في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل الرابع

****

في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل الرابع –

ما ظل الإنسان إنسانا فلم تفسد فيه معاني الإنسانية وما بقيت الجماعات البشرية محددة للقيم ولمنازل الأفراد فيها بمقتضاها فإن علاقة الجنسين ستبقى دائما خاضعا لمزيج مما يترتب على المراحل الخمس التي وصفنا في كل جنس وفي نفس الوقت. فالنفس البشرية متأرجحة بينها خمستها حتى لو غلبت عليها إحداها بغلبة نوع التعالق بين الجنسين. ويكون كل مستوى متضمنا بالفعل لما تقدم عليه ومتضمنا بالقوة لما يتلوه. ومن ثم فهو دائما مهددا بأقصى البداية وأقصى الغاية.
ماذا يعني ذلك؟
القصد أن العلاقة بين الجنسين ليست ساكنة بل هي متحركة وتمر بحسب الظروف بكل هذه المراحل ولو ثبتت في أي منها لاستحال دوامها لأكثر مما تدوم لحظات التمثيل والنفاق بينهما. ولولا التأطير الاجتماعي بالقيم وبما يقبل بمقتضى المنازل لما بقي غير ما دون الثانية وما بعد الرابعة. وما دون الثانية هو الوحشية الأصلية وما بعد الرابعة هو الوحشية الناكصة وهي أكثر بشاعة وقبحا: إذ تزول حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود.
وما دون الثانية تناسب بداية البداوة أو العلاقة المحكومة بالجري وراء ضرورات العيش الدنيا وما بعد غاية الحضارة أو العلاقة المحكومة وراء جماليات العيش الاقصى أو الترف أي سلطان قوة الطبيعة والحياة وسلطان قوة الثقافة والموت: عنفوان الغرائز والشباب وخمود الغرائز والشيخوخة.
وبرمزية أفلاطون: عنفوان الحياة أو قوة البدن وحكاك الأجرب أو قوة الخيال غير الإبداعي. فالخيال المبدع أكثر عنفوان وقوة حتى من الواقعات. فيكون الذوق غذائيا وجنسيا في حالة البداية ويصبح الذوق ليس متعلقا بهما بل بما يعوضهما بعد فقدانهما وهو ليس من جنس الانتقال إلى الذوق الجمالي والجلالي بل هو من جنس في الافتراضي. ولأنهما مطلوبان حقا يكون “طعمهما” في ذاتهما. ولأن المطلوب في هذه الحالة هو استحضارهما وليس حضورهما يكون طعمهما في ما يحيط بهما.
ولأضرب مثال قد يبدو ساذجا: فالبدن الإنساني لا يختلف عن أي جهاز آلي يكون عمله قبل أن يغلب عليه الفساد أقوى من عمله بعد أن يغلب عليه. وكل جهاز بهذا المعنى له عنفوان شباب وخذلان شيخوخة. والفرق الوحيد أن الجهاز الآلي يكون فيه ذلك حدثا دون حديث وعند الإنسان مع حديث.
وحديث الشيخوخة ذكرى لأثر درس. ومن ثم فالانتقال من العنفوان الفعلي إلى العنفوان القولي ويصبح عالم الحدوث الخيالي متقدما على عالم الحدوث الفعلي ولا ينقل الأول إلى الثاني إلا المخدرات والمسكرات والملهيات فتصبح الفرجة على الأكل والجنس بديلا من الفعل ذاته: وهذا ليس عند الفرد فحسب بل في الجماعة.
ولنأخذ مثال الهندام: فالعري والتغطية كلاهما له دلالتان. في البداية وفي النهاية.
• الدلالة غير الجنسية لها علاقة بالطبيعة المحيطة أو بالمناخ.
• والدلالة الثانية جنسية وهي إما لحماية عنفوان الجنس أو لقتله بالابتذال الذي يزيل الفرق بين الخاص والعام لأن العري يجعله عاما فيفقده فاعليته.
وفي الحقيقة هو يقلب العلاقة بين العام والخاص. فعندما يكون العري استعراضا لا واعيا لمطلوب مفقود فهو يجعل العام موضوع الجهد المبذول لإبراز حاجة لا واعية للجنس المفقود أو بصورة أدق للجوع الجنسي الذي لا يشبع لأنه من جنس اللامتناهي الزائف في حياة الترف كما وصفها ابن خلدون.
ويصبح الخاص أو ما يعاش في داخل البيت مهملا تماما لأن الاستعداد لخارج البيت يقتضي أن يصبح الفضاء الخاص متعلقا بإراحة البشرة وما سواها أو بأعدادهما لما سيعرض في الفضاء العام في اليوم الموالي. وهذا طبعيا يعني أن ما يوجد في البيت لم يعد له دلالة ما يصحب الجنس بل رتابة ما يحول دون جذوته.
فيعوض الاكزيبسيونسم (الاستعراض) والفيوريسم (الاستفراج) بديلين من المائدة والسرير وخاصة بما يقدم على أنه من فنونهما إخفاء لما اصاب الوظيفتين العضويتين من هزال وضعف.
