء يحتاجون لخطابين: • أحدهما موجه إلى الداخل • والثاني إلى الخارج. يحتاجون إلى كاريكاتور التأصيل لمخاطبة الداخل بالجامعة الدينية ويحتاجون إلى كاريكاتور التحديث لمخاطبة الخارج بالجامية الفلسفية. وكلتاهما نقيض الدين والفلسفة. ما المعادلة التي تبين البنية العميقة الواحدة لهذين الجاميتين والكاريكاتورين؟: • في المعادلة حدان أقصيان، كل واحدة منهما تدعي الكلام باسم أحدهما وهم العلم الفلسفي والأخلاق الدينية. • والتحديد يدعي استنتاج الخلقي من العلمي والتأصيلي يدعي استنتاج العلمي من الخلقي الديني.

يبدو الأمر سليما لأن الفلاسفة حقا يستنتجون الخلقي من العلمي، والمتصوفة حقا يستنجون العلمي من الخلقي أربعة مقومات: • حدان بداية للطرفين • وثم غايتا تفاعلهما من حد إلى حد في الاتجاهين. إذن: 1. علم 2. وخلق 3. وفعل العلم في الخلق أو ثمرته القيمية 4. وفعل الخلق في العلم أو ثمرته المعرفية. إلى حد الآن لا شيء يمكن أن يعاب على الرؤيتين. فهذه العناصر الاربعة هي فعلا مقومات الفلسفي والديني المشترك رغم تقابل الاتجاهين من المعرفي إلى الخلقي عند الفيلسوف، ومن الخلقي إلى المعرفي عند المتصوف. وقد اخترت هذين الاسمين لأن: • الأول هو رمز التمحض للعلم • والثاني رمز التمحض للأخلاق. إذا كان ذلك كذلك، فأين المشكل إذن؟ لماذا سميت هذين النوعين من النخب كاريكاتورين وهما يتنزلان في المعادلة السوية للعلاقة بين الابستيمولوجي والأكسيولوجي؟ للأمر علتان عميقتان يفسران اختياري لكلمة كاريكاتور وصفا للصفين. فالكاريكاتور حقيقته أنه فن رسم النسخ المشوهة لأصل. وهذا الفن عندما يكون فنا حقيقيا، يكون في خدمة الحقيقة لأن الرسام الكاريكاتوري يهدف إلى إبراز التشوه في الموجود بالقياس إلى المنشود، أو بينا ما في الموجود من تزييف له سواء تعلق الأمر بالصفات الخلقية (تشويه من يتنكر بتجميل نفسه) أو الخلقية (تشويه من ينافق في الاخلاق العام). لكنه في الحالة التي ندرسها يعمل العكس تماما، إذ هو يقبح الجميل ويجمل القبيح. وهذا أيضا فن كاريكاتوري لكنه في خدمة الباطل علما وأخلاقا. وهو إذن من أدوات السياسة التي تحتاج إلى الخطابين اللذين وصفت أو الجامية الدينية لتنويم الشعب والجامية الفلسفية لإرضاء سيدهم وحاميهم الغربي. ولست أدعي أنهم غير واعين بأنهم يكذبون وبأنهم ينافقون وبأنهم نفعيون. ليسوا غافلين على أنهم مرتزقة للمحافظة على الأمر الواقع بمقابل يدفعه لهم حكام المحميات العربية لتحقيق هاتين المهمتين في الداخل والخارج. لكنهم مع ذلك يجهلون علة الإيهام بمتانة موقفهم جهلا فعليا وليست تجاهلا نفعيا. فالكثير منهم إن لم يكونوا كلهم لا يخطر على بالهم أن رؤيتهم للابستيمولوجي والأكسيولوجي بصرف النظر عن الاستعمال، هي أصل الداء ودليل الغباء في كل ما ينتج عن جاميتهم من بلاء. فهم كما بينت يستعملون الكاريكاتور بمعناه الثاني لجهلهم بمعناه الأول: لا يخدمون الحقيقة والحق، بل العكس تماما. يشوهون الاصل المعرفي والاصل القيمي ولا يدرون علة ذلك حتى عندما يدرون بغايته. هم يعلمون أنهم يشوهون الاصل حتى بالاعتماد على حد علمهم بالمعرفي والقيمي لعلمهم بأن ذلك يحقق غاية منافية لما يدعون أنه يحققه. يعلمون مثلا أن الحكام ليسوا في خدمة الشعب حريته وكرامته ومع ذلك يطبلون لهم. والعلة العميقة التي يشترك فيها الكاريكاتوران هي رؤيتهم للعلم وللقيمة. • فالأولى عندهم أساسها عدم التمييز بين المعلوم والموجود أو القول بالمطابقة • والثانية علتها عدم التمييز بين القيمة الاقتصادية والقيمة الخلقية. وإذن فالمشترك بين الكاريكاتورين هو كاريكاتور المعرفي وكاريكاتور القيمي.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي