المسألة الأولى : الغايات
ننطلق في تحديد الغايات من التعريف الأمثولي لمنزلة الإنسان الوجودية كما حددها القرآن الكريم باعتباره مرجعية المنظور السني لهذه المنزلة. وهدفنا تحديد هذا المنظور وفهمه وليس اقناع أحد به. فلست داعية ولا مبشرا بل أحاول فهم المنظور السني كما يحدده القرآن ويراه أي سني ربي تربية سنية في أسرة محافظة. والتربية المحافظة في المجال السني ذات مستويين ككل تربية محافظة في أي حضارة عريقة:
- الأول شعبي يغلب عليه الممارسة التقليدية للعبادات مع قدر من الخرافات له صلة بالتصوف في شكله المعتدل أو ما يسمى بالتصوف السني وهو قدر يبقى مع ذلك أقل مما عليه الأمر عند عامة الفرق التي انحرفت عن السنة.
- والثاني نخبوي ويقل فيه هذا المزيج لغلبة الفهم النقدي لكل التحريفات بحدين متناقضين ومتصارعين في التدين العالم عند نخب السنة.
- أولهما أشعري بداية ورازوي غاية. والأشعرية كادت تصبح في الغاية لاهوتا سلبيا في الأقوال وتخريفا شعبيا في الأفعال (لصلتها بالتصوف المتفلسف وحتى بالتشيع).
- والثاني بدأ حنبليا وانتهى تيميا وهو عكس الأشعرية: فأقواله شبه حشوية -لرفضه التأويل وأخذ القرآن بمعناه الحرفي- وأفعاله حرب على كل الخرافات التي نتجت عن الكلام والفلسفة والتصوف الفلسفي (والحرب خاصة على الوساطة والقبورية).
من مفارقات تاريخ فكرنا
وطبعا فسيعجب القارئ فلا يصدق أن جل التخريف في العقائد علتها ليس الفكر الديني الإسلامي -بل هي فيه وثنيات ناتجة عن انحطاط الفكر الفلسفي القديم بعد امتزاجه بالأساطير والفكر الشرقي وهي من جنس الإسرائيليات في التفسير : وكل ذلك يسمى في الدراسات الدينية فكرا دينيا إذ البحث الانثروبولوجي والفلسفي يعتبر الدين ظاهرة من إنتاج الإنسان ككل مبدعات الفكر الرمزي غير العلمي وليس فيها ما هو حقيقة وما هو باطل- بل هو مزيج عقائد وممارسات نتجت عن الكلام والفلسفة خاصة التصوف المتفلسف.
ولعل التوظيف السياسي في الفرق التي ضمت إلى التراث القرآني والسني -النقديين- تراث المدارس السحرية والتنجيمية المستمدة من هذا المزيج الحاصل بين الفكر الشرقي القديم والفكر اليوناني المنحط في أواخر المرحلة الهلنستية كما في رسائل إخوان الصفا والأدبيات الصوفية الفلسفية التي من جنس أعمال ابن عربي (وهو مزيج حصل بعد الغزو المقدوني للشام ومصر والعراق) وتكون المدارس الهلنستية. (وقد حاول ابن خلدون ما يستطيع في عرضه للعلوم والمعارف أن يصفي المعرفة العقلية والنقلية من الخرافات بقدر المستطاع في عصره من منطلق الموقف النقدي الذي أنسبه إلى السلفية المحدثة ممثلة به وبابن تيمية).
وما يسمى بالفكر السني الذي عرف خاصة بالتصدي لهذه النزعات لم يسلم من التأثر كما يحدث دائما بين المتصارعين إذ تكون النتيجة أخذ كلا الصفين من الثاني بعض صفاته لكن ما يؤكد عليه القرآن من نقد للتحريف أولا ولمبدأ « هذا ما وجدنا عليه آباءنا » ثانيا عصم الفكر السني إلى حد بعيد من التلوث الذي افقد عقائد الفرق التي أنشأت الباطنيات قبل الدولة الفاطمية وخاصة بعد انفراط عقدها وما تولد عنها من فرق ما تزال إلى الآن مصدر كل الصداع الذي يعاني منه المسلمون وخاصة في الشام.
تحديد أساس دور الرمز في الفكر السني
وما نحاول القيام به في تعريف دور الرمز هو محاولة تحرير القاعدة الرمزية العميقة التي تمثل الفهم السني لمنزلة الإنسان الوجودية من هذا المزيج لفهم علل صراعه الدائم معها والذي نراه يتكرر اليوم تكررا سيحدد المصير الحقيقي للاستئناف. فهذه القاعدة هي التي تحدد طبيعة تصور السنة لذاتها ولعلاقاتها بغيرها من البشر والموجودات الأخرى وبجملتهما أو العالم بوصفه مرحلة من الوجود الإنساني مرحلة يعرفها القرآن الكريم بكونها إستعمارا للإنسان فيه بوصفه خليفة عليه أي ساهرا على نظامه بمعايير تحددها القيم القرآنية التي من أجلها كان الإنسان أهلا للاستخلاف والتكريم.
ولما كان كل الإشكال في الخلط بين العقائد السوية والخرافات علته أن المعاني الدينية لا تقال بأسلوب يمكن فهمه بالتحليل بل تقال بأسلوب يفرض اللجوء إلى التأويل -وقد رأينا أن القرآن يستعمل الأسلوبين المثالي القابل للتحليل والأمثولي الذي يفرض التأويل- فإن الكلام هنا يتعلق بعرض القرآن لمقومات منزلة الإنسان الوجودية عرضا قصصيا رمزيا يمكن أن نصل فيه إلى فهم دقيق ما أمكن ذلك إذا كان منطلقنا كما ينبغي أن يكون البحث الذي تخلص من دعوى معرفة تتجاوز المنهجية العلمية التي يفرضها التسليم بأن الموضوع له قيام مستقل عن الباحث مهما أفرطنا في التركيز على الصلة بين الذات والموضوع.
فلا بد من افتراض منظومة منطقية تتميز بتحقيق شرطين لا إمكان لأي معرفة من دونهما :
- تناسق العناصر التي تعتبر مقومة للموضوع بعد حصرها كما تتعين للملاحظة على الأقل في مرحلة أولية لا تدعي لها الفرضية الإطلاق.
- وتطابقها مع الظرف أو الشرط الإنساني كما يتبين في التاريخ الفعلي لحياة البشر على الأقل في حدود المعلوم إلى حد تلك اللحظة.
وبقصد منهجي سنصرف النظر عن طبيعة قدسيتها. لذلك فكلامنا لا يوجه حصرا إلى المؤمنين بالقرآن إيمان السنة به بل إلى كل من يفهم معنى صلة التاريخ الإنساني بمرجعية أصحابه المحددة لنظرتهم الوجودية Ontologique والقيمية Axiologique.
وإذن فالخيار المنهجي الذي نصرف فيه النظر عن طبيعة القدسية يعني أننا نضع بين قوسين طبيعة الاعتقاد إيمانيا كان أو حتى الحاديا (الإلحاد -إذا لم يكن احتجاجا لا واعيا على التناقض بين الظلم في الوجود وإطلاق القدرة- فهو حتى لو ادعى اللاأدرية هو في الحقيقة عودة إلى الموقف الديني البدائي الذي يؤله المجرى الطبيعي اللامتعين في شخص إله).
ذلك أن ما يعنينا مؤقتا هو الكشف عن مقومات هذه المنزلة في المرجعية التي يستند إليها منظور الأغلبية في الجماعة. والاستقراء السريع يبين أن هذه المقومات عديدة. لكن أهمها دون شك أربعة وردت في قصة الاستخلاف وما دار من حوار حوله بين الله والملائكة ثم بينه وبين ابليس قبل الإغراء وبعده.
والمعلوم أن القرآن الكريم يتبنى من هذه المقومات الأربعة اثنين في مقابل اثنين يعتبرهما ناقصين دون أن ينفي كونهما مبررين. وهو يرجعها جميعا إلى كونها مترتبة على المنزلة الوجودية التي عرفها القرآن الكريم بكونها استخلافا وامتحانا خلال قبل الإهباط إلى الأرض وبعده بوصفه استعمار الإنسان في الأرض. ونحن ننطلق من التعريف الأمثولي بهدف الوصول إلى التعريف المفهومي الذي يمكن القول إنه مع التعريف المفهومي لله ولطبيعة العلاقة بينه وبين والعالم والتاريخ المضمون الأساسي للقرآن .
