في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل السادس

****

في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل السادس –

وصلنا الآن إلى الزبدة:
هل كان ابن خلدون في كلامه على المبدأ الذي اتبعه في ترتيب مسائل علمه الست أعني مفهوم الإنسان ومحددات وجوده بمعيار التراتب بين الضروري والحاجي والكمالي مع اضمار ما دون الاول وما فوق الثاني قد أتبع نفس الخطة دون أن يحترز فيعتبرها متماعية دائما؟
فالمسائل هي موضوعات الأبواب الستة:

  1. العمران البشري على الجمل.
  2. العمران البدوي.
  3. الدول.
  4. العمران الحضري.
  5. في الصنائع والمعاش.
  6. في العلوم واكتسابها وتعلمها.
    فهل ابن خلدون يعتبر تتابعها يجعل الخالف وكأنه تجاوز للسالف بمعنى الاوفهيبونج الهيجلي أو الماركسي أم له تصور آخر؟ كل الفصول السابقة من هذه المحاولة تفترض أن أجيب بأن له تصورا آخر وهو سر أمرين:
  7. تجدد الحضارات مدين لهذه السلسلة التي تتكرر دائما وليست تحدث مرة واحدة لكأن التاريخ الحضاري للإنسانية خطي.
  8. تعايش الضروري والحاجي والكمالي وما دون الأول وما بعد الأخير دائما لتحقيق الدورة.
    والمبدأ الثاني هو الذي يجعل آليات التغير الدورية تجري داخل نفس الحضارة ثم بين الحضارات وهي سر العلاقة بين الفاعل الطبيعي في الإنساني والفاعل المكتسب وهوما يعني أن المكتسب مهما كانت أهمية دوره فهو بفضل عدم التساوي في الاكتساب يجعل مراحله محكومة بصمود الطبيعي وما صمود عادة المكتسب.
    ولهذه العلة عرفت الزمان التاريخي بكونه ذا خمسة أبعاد وليس ثلاثة مثل الزمان الطبيعي. طبعا ابن خلدون لم يستعمل هذا التعريف الذي وضعته لفهم علل صمود الحضارة السابقة عندما تغلب أمام غزو الحضارة اللاحقة التي تغلبها ووجود أمل الاستئناف رغم أنه حتما سيتأثر بالغالبة ليأخذ منها سر غلبتها.
    فالماضي الحضاري يتألف من أحداثه التي حصلت فعلا أو تخيلا ومن أحاديثه حولها.
    والمستقبل الحضاري يتألف من أحاديثه حول احداثه المقبلة سواء حدثت لاحقا فعلا أو لم تحدث.
    والحاضر هو دائما معركة الأحاديث لأن الأحداث الماضية مضت والأحداث المقبلة لم تحدث بعد.
    وبذلك تصبح الأحاديث في الحاضر هي التي تؤثر أكثر من الأحداث الماضية لأنها هي التي تضفي عليها المعنى المؤثر بتأويلاتها وأكثر من الأحداث المقبلة لأنها هي التي تحض على الفعل المحقق لها. فتكون الفاعلية الرمزية التي في الأحاديث بصنفيها أهم من الفاعلية المادية رغم ضرورتها.
    ولهذه العلة فالقوة اللطيفة -القيم بما فيها من كوني رغم أنه يبدو خصوصي-تمثل عامل صمود من دونها يصبح الفعل المادي حاسما حسما نهائيا بحيث إن من يغلب في معركة بالقوة العنيفة ينتهي في حين أن القوة اللطيفة تمثل دائما سر الصمود والاستئناف بفضل مقومات كيان الإنسان الكونية: سر المناعة.
    ففي فلسفة الحرب -كلاسفيتس-الأمم لا تهزم لأنه جيشها انكسر أو لأن ارضها احتلت وهما النوعان الاولان من الهزيمة عنده وإنما تهزم حقا عندما تفقد القدرة على المقاومة والصمود شرطي الاستئناف. ومعنى ذلك لا يكون العدو قد انتصر إلا إذا قتل في المغلب إرادة الصمود والمقاومة.
