“قرصة أذن” لدجالي الحداثة – الأخلاق: كنط وضمير مسلمات تأسيسها

**** “قرصة أذن” لدجالي الحداثة الأخلاق: كنط وضمير مسلمات تأسيسها

أسس كنط ما سماه الاستعمال العملي للعقل النظري على مسلمات ثلاثة صريحة، ومسلمتين ضمنيتين تكلم عليهما في نقد العقل العملي. فاستعمال العقل النظري الذي يعمل بمنطق الضرورة الطبيعية في علم الطبائع وفي علم الشرائع غير ممكن من دون ثلاث مسلمات تستثني الإنسان من الضرورة الطبيعية: 1. وجود الله 2. خلود النفس 3. حرية الإنسان. ومن دون المسلمتين الضمنيتين – لم يذكرهما كنط بين المسلمات لأنها من جنس مما يترتب عليها – كان يمكن أن يكتفي كنط بالمسلمة الثالثة وحدها. فلا حاجة لخلود النفس من دون الكلام على حياة ثانية. فمن ثوابت العلم الطبيعي أن النفس ليست خالدة في هذا العالم. ولا حاجة لوجود الله لأن العالم الطبيعي غني عنه لولا الحاجة لاستثناء الإنسان من الضرورة. وإذن فالمسلمتان الضمنيتان هما البعث (حيث الخلود) والحساب العادل (دور الحكم العادل أو الله) الذي يبدو معدوما في هذا العالم. وهذه المسلمات الثلاث (ومعها المسلمتان الضمنيتان) تعتبر عقائد في الدين، والعقد كما هو معلوم غني عن البرهان. لكنها مسلمات في الفلسفة لاستحالة البرهان عليها، ولأن الفلسفة لا تقبل ما ليس مبرهنا عليه بغير هذه الصفة أي التسليم الفرضي. ولهذه العلة اعتبر ما كان علم الكلام العقلي يدعي الاستدلال عليه مسلمات وليس حقائق عقلية قابلة للبرهان عليها (وجود الله وخلود النفس والحرية). وفي الحقيقة فالضرورة الطبيعية هي بدورها مسلمة حتى لو أيدتها العادة ودعمها الخيال الذي من عادته التعميم بإسقاط الماضي على المستقبل. وكذلك اعتبرها الغزالي مجرى عادات سابقا ثم تلاه هيوم. فالتشكيك في مبدأ السببية لا مخرج منه إلا بالتسليم بخلاف ما كانت تتوهم الفلسفة الوسيطة. وسأكتفي بإيراد زبدة تعليل كنط منقولا إلى العربية، ثم في نصه، حتى يتأكد القارئ أن أدعياء الحداثة ما زالوا نياما بغفلة كنط يغطون في عالم الدغمائية الميتافيزيقية. ومن حيث لا يعلمون، عكسوا فاعتبروا التاريخ الإنساني مقيسا على التاريخ الطبيعي وخاضعا للضرورة إذ تصوروا امكانية الكلام على الحرية الإنسانية من دون العقد أو الافتراض. لذلك فهم لا يستحون إذ يتكلمون على الحريات الفردية وينسون أنها من دون الدين أو على الأقل التسليم بالمعنى الكنطي مستحيلة التصور والوجود: النص مترجما:

“وهكذا فلا يمكنني أن أقبل بـ(وجود) الله والحرية وخلود (النفس) لصالح الاستعمال العملي للعقل النظري من ناحية أولى إذا لم أحد في نفس الوقت من مزاعم العقل النظري الهوجاء من ناحية ثانية. فمن أجل البلوغ إلى استعمال مبادئه ينبغي للعقل خلال تطبيقها بالتماثل على ما لا يمكن أن يكون موضوع تجربة ممكنة وهي في الحقيقة مقتصرة عليها يحوله دائما إلى ظواهر فيجعل كل توسيع لاستعمال العقل النظري خارج التجربة الممكنة غير ممكن. فكان علي آن انسخ العلم حتى أبقي مكانا للاعتقاد وأن أتخلص من الدغمائية الميتافيزيقية أعني من الحكم المسبق الذي يكون من دون نقده المصدر الحقيقي لعدم الاعتقاد المجادل ضد الأخلاق وهو في كل عصر جدل شديد الدغمائية.” النص الأصلي:

Ich kann also Gott, Freiheit und Unsterblichkeit zum Behuf des notwendigen praktischen Gerbrauchs meiner Venunft nicht einmal annehmen, wenn ich nicht der spekulativen Vernunft zugleich ihre Anmassugn überschwenglicher Einsisten benehme, weil sie sich, um zu diesen zu gelangen, solcher Grudsätze bedienen muss, die, indem sie in der Tat bloss auf Gegenstände möglicher Erfahrung reichen, wenn sie gleichwohl auf das angewandt werden, was nicht ein Gegenstand der Erfahrung sich kann, wirklich dieses jederzeit in Erscheinung verwandeln, und so alle parktische Erweitetrung der reinen Vernunft für unmöglich erklären. Ich musste also das Wissen aufheben, um zum Glauben Platz zu bekommen, und der Dogmatismus der Metaphysik, d.h. das Vorurteil, in ihr ohne Kritik der reinen Verunuft fortkommen, ist die wahre Quelle alles der Moralität widestreitenden Unglaubens, der jederzeit gar sehr dogmatisch ist » وواضح أن عالم الأخلاق في علاقته بعالم التجربة الخلقية لا يختلف عن عالم الرياضيات في علاقته بعالم التجربة الطبيعية. فالمسافة بن العالمين وفي الحالتين تشبه المسافة التي تفصل بين عالم المثل الأفلاطوني وعالم النسخ الحسية. فالعالمان المثاليان كلاهما مبني على تسليم افتراضي لا تؤيده التجربة إلا جزئيا. وأفلاطون لم يدّع أكثر من ذلك فهو لا يعتبر عالم المثل حقيقة مادية محسوسة بل يعتبره شرطا افتراضيا قد يصبح عقديا لفهم ما يجري في العالمين الطبيعي والتاريخي. والتسليم الافتراضي لا يعني التشكيك في “حقيقة” الموجودات الرياضية بالمقارنة مع الموجودات الطبيعية في الطبيعة ولا في “حقيقة” الموجودات الخلقية بالمقارنة مع الموجودات الخلقية في التاريخ. فهو تسليم بشروط إمكان الوجود والمعلومية: لا نستطيع القبول بوجود الأشياء الطبيعية والتاريخية من دون ما يضفي عليها المعقولية في الوجود في العلم بافتراض عال أسمى منها فيه مبادئها ونماذجها. وقد لا يكون في ذلك إشكال لو لم يكن بين العالمين المثالي و”الواقعي” وسيط محرج: هل قوانين الطبيعة وسنن التاريخ هي بدورها مسلمات أو حقائق فعلية؟ فلا يمكن للعقل الإنسان أن يدعي أن مسلماته الفرضية هي التي تحرك الأفلاك إذا لم تكن القوانين ذات وجود حقيقي يجعل الأفلاك مثلا تتحرك بالصورة التي تحددها القوانين الفيزيائية. هل القوانين الفيزيائية والسنن التاريخية مجرد مسلمات أو حقائق فعلية تفسر ما يجري في الطبيعة والتاريخ؟ 1. فعالم الكائنات الرياضية التي تبدو “مخلوقات” عقلية أو “مقدرات ذهنية” أو مثالية لا يعتبره أحد ذا وجود من جنس الوجود الطبيعي الخارجي أو له ما يطابقه فيه تمام المطابقة. لكنه يعتبر من شروط الكلام العلمي في الطبائع ومن شروط وجود النظام فيها. 2. وعالم الكائنات الخلقية التي تبدو “مخلوقات” عقلية أو مثالية أو مقدرات ذهنية لا يعتبره أحد ذا وجود من جنس الوجود التاريخي الخارجي أو له ما يطابقه فيه تمام المطابقة. لكنه يعتبر من شروط الكلام العلمي في الشرائع ومن شروط وجود النظام فيها. وقد سبق لابن تيمية أن تفطن لهذا التوازي عندما نفى وجود علم كلي في غيرهما. لكنه يميز بين المقدرات الذهنية الرياضية في المستوى الابستمولوجي فيسميها مقدرات ذهنية وما يجانسها في المستوى الأكسيولوجي والتي لا يعتبرها مجرد مقدرات ذهنية، بل هي عنده عقائد دينية فيسميها عقائد دينية. لكنه مع ذلك يعتبر المقدرات الذهنية الرياضية والمعتقدات الدينية مشتركتين في أمرين ينتجان عن حقيقة الكلية فيهما: 1. الأول أنها تختلف عن الموجود الخارجي سواء كان طبيعيا بالنسبة إلى “المقدرات” الرياضية في الابستمولوجي أو شرعيا بالنسبة إلى العقديات الدينية في الأكسيولوجي. 2. الثاني أنها هي الوحيدة التي يكون فيها العلم كليا ومحضا وضروريا وبرهانيا بخلاف علم الطبائع والشرائع التي توجد في العالم الخارجي والتي يكون علمها دائما نسبيا واستقرائيا بسبب الحاجة إلى النقل فيهما أي إلى المعطيات المستمدة من المضمون التجريبي سواء كان من الطبائع أو من الشرائع. فتكون هذه النسبة بين المقدرات الذهنية في الرياضيات وما يجانسها في الشرعيات من جهة، وبين العالمين الطبيعي والتاريخي من جهة ثانية، وكأن مسلمات التقدير الذهني في علوم الطبيعة ومسلمات التقدير العقدي في علوم التاريخ شرطان ضروريان للحصول على النظام العقلي الذي يبدعه الإنسان في الأولى والذي ينسبه إلى الله في الثانية ولا يستطيع أن ينسبه الإنسان إلى نفسه، حتى في الفلسفة، من دون أن يخرق انتظام قوانين الطبيعة فيستثني منها الإنسان. وهو معنى مسلمات كنط. لكن المقابلة بهذا المعنى غير مطابقة لحقيقة الإشكال إذ وضعناه بصورة نسقية وعدم قصره على تأسيس الحرية. فالضرورة هي بدورها ليست غنية عن التأسيس. وفي الحقيقة فالمشروع الكنطي هو محاولة لتأسيس الضرورة وبيان حدودها. ويكفي أنه جعلها بالجوهر ذاتية أي إضافية إلى الإنسان ومن ثم فهي لا تتجاوز عالم المظاهر ولا تتعلق بالأشياء في ذاتها. والمقابلة بين الأشياء في ذاتها والمظاهر هي بدورها قضية عقدية قلبت التسليم السابق الذي بدأت به الفلسفة وتمثل في الخلط بين مفهومين للعقل أو النوس: العقل بمعنى نظام الوجود والعقل بمعنى الإدراك أو الفكر الإنساني. فالقول بالضرورة الطبيعية هو بدوره مسلمة مثله مثل القول بالحرية الخلقية: كلتاهما مترددة بين كونها مسلمة عقدية أو مسلمة فرضية. وكلتاهما يمكن اعتبارها في مستواها النفسي مجرد عادة -كما يقول الغزالي وهيوم. فالإنسان لا يستطيع البرهان عليهما ولا يستطيع العمل من دونهما في علاقته بالطبيعة وفي علاقته بالتاريخ: فيتسلمهما إما عقدا أو فرضا. وأساس هذه العادة طبعا هو التجربة المعيشة التي تجعل الإنسان يسقط ما اعتاد عليه في الماضي إلى حد لحظة الاسقاط على المستقبل. وهذا الاسقاط يعد في الحالتين شرط البدء في النظر وفي العمل في آن. فلا يمكن أن أتصور الشمس ستبزغ غدا من الغرب وليس من الشرق، أو الإنسان سيصبح خالدا وليس مائتا. لكن اسقاط الماضي على المستقبل عقد وليس علما أو هو نفسيا مجرد إطلاق العادة التي سادت إلى حد لحظة الانتقال من الكلام على الماضي إلى الكلام على المستقبل.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي