****
في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل العاشر –
مفهوم الأحياز المضاعف- ورغم كون ابن خلدون لم يستعمل المصطلح فهو قد استعمل مدلوله دون تسميته في تحديده للعمران على الجملة في الباب الأول. وهذه الأحياز ومنطق تفاعلها بنية ثابتة في كل المسائل التي يدرسها ابن خلدون في المقدمة وترجع إلى “نحلة العيش”.
ومن ثم فكل ما أضفته هو الإطار النظري المفهومي في شبه عودة على عمل ابن خلدون لنقله من الصوغ الأول المتقدم على الصوغ الثاني موضوعا له وانتقالا به من الحدس النظرية إلى نسقية النظرية مرحلة نحو تحويل نظريات ابن خلدون إلى نسق أكسيومي يقبل الاستنتاج من عدد قليل من الحدود العنصرية والقوانين التأليفية بينها لتصبح علما حقيقيا.
فقد الباب الأول بالجغرافيا الطبيعية والمناخ. ومن ثم فهو بذلك يعني محددات المكان والزمان لوجود حضارة الإنسان. وكلامه على إثرها يقتضي النوع الثاني منها.
فما في الإنسان من متفاعل مع الطبيعة مكانها وزمانها نظير فيه هو ما منه من جنس المكان الطبيعي المؤثر فيه ومن جنس الزمان الطبيعي المؤثر فيه. والاول هو بدنه والثاني هو وعيه بما حوله وبذاته الواعية بما حولها ولنسم ذلك روحه. فهذان إذن زوجان من الحيز المحيط والمحاط في وجود الإنسان.
عندنا إذن بنية مربعة يتلقى فيها حيزان حول كيان الإنسان وحيزان هما كيان الإنسان. وينتج عن تفاعل هذه الأحياز الأربعة حيزان آخران في عالم الإنسان وحيزان آخران في كيان الإنسان تحصل أربعتها عن التفاعل بين الأحياز الأربعة الأولى وبنفس التناظر العجيب بين ما في كيان العالم المحيط بالإنسان وما في كيان الإنسان المحاط بها في الأعيان والمحيط بها في الأذهان: أي إنها حاضرة في ذهن الإنسان دائما حضور كيانه أو حضور حاجة كيانه لها وتفاعله معها.
وبهذه الأحياز الأربعة الناتجة عن اللقاء بين الأربعة الأولى يتغير كل شيء فالجغرافيا الطبيعية تتضاعف بجغرافيا حضارية والتاريخ الطبيعي بتاريخ حضاري والبدن الطبيعي بتضاعف ببن حضاري والروح الطبيعية بروح حضارية: وهي أحياز أربعة تضع بين الإنسان والعالم الطبيعي والعالم التاريخي تفاعلهما المادي والرمزي الذي هو من فعل الإنسان وهو معنى الثقافة.
وهذه الأحياز الثمانية تجتمع بذاتها وبتفاعلاتها في ما سماه ابن خلدون “نحل العيش”. وتلك هي البنية الأساسية التي يبني عليها ابن خلدون فلسفة التاريخ التي تمثل لحمة علم العمران والاجتماع الإنساني وسداه. وهي إذن بنية شديدة التعقيد لما فيها من تشاجن الأحياز الثمانية وتفاعلها. فما الأحياز الأربعة الثانية؟
ماذا ينتج عن الانتقال من الجغرافيا الطبيعية إلى الجغرافيا الحضارية؟
الثروة أو التراث المادي. وما ينتج عن الانتقال من التاريخ الطبيعي أي التاريخ الحضاري؟ التراث أو الثروة الرمزية.
وماذا ينتج عن الانتقال من البدن الطبيعي إلى البدن الحضاري؟
الزاد المادي في البدن نفسه وهو من جنس “الشحن” في الهاتف الجوال يمكن من العمل لمدة محدودة.
وماذا ينتج عن الانتقال من الروح الطبيعي إلى الروح الحضاري؟
الزاد الروحي وهو جزء من التراث الرمزي مثلما أن الزاد المادي في البدن هو جزء من الثروة المادية. ويتبين ذلك عندما يفقد الإنسان ما تتطلبه المائدة والسرير. فهو يأكل من بدنه كما نرى ذلك في المجاعات وما تؤدي إليه من هزال ويضاجع حتى نفسه في غياب الجنس الثاني وهما معوضا التبادل والتواصل العاديين في غياب شرطهما.