فالجذوة والمتعة تضمران في الحالتين ويصبح الفعلي مقصورا على الأماني أو السوانج الآفلة بسرعة لأنها من جنس الومضات الخاطفة التي تعوض فيها الحواس الخارجية ما كان من المفروض أن يكون جوهر الحياة العاطفية أعني الحواس الباطنية وهي لا تعمل بالسوانح الخاطفة بل بالتكايف المديد بين الجنسين. فكل غلو في الانشغال المائدة والسرير دال على العكس وعلامته المبالغة في الكلام عليهما. والتناسب عكسي بين الفعل والكلام: تضخم الثاني متناسب مع ضمور الأول.
وليس بالصدفة أن كان ذلك من العاهات العامة عند العرب وليس في المائدة والسرير فحسب بل في كل ما تعوض الأقوال فيه الأفعال حتى تتحول كل الوظائف التي تحتاج إليها الجماعة ظاهرات صوتية لا يتلوها فعل. والأمر لا يقتصر على الأحداث الفعلية في حياة الجماعة بل خاصة في فنونها وفي آدابها حتى صار معيار الجودة الشعرية هو: أجود الشعر أكذبه بخلاف المعيار القرآني.
وهو ما يجعل ما نراه من لهيث وراء الموضة في الهندام بين الكاسي والعاري ليس مجرد موضة هندامية بل هو من جنس ما سماه أفلاطون حكاك الأجرب المعبر عن عدم الإشباع أو عن التبئير والهوس الجنسي أو الغذائي الذي هو مرض إذا صار مركز الاهتمام المغني عما يجعله “جزاء” عضويـا يصحب الوظيفتين: الغذاء والجنس.
علاقة الأغنياء بالمائدة والسرير ومتمماتهما ليست علاقة يكون فيها الغذاء والجنس مؤديين لوظيفتيهما بل يكون ما يتوهمونه حليا تجميليا لهما عند تجاوز حد معلوم فاقدا للوظيفة التجميلية لأنه يصبح مجرد تعويض عن فقدان ما لهما بذاتهما من وظائف عضوية وجمالية أولهما بالقصد الأول والثاني بالقصد الثاني.
وخلال كلامه على الترف ضرب ابن خلدون مثال تجميل الجنان والحدائق عند الأغنياء بالنباتات التي لا تثمر بل تقتصر على التجميل. وقد اعتبر ذلك من علامات بداية موت الحضارة لأنها فصلت بين الوظيفتين العضوية (الإثمار) والتلذذية جمال المنظر العقيم عضويا بالنسبة لقيام الإنسان.
يمكنني أن أقدم مثالا آخر لم يكن ابن خلدون يستطيع تقديمه: وهو آخر ما صنعه الشرق -وهو دائما مصدر الشبق لذاته-هو العرائس البديلة من المرأة للرجل والبديلة من الرجل للمرأة. فهذه العرائس يمكن اعتبارها تطوري للجنس الذاتي أو للعادة السرية بعد أن فقد الجنس وظائفه الروحية والعضوية.
وهذا المثال المتعلق بفن السرير يناظر مثال ابن خلدون المتعلق بفن المائدة. كلاهما لم يبق من الأمر إلى جماليته العقيم. والجمالية في مثال ابن خلدون كان يمكن أن تجمع بين الجمال والخصب في النبات المثمر. وهو في مثالي كان يمكن أن تجمع بين الجمال والجنس المثمر. لكن الترف يغني عن الثمرة.
أعلم أن الكثير يستهين بهذه الأمور. لكن ابن خلدون لم يستهن بها لأنه كان يبحث عن فهم المحددات العميقة لسلوك الإنسان. وما كان ليفعل لو لم يفهم أن الفلسفة القديمة والوسيطة (وأضيف وحتى الحديثة) قد غفلت عن هذه المستويات التي سماها “نحل العيش” لفهم سلوك الإنسان. وبهذا كانت الأديان-وخاصة الإسلام وبصورة أدق القرآن لأن علوم الملة ابتعدت عنه إما بسبب الإسرائيليات والفلسفيات ولأن سلوك الأمة بسبب النكوص إلى الجاهلية وسيطرة العادات- أبعد غورا من الفلسفات حتى الحديثة.
فما عرفت من القدامى والمحدثين أولى أهمية لهذه القضية الجوهرية: قضية المائدة والسرير بمراحلها الخمس التي وصفت اكتفوا باعتبار الفرق بين الجنسين ماديـا واعتبروا الوحدة الصورية لتعريف الإنسان-حيوان ناطق-كافية لفهم سلوكه. لكن الرجل للمرأة والمرأة للرجل لغزان محيران حقا ولا يتفق فيهما حتى الحيوانية والعاقلية إذ هما يكادان يختلفان في كل شيء.
ولهذا علاقة بنظرية التعريف بمقومات قابلة للتجريد والفصل بين المادة والصورة -في الفلسفة الأرسطية خاصة وهي في الفلسفة الأفلاطونية أدهى وأمر لأن المادة تعتبر عنده أصل الشرور كلها-وبالذات بسبب تمنعها دون الخضوع للصورة. وحتى لو سلمنا بأن البدن مجرد “مادة” تحددها الصورة فإن المادة في هذه الحالة محددة قبل صورة الفرق النوعي الذي يسمى النطق.
فالفرق الجنسي يحدد مادة الإنسان المجردة قبل الفصل بين الجنسين وذلك قبل تحديدها المشترك بينهما بالنطق. ولعله فرق نوعي ضمن الإنسان أكثر فاعلية في ما يسبقه وما يتلوه من كيانه أعني المادة غير المصورة والصورة غير ممددة التي يستمد منها الفرق النوعي. وقد تكون المرأة بذلك قد خسرت مميزاتها الذاتية لعلل ثقافية أهمها وهم مشابهة الرجل دليل تحرر وسمو