ومعنى ذلك أننا لا نشترط شيئا آخر غير المعرفة بدلالة التحديد الرمزي للمرجعيات المؤسسة للوجود الإنساني في منظور الجماعة التي ندرسها سواء آمن بها الجميع أو شذ عنهم البعض.فلا توجد عقيدة حاصلة على الإجماع المطلق في أي حضارة دينية كانت أو فلسفية. والفرق بين التعريفين الأمثولي بالقصص والمثالي بالمفهومات يتمثل في أن الأول يتضمن ما يتجاوز التحليل إلى التأويل ومن ثم بفضالة غير قابلة لدقيق التحديد في حين أن الثاني يمكن أن يستنفد الحقيقة التي يترجم عنها المفهوم. ومن ثم فالتعريف الأمثولي يضفي على ما يقدم من معرفة طابع الاعتراف بالقصور وعدم ادعاء مطابقة حقيقة الموضوع المعرف في ذاتها.
ومعنى ذلك أن تأويل التعريف الأمثولي أي القصص وضرب الأمثال يقتصر على ما يناسب الحاجة التي لأجلها نطلب التعريف وهي بالأساس حاجة محدودة بغرض معرفي محدد هو في هذه الحالة فهم العلة التي تجعل الصفات التي يعرف بها الإنسان مناسبة لما نلحظه في سلوكه في الوجود التاريخي دون أن ندعي ما يتجاوزه إلى الوجود المتعالي عليه.
المقومات الأربعة
فما المقومات الاربعة التي نشير إليها :
عائقا الأهلية الاستخلافية
المقومان اللذان لا ينفيهما القرآن لكنه لا يتبناهما هما ما يعني أنهما يوجدان في الإنسان بحق لكنهما لا يعرفان حقيقته التي لأجلها استخلف وكرم من بين كل المخلوقات وفضل على الملائكة التي أمرت بالسجود إليه :
- تشكيك الملائكة في أهلية آدم للاستخلاف : بمعيار خلقي ديني. فهو يفسد في الأرض ويسفك الدماء بخلاف سلوك الملائكة التي تقدس للرب وتسبح بحمده.
- تشكيك إبليس في أهلية آدم لأن يسجد له : بمعيار طبيعي ديني. فهو من مادة دون مادة ابليس منزلة بمقتضى القانون الطبيعي الذي خلقه الله والذي بمقتضاه النار تصعد والتراب ينزل والأمر بالسجود يعكس القانون.
مساعدا الأهلية الاستخلافية
المقومان اللذان يتبناهما القرآن دون أن ينفي السابقين لكأنه يقرهما رغم كونهما من العيوب -وهي إن صح التعبير عيوب مادته : سفك الدماء والفساد لقابليته للنكوص إلى الحيوانية والإخلاد إلى الأرض لأنه من تراب- دون أن يعتبرهما كافيين لإفقاد الإنسان المنزلة الوجودية التي وهبها له الله والتي سيختبر فيها آدم ثانية -خلال مدة النذر إلى يوم الدين- أي خلال استعماره في الأرض بقيم الاستخلاف أو بما يترتب على هذه المنزلة التي هي الاستخلاف :
- علم الأسماء استعارة على دور الرمز في تحقيق شروط أهلية الإنسان للاستخلاف -شرط إبداع كل الحضارة أي ما يضيفه الإنسان إلى الطبيعة لأنها لا تستطيع المشاركة في الإبداع الإنساني وإن كانت شرطا فيه- كما يتبين من الرد الإلهي على حجة الملائكة وكذلك على حجة إبليس. فما تلقاه آدم من كلمات أتمه -وهي أذن من جنس الأسماء- فاستحق العفو والاجتباء (وطبعا فعدم ذكر حواء فيهما يعني أمرين : أن العفو يشمل البشرية كلها التي رمز إليها هنا بآدم وأنها لم تحمل مسؤولية الخطأ رغم مشاركتها فيها). ولما كانت كل مخلوقات الله كلمات فإن ما تلقاه من الله بالإضافة إلى القدرة على التسمية هو القدرة على الإبداع وكلاهما بفضل الرمز التي اعتبرت وحدها كافية لأهلية الاستخلاف رغم ما اشار إليه الملائكة وإبليس ورغم الفشل في التجربة الأولى.
- حرية الإرادة أو القدرة على تطبيق القانون والسنن باختياره وتفترض القدرة على عدم تطبيق القانون والسنن باختياره. وهذا شرط الامتحان خلال الاستعمار في الأرض. وبخلاف الإمتحان الأول فإنه لا يقتصر على النهي (الأكل من الشجرة) بل هو يتضمن رسالة وشريعة ومن ثم فهو تكليف بمهمة يكون الحساب على الجهد والقصد في تحقيقها.
الإمتحان و المقومات
ومما يثبت أن الله في الأمثولة لا ينفي حجة الملائكة ولا حجة إبليس هو أن القرآن مليء بالجدل حول خصائص الإنسان الخلقية وصراعه مع ما يترتب على منزلته بحيث إن جل وصف القرآن للإنسان سلبي -في علاقته بذاته وبغيره وبربه- رغم كونه يعتبره مكرما وذا منزلة أسمى من منزلة الملائكة ويقبل أن يعطيه فرصة ثانية بعد ما بدر منه في الامتحان الأول في الجنة. ولما كان الكلام على الاستخلاف متقدما على ما وقع في الجنة وعلى حجج الملائكة وتحدي إبليس فإن الامتحان الأول والثاني يصبحان من مقومات المنزلة التي يحددها القرآن للإنسان ويؤهله لها بمقومات كيانه الخِلقي والخُلقي.
علاقة المقومان المساعدان بفاعلية الرمز
وما نريد الكلام عليه هو علاقة هذين المقومين وعلة اعتبارنا إياهما متعلقين بفاعلية الرمز؟ وطبعا فالإشكالية كلها لم نضعها تحت نظر الفحص والعلاج إلا من أجل البحث في شروط الاستئناف بالانطلاق مما يقوي السندين ويمكن من السلطان على العائقين. وهو ما يقتضي أن نقدم على البحث في شروط تحقيق هذا الهدف أن نصل الأمرين أحدهما بالآخر بتحديد ما بينهما من وساطة في الاتجاهين:
فما يصل الثانية التي تعبر عن حرية الإرادة بالأولى التي تعبر عن قدرة الفاعلية وسيط بينهما يذهب في اتجاهه الأول من الإرادة إلى القدرة علميا وتقنيا (للسلطان على الحاجة إلى الطبيعة)
وما يصل الأولى بالثانية تعبر عن إرادة الفاعلية وسيط بينهما يذهب في اتجاهه الثاني من القدرة إلى الإرادة عمليا وخلقيا (للسلطان على الحاجة إلى المجتمع).
وهذه العلاقة باتجاهيها تمكن من إنارة الثانية بالغاية (العمل والأخلاق) والأولى بالأداة ( العلم والتقنية). وما يؤسس لثلاثتها وخاصة للوصل بين ما قبل العلم (القدرة) وما بعده (الإرادة) هو نوع الحياة التي تنتسب إليها هذه الخصائص : حياة الإنسان الذي له هذه الخصائص وهي ما عليه ينتأ الإنسان عن بقية الوجود لتكون له المنزلة الوجودية التي نحاول تحديدها. وبذلك تكون صفات الإنسان التي حلت فيه برمز النفخ -نفخنا فيه من روحنا- هي : الوجود والحياة والقدرة والعلم والإرادة. لكن ذلك كله يتعلق بالفطرة التي فطر الله عليها الإنسان رمزا بآدم بزوجي الآدمية التي خلقت من نفس واحدة : الفطرة هي اثر النفخ الإلهي في الأمثولة المتعلقة بالاستخلاف والاستعمار في الأرض.
في فاعلية الرمز وشروط الاستئناف – الجزء 02 – أبو يعرب المرزوقي
إعجاب تحميل…