وهو ما يعني أن المائدة هي رمز التبادل بين الإنسان والطبيعة وأصل كل تبادل آخر بينهما والسرير هو رمز التواصل بين الإنسان والإنسان وأصل كل تواصل آخر بينهما. فهما محددان لما دونهما ولما بهما كفاية ولما بهما زيادة عن الكفاية ولما بعدهما وهو مرحلة الترف القاتلة للحضارة عند ابن خلدون.
ولما يدرك الإنسان آثار العبودية المباشرة للجغرافيا الطبيعية والتاريخ الطبيعي-إما لعدم وجودهما أصلا كما في البداية أو لظرف قاهر كما يحصل لمن يضل طريقه في الصحراء مثلا-فإنه يصبح حريصا على الزادين خارج ذاته (الثروة والتراث) وفي ذاته قيام بدنه وقيام روحه بوصفهما زادا محايثين لكيانه.
فيكون هذا الحرص متضمنا لأمرين: توقع نفاد الزادين ما يعني السعي لضمان توفرهما بحيازة قسط من الجغرافيا الطبيعية وتحويلها إلى جغرافيا حضارية بجعلها مجالا حيويا يستمد منه ما يرعى به ذاته ويسعى لحمايته فيكون ذلك بداية تكون الجماعات التي تتبادل وتتواصل لعلاج اشكاليتي الزادين.
وما كان يمكن للإنسان أن يصل إلى هذا الوعي من دون أن تكون قد حدثت مجاعات ومن دون أن تكون قد حدثت حروب على المجالات الحيوية التي يستمد منه الإنسان شروط بقائه. فيكون التراث الأول مضمون التاريخ الحضاري بالجوهر درامي وتراجيدي فينتج عن ذلك رؤية وجودية للعالم فيها أمل التوقع وخوف عدمه ولعل أبرز مثال على ذلك موقف المزارع من فصول المطر هطولا أو عدم هطول: وليس بالصدفة أن كان علم الفلك وعلم الطب أول علمين عرفتهما أقدم الحضارات. وليس بالصدفة كذلك أن كان للنساء الدور الأول في الكهانة وتوقع المستقبل في المجتمعات الأولى لأن لهن بحكم اقتسام العمل الأول وظيفة الرعاية وللرجال وظيفة الحماية: والأولى أكثير شعور بالخوف من المستقبل (نقاد الغداء) والثانية من الحاضر (هجوم الأعداء) ومن ثم فللنساء هم التفكير في المستقبل والفراغ له أكثر من الرجال. كما أنهن أكثر اعتقادا من الرجال وخاصة في التنجيم والسحر وكل ما يكون الخيال ومبدأ الرغبة فيه غالبا على مبدا الواقع.
وهذا هو المعنى الأول الذي استمد منه ابن خلدون بداية الأديان والعلوم اللذين هما في آن ثمرة أمل التوقع وخوفه ويصحب الأول العرفان لـ”أمر” يعتبر صاحب النعم التي تجعل شروط القيام حاصلة في العالم ويصحب الثاني الاستعداد لمفاجآت هذا الأمر بما يشبه ما نصح به موسى فرعون للسنوات العجاف.
وهكذا يتبين أن البنية العامة التي تنطبق على نوعي العمران في المقدمة والتي عرضها ابن خلدون في الباب الاول من المقدمة تجمع بين الاقتصادي والثقافي والسياسي بمعنى الحماية والسياسي بمعنى الرعاية والرؤى الوجودية بمعنى العرفان لكائن متعال والخوف من مفاجآته أي الأديان والعلوم. وبهذا المعنى نفهم علة مضمون الباب الأول: ففيه قسمان متفاعلان وحصيلة:
- القسم الجغرافي المناخي ممثلا للعالم الطبيعي
- القسم الديني العلمي الممثل للعالم الثقافي.
- أثر الأول في الإنسان في تكوين بدنه وروحه.
- أثر الثاني في الأول لاستمداد في تشكيله لتحقيق ذلك.
- مرجعية لاحمة للجماعة هي في آن تراث روحي وثروة مادية في الأعيان وفي الأذهان ومن دونها لا يمكن فهم معنى جماعة متجانسة أو أمة متلاحمة.
وهذه البنية صالحة في الشكلين الأبرزين من العمران أي البدوي والحضري بمعيار يميز بينهما بتقدم الدورين. ففي البدوي المتقدم في الفاعلية هو العالم الطبيعي أي تأثير الطبيعة الخارجية والداخلية في الإنسان. وفي الحضري المتقدم هو العالم الثقافي أي تأثير الإنسان في الطبيعة الخارجية بأحيازها الخمسة (المكان والزمان وأثر المكان في الزمان أو التراث وأثر الزمان في المكان أو الثروة والعالم الطبيعي) وفي الطبيعة الداخلية بأحيازها الخمسة (البدن والروح وتأثر البدن بالثروة وتأثر الروح بالتراث والعالم التاريخي).
وحتى يتضح لنا ذلك فلنضع الباب الأول الذي حدد البنية العامة جانبا.
وللنظر في الأبواب الخمسة الباقية. ماذا نلاحظ؟
إذا ذهبنا من الثاني (البوادي) إلى الرابع (الحواضر) نمر بالثالث (الدولة) يتناقص تأثير الطبيعة. وإذا عدنا من السادس(العلوم) إلى الرابع نمر بالخامس(الصنائع) يتناقص تأثير الثقافة.
وفي كل نقطة من هذا المسار في الاتجاهين نجد تناسبا بين ربو دور الثقافي ونقصان دور الطبيعي من البداية (الفصل الثاني) إلى الغاية (الفصل السادس) والعكس أي تناقص دور الثقافي (الباب السادس) وربو دور الطبيعي (الثاني). والمدينة تمثل الحد الأوسط بين تناقص الطبيعي وتناقص الثقافي حيث يكون الأول شبه غائب بعد المدينة فيكون تابعا للعمران الحضري والثاني شبه غائب قبل المدينة فيكون تابعا للعمران البدوي. وتكون المدينة جامعة بين نوعي العمران في القلب الحضري وفي المحيط البدوي. وهذا قانون عام في كل مدن العالم وفي كل عصور الحضارات بعد أن تكون قد وصلت إلى مواد الباب السادس من المقدمة.
هبنا واصلنا المسار الأول حتى نصل إلى السادس فنصل إلى المرحلة التي يكاد كل شيء في حياة البشر يصبح في قطيعة مع الطبيعة وكأنه صار كله ثقافيا والذهاب به إلى الاقصى هو الترف وهو القاتل للحضارات لأنه ملغ للطبيعي في حياتها. وإذا عكسنا نجد أقصى البداوة وهو التوحش المطلق لسلطان الطبيعة.
فتكون الحواضر (المدن) هي الحد الأوسط حيث تلتقي الفاعليتان الذاهبة من الطبيعي إلى الثقافي والعائدة من الثقافي إلى الطبيعي. ولذلك فلا توجد مدينة ليست في آن حضرية في الوسط وبدوية في أحوازها أو ما يحيط بها من أحياء قصديرية يسكنها النازحون الذين سيتمدنون بمفعول الزمن.
لكن ما من مرحلة تخلو من التفاعل بين الطبيعي والثقافي في مجالي تعينهما أعني في المائدة والسرير إذ يبقى المضمون الدافع فيهما طبيعيا دائما والشكل الرافع فيهما ثقافيا دائما. لكن الثقافي لا أعني به الفلكلور أي ما به تتمايز حضارة عن حضارة بل الكلي في الشكل: وهو الدلالة التجميلية.
والفلكلوري في الدلالة التجميلية لا تتعلق بالشكل الجمالي بل بالحامل للجمالي وهو مستمد من قيم المضامين في الجماعة. فالطعوم في المائدة والجمال في السرير مختلفة من حضارة إلى حضارة بل ومن مرحلة من كل حضارة إلى مرحلة أخرى لكنها واحدة كقيمة حتى وإن تعدد حامل القيمة غذاء وأبدانا.
ففي المائدة لا يهم المأكول بل قيمته الذوقية عند الجماعة. وهذا قانون عام وكوني ولا يختلف فيه شعب عن شعب. ما يختلف بين الشعوب هو حامل القيمة الذوقية. فما يستلذه العربي مثلا في زمن ما غير ما يستلذه الفرنسي. لكن المعيار الغذائي هو ذوق الطعم. ونفس الأمر في السرير المهم القيمة الجمالية أي ما يستملحه الجنسان كلاهما من كليهما.
ومعنى ذلك أن أحد الأوهام حول المقابلة بين الطبيعي والثقافي يسقط: ليس الطبيعي وحده هو الكلي بل الثقافي أيضا فيه ما هو كلي. وكل من يتكلم على الخصوصيات يخلط بين الثقافي والفلكلوري. فكون العربي مثلا يحب المرأة الممتلئة لا يعني أن معيار اختياره مختلف عن معيار من يحب الهزيلة. المعيار واحد: الاستـملاح.
واختلاف حوامل المستملح لا يتعلق بها بما يحمله من علاقة بما بين الجنس والأكل من إيحاءات متبادلة. فالمخيال فيهما واحد ويمكن أن نتكلم على أحدهما بما نتكلم به على الآخر. والملذوذ فيهما رغم كونه تعينه في الحوامل ثقافي بحسب ما يتوفر في الطبيعة وفي الجماعة من حوامل هي في الغالب حصيلة العاملين الطبيعي والثقافي: والكوني فيهما من جنس الكوني في الألسن: فهو لا يقتصر على الصوت (الطبيعي) ولا حتى على آليات الإفادة (طبيعية أو كونية) بل على نسبها التي تحافظ على كلي ليس طبيعيا بل هو ثقافي.
مثال ذلك أن اللغة اللغات الاعرابية اشتقاقية في الغالب واللغات غير الإعرابية نحتية في الغالب. لكنه لا توجد لغة خالية من الخاصيتين حتى وإن كان خيار الكتابة هو الذي يخفي الطابع النحتي في اللغات الاشتقاقية. فالاشتقاق نحت بين الأصل والزيادات الصدرية أو الذيلية او الحشوية. وهذه ليست طبيعية بل ثقافية ولعلها تفهم بما يفسر به الفارابي نشأة اللغات بالعادات الأولى في الجماعة.
يمكن أن نشرح الاختلاف في حامل الجمال بما بين المائدة والسرير من تفاعل. وليس بالصدفة أن كانت كل استعارات الجنس وكل استعارات الغذاء من طبيعة واحدة بمعنى أن الذوق بالمعنى الغذائي والذوق بالمعنى الجنسي وما يتبعهما من ذوق بالمعنى الالتذاذي والجمالي في نفس النسبة عند جميع البشر. ففي الجنس يوجد تعالق بين المأكول والمنكوح ومن ثم بين الذوقين سواء عند الرجل إزاء المرأة أو عند المرأة إزاء الرجل وليس طبعا بالمعنى الحقيقي بل بالمعنى المجازي رغم أن فيه شيئا من الحقيقة كما في التقبيل والعض الخفيف والرضاب وكل الصور التي يتكلم عليها شعراء الغزل.
وفي الأمر شيء من التعويض. فالبدوي يحب المرأة الممتلئة لأن مائدته في الغالب خاوية. والحضري يحب المرأة الأقل امتلاء لأن مائدته في الغالب ممتلئة. لكأن الترادع بين المائدة والسرير يقتضي هذا التعاوض بينهما بحسب العلاقة بين المائدة والسرير. ولست أدري كيف يمكن فهم البدانة عند الأغنياء.
فبدانة النساء في مصر مثلا مفهومة بهذا المعيار. لكنها غير مفهومة في أمريكا. لكن ربما الجواب في عموم البدانية بين الجنسين فيها. لكن عندئذ هي يعني ذلك أنه يوجد تناسب عكسي بين المائدة والسرير في أمريكا؟ هل يعني ذلك أن الجنس يضمر في هذه الحالة فنفهم غلبة الفرجة على الفعل نفسه؟