    وهذه الإرادة تبدو وكأنه نابعة من الخصوصية الحضارية. وهي فعلا تبدو كذلك لأنها شيء كلي وكوني يوجد في الإنسان من حيث هو إنسان لكنها تتلون بالخصوصيات القيمية والحضارية أو بأشكال التعبير عنها لكن طبيعتها واحدة: الاسترداد المسيحي في القرون الوسطى مماثل للاسترداد الإسلامية الحالي.
    وبهذا المعنى نكتشف سر العمق في العلاج الخلدوني حتى وإن لم يكن هو نفسه واعيا به: ففي تعريف للإنسان وعلل فناء الأمم تكلم على “فساد معاني الإنسانية” بوصفه ماحيا لحقيقة الإنسان الذي يعرفه “رئيسا بالطبع بـمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” بمعنى أنه لا يقبل فقدان حريته أبدا.
    ولأورد النص (الفصل 24 من الباب الثاني: في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء): “(…) وفيه والله أعمل سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له والرئيس إذا علب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسي. ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين.
    فلايزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء والبقاء لله وحده”. وها نحن نجد المبدأين: المائدة (الغذاء) والسرير(الجنس): رمزي البقاء الحر والعزيز.
    وما قاسه ابن خلدون على الحيوان المفترس في الإنسان يجعل “الرئاسة بالطبع” التي له ذات صلة بالاستقلال في المائدة وفي السرير أو بصورة أدق يجعل هذين علامتي الاستقلال.
    والأول هو رمز الملكية شرط الرعاية والثاني هو رمز الشرف شرط الحماية. ومجموعها هو شرط الرئاسة بالطبع والاستخلاف.
    وبذلك نكون قد وصلنا إلى نوعي القيم: القيم المادية (الملكية أصلا للحرية الدالة على القدرة على الرعاية) والقيم المعنوية (الشرف أصلا للكرامة الدالة على القدرة على الحماية). قيم الرعاية والحماية يتبادلان التأثير: فينتجان القدرة على الصمود الفعلي والرمزي روحيا.
    والثاني يستعيد الأول.
    صحيح أن فقدان القدرة على الرعاية قد تضطر الإنسان للتنازل على الحرية فيتنازل عن الحماية قبولا بشروط الغالب ومن ثم يفقد الرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له. وحينها يكون قد تنازل عن إنسانيته بالمعنى الخلدوني أو عما فيه من “غريزة طبيعية يشاركه فيها الحيوان المفترس”.
    وهذا يصبح ما به تتجدد الحضارات هو في آن الطبيعي من القيم التي تتقوم بها حقيقة الإنسان وليس وجوده فحسب. فالمائدة والسرير مقومان وجوديان يمكن أن يكونا سويين ما لم يصبحا مقابل التنازل عن حقيقة الإنسان بحيث يلغيان حريته (المائدة) وكرامته (الجنس) فتحصل العبودية وتزول الرئاسة بالطبع.
    وهنا نكتشف المعيار الحقيقي لتقييم الإنسان في بعدي “معاني الإنسانية” لديه:
  9. الرئاسة بالطبع (بعد فلسفي)
  10. بمقتضى الاستخلاف (بعد ديني).
    فعندما تنظر في الكاريكاتورين من النخب العربية التحديثة والتأصيلية تكتشف أنهم لا يرون من الوجود إلى المستوى الأول من القيم التي تحكم التبادل الاقتصادي ولا يدركون معنى القيم التي تحكم التواصل الوجداني.
    بهذا المعنى فلا يمكن أن يفهموا معنى “رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” أي إن القيم عندهم لا تتجاوز قيمتي الاقتصادي أي قيمة الاستعمال وقيمة التبادل أي إنهم إما جوعى أو بضاعة بخسة.
    ولا يعترفان بالتواصل الروحي أي الرعاية دون مقابل وحماية ما هو أغلى من الذات بسبب الحب عامة.
    ولست أعني أن هذين النوعين من النخب الكاريكاتورية ليس عندهم حب للولد أو للوطن أو للمعتقد لكن عند الوقوع في وضع الاختيار فهم مستعدون لجعل ذلك كله دون قيم الاقتصاد وخاصة الاستعمالية ولكن حتى التبادلية ولذلك فالمستبدون يستعملونهم بهما فيصبحون بالضرورة طبالين: والعلامة فساد شعرائنا.
    قد يجيد بعضهم وإن لم يصلوا ابداع المتنبي لكنه مثله أنذال يشترون بالمال لسد حاجة المائدة والسرير وما يبتعهما من مكملات. ولا يمكن أن يكون شاعرا نبيلا من يطبل للمجرمين لأنه لم يفهم قول القرآن في شروط الشعر الذي يجمع بين القيم الجمالية والقيم الجلالية فيكون القول فيه مطابقا للفعل.
    ذلك أن جمال القول من دون فعل يعني أن القول صار بضاعة تباع في سوق النخاسين: من يظن نفسه شاعرا ويطبل لما يسمى بالممانعة كاذب في شعره حتى لو أجاد. وما أظن أحدا من شعرائنا الحاليين مبدعا لأن أغلبهم بحجة التناص يكتفون بسرقة ما أبدعه قبلهم الشعر العربي أو الغربي دون صدق أصحابه.
    عندنا إذن نوعان مضاعفان من القيم مع أصل ترد إليه أربعتها: قيمتان اقتصاديتان للتبادل وقيمتان وجدانيتان للتواصل. والأصل الجامع هو تعريف ابن خلدون للإنسان بكونه”رئيسـ(ـا) بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” وهو تعريف فلسفي (بالطبع) وديني (الاستخلاف) في آن: ذلك هو السر الخلدوني والذي سعيت لتأييده ببيان وحدة الديني والفلسفي رغم تعدد الأديان والفلسفات.
    فسواء بدأت بالعمل والشرع وانتهيت إلى النظر والعقد (الديني) أو عكست فبدأت النظر والعقد وانتهيت إلى العمل والشرع (الفلسفي) يبقى الطريق واحدة رغم تعاكس السير فيه: الديني يقدم العمل والشرع منطلقا للنظر والعقد والفلسفي يقدم النظر والعقد منطلقا للعمل والشرع.
    وقد برهنت على ذلك في محاولات سابقة.
    والآن أستطيع أن أفصح عن دلالة المراحل الخمس أو المستويات الخمس بمعيار المائدة والسرير وفن المائدة والسرير وما دون الأولى وما دون الثاني وما بعده. فهذه المستويات ليست منفصلة عندي عن مستويات القيم بفرعيها المضاعفين وبأصلها أو معاني الإنسانية مقومات للرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف.
    وإذن فكل مستوى من المستويات التي تنتج عن المائدة والسرير يكون فيه البشر واعين أو غير واعين بهذا المعنى للإنسان: فمنهم من يسعى لأن يحقق شروط رئاسته بالطبع رعاية وحماية ومنهم من لا يفعل فيفقد معاني الإنسانية ويكون فيستتبع لغلبة قيم التبادل الاقتصادي بدل قيم التواصل الوجداني عليه.
    والفرق بين قيمتي التبادل الاقتصادي (الاستعمال والتبادل) وقيمتي التواصل الوجداني (الحرية والكرامة) هو قابلية التفريط في الأوليين وعدم قابليته في الثانيتين. وللنوعين علاقة بالمائدة والسرير يحددها نوعان من المحددات ذات صلة بمقومات كيان الإنسان وقيمها. ذلك أن الحرية والكرامة ذاتا صلة مباشرة كما سنرى بحيزي الثروة والتراث.
    فحيز الثروة محدد لعلاقة الإنسان بالحرية والمائدة وحيز التراث محدد لعلاقة الإنسان بالكرامة (أو العرض) والسرير. وهذا التحديد هو الذي يميز حقا بين العبيد والأحرار أو بين من فسدت فيهم معاني الإنسانية ومن حافظوا عليها.
    وهذا ثابت لا يتغير. قد تتغير النسب. لكن الظاهرتين متلازمتان. وتلازمهما من جنس تلازم الخير والشر. فالإرادة حرة أو مضطرة والعلم صادق أو كاذب والقدرة خيرة أو شريرة والحياة جميلة أو قبيحة والوجود جليل أو ذليل. هو معنى الوعي بكون الإنسان “رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف” أو غير واع.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي