قلة الحيلة علامتها الارتجال التكتيكي

ه

زعم أحد الباحثين عن موقع بين النخبة السياسية التي لفظته لفظ النوى بعد أن أفلس تماما ولم يعد أحد “يصفر” عليه – رغم ادعائه الاختصاص في القانون والتحليل الدستوري – أن الطريقة الوحيدة للتغلب على قيس سعيد رئيسا يتمثل في اسقاط النهضة في التشريعية. ولعله يرد على ما هو أسخف من هذه الاستراتيجية في الارتجال التكتيكي المتمثل في دعوة الناخبين للتصويت للنهضة بحجة أن قيس سعيد من دونهم لن يستطيع شيئا.
ففي كلتا الخطتين من الرؤية السلبية لدور القوى السياسية ما يحولها إلى مجرد أدوات حكم للحكم أو معارضة للمعارضة فلا تبقى الأحزاب تعبيرا عن قوى سياسية هي تنظيمات للنظر والعمل من أجل تحقيق برامج إيجابية خاصة بها هي علة وجودها بداية وعلة بقائها غاية إذ من دون هذه البداية والغاية لا معنى للحكم أو للمعارضة.

  1. فعندما تصبح النهضة تعلل الحاجة إليها بدورها في حماية الرئيس المتوقع – حتى لو اعتبرنا ذلك ظرفيا – فينبغي أن نفترض أنها تؤمن بصلوحية برنامجه وتبنيها له. لكننا لا نرى ما المشترك بين برنامجه وبرنامجها. فهي تدعي المحافظة على الدستور والمسار الديموقراطي والدولة وهو يطلب عكس ذلك كله.
  2. وعندما تصبح معارضة الرئيس المتوقع تعلل موقفها منه بمنعه من أداء دوره فينبغي أن نفترض أن صاحب هذه الدعوة يؤمن بخطر برنامجه. لكنه لم يبين فيم يتمثل الخطر والبرنامج البديل الذي يحقق لتونس ما يمكن أن يعتبر قارب النجاة الذي يريد حمايته بهذه الخطة.
    وهذا الموقف الثاني المعارض قد أفهمه ردا على ذاك الموقف الأول ولا شيء غيره. وهما يفيدان نفس الرؤية. فمن يقول إن منع سعيد من تحقيق ما ينوي تحقيقه يقتضي منع النهضة من النجاح في التشريعية يعني أن وصول النهضة إلى رأس السلطة التنفيذية الاساسي -القصبة- يجعل رأسها الثانوي -قرطاج- مطلق العجز في تحقيق برنامجه لكأنه يتصور وحدة البرنامجين. ومن ثم فهما عنده من نفس السلة.
    وهذه الحجة علتها عين علة الحجة الأولى لأن من يقول إن شرط نجاح قرطاج هو حصولنا على القصبة يعني أن سعيد من دونهم عاجز. ومن يدعي أن إسقاط النهضة أسقاط لسعيد أو على الأقل تعجيز له دون تحقيق برنامجه يعتقد أن الحرب ليست على سعيد وحده بل تقتضي الحرب على النهضة كذلك.
    لكن ذلك دليل على أن الموقفين من أسخف ما سمعت. وهو أسخف على لسان النهضة منه على لسان خصمائها لأن قولها هذا يعني أنها في فرضية نجاح القروي في الرئاسة ونجاها في التشريعية ستكون مثل القائل بتعطيل الرئيس: فهل ستعطل الرئيس إذا صحت الفرضية؟
    ولم أسأل خصمائها لأنه من المفروغ منه أنهم سيعملون مع القروي إذا نجح في الرئاسية ونجحوا هم في التشريعية.
    وإذن فهم أقل تناقضا من النهضة.
    لكن هذه الفرضيات كلها عديمة المعنى ولا محل لها من الإعراب لأن سعيد لا ينوي العمل مع المؤسسات أو بالمؤسسات بل هو سيعمل بالشارع ضد المؤسسات أو بتنظيمات أخرى لم تظهر بعد وقد تكون هي بدورها طامحة لتحصيل أغلبية في البرلمان بائتلاف ما يزال طي الكتمان. وما يتبين من تصريحاته وتصريحات فيلسوفه الماركسي الذي تدرب في الخليج وبعض المتكلمين باسمه وحتى هو نفسه قبل التعديل التكتيكي في تصريحاته الأخيرة: خياره هو العمل بشرعية الشارع وليس بالشرعية البرلمانية.
    فخيار الشارع أداة سياسية فعالة جربته القوى السياسية سابقا ضد الترويكا ونجحت فيه نجاحا كبيرا في جعل المؤسسات طاحونه بلا طحين بالعربية بسبب “الطحين” بالتونسي الذي سيطر على التعامل مع الوضع لكأن الحكم صار غاية في حد ذاته.
    فعندما يكون المتوقع هو تكرار ما حصل مع الترويكا ولكن هذه المرة بحجم أوسع وأكثر تأييدا من شارع يائس عاف السياسيين الذين تعلموا الحجامة في رؤوس اليتامى أو العائدين من الانتفاعيين في النظام القديم يمكنه بأهداف واضحة أصبحت الاشكالية فيها متعلقة بالانتقال من “الشعب يريد إسقاط النظام” إلى “الشعب يريد إسقاط الدولة” وتغيير شكلها الديموقراطي بشكل أقرب وصف له نجده في الكتاب الأخضر أو في السوفيات وكلاهما مستحيل من دون دكتاتورية قذافية وستالينية فإن الكلام على خدمة برنامج سعيد بالقصبة أو إيقافه بها يعني عدم فهم ما يجري أو ادعاء عدم فهمه والسعي لمغالطة الناخبين.
    وعلى كل فإني حقا لم أعد أفهم ما عليه حال القوى السياسية في تونس – ولعل ذلك لأني أتذاكى على حد قول بعض الاذكياء – ولا خاصة الطريقة التي يفكر بها من يزعمون الامر متعلقا بالخيار بين مافيوية القروي وملائكية سعيد بمعنى طرح المشكل على المستوى الخلقي بمعزل عن سنن السياسة أو على المستوى السياسي بمعزل عن المعايير الخلقية لكأن الفصل بينهما صار الآن البديل مما كان يسمى الفصل بين الدين والسياسة عند كاريكاتور الحداثة من نخب العرب.
    في الحقيقة ما يجري هو أننا أمام سياستين لكل منهما أخلاقها. وما يخفى هو أن المقابلة ليست بين الأخلاق واللاأخلاق بل هي مقابلة الخفاء والجلاء في طبيعة العلاقة بين الوجهين: المافيوزي الظاهر والمافيوزي الباطن أعني السيستام العالمي الذي يتجاهله الأذكياء أو يتجاهلونه لأن المتكلمين عليه متذاكون وليسوا أذكياء مثلهم.
    وقد كتبت في ذلك بحثا عنونته بالأبسيوقراطيا (الحكم باسم دين العجل باليونانية قياسا على الثيوقراطيا والديموقراطيا) أو نظام العجل الذهبي الذي له وجهان معلومان:
  3. وجه ربا المال ورمزه معدن العجل الذي صنع من ذهب.
  4. ووجه ربا الأقوال ورمزه خطاب العجل الذي جعل من خوار.
    لذلك فعندي أن القروي وسعيد هما عين خصائص هذا النظام وهما كذلك أفضل ما يمثل صفات الشعب التونسي بل كل الشعوب العربية: فهم جميعا يبدون:
  5. في خوارهم مثل سعيد ملاك على وجه الأرض.
  6. لكنهم جميعا في معدنهم مثل القروي.
    فكلهم يعلمون أن كلامهم يصدق عليه قوله تعالى في مقت من يقول ما لا يفعل وتلك هي حقيقة من يتظاهر بالطهرية. فمن يجهل أن كل العرب في الاقوال أطهر من الملائكة؟
    وكلهم يصدق عليهم قوله تعالى في الحرب على الربا بالمعنى المعلوم وتلك حقيقة كل مطفف وكل غشاش وكل مرتش وكل راش. ومن يجهل أن كل العرب في الأفعال أفسد من ابليس؟
    ولا حاجة للمزيد عدا الإشارة إلى النبارة الذين يدعون الدفاع عن تجربة ما تجريبه خرب جل من حاولوه قبلنا فاعتبروا الأقوال أفعالا والنوايا أكثر من مجرد تبليط لجهنم. وآمل أن يكون توجسي من اوهام المتذاكين وأن يصدق الاذكياء الذين يأنفون من التذاكي ولو كان بغباء لا مثيل له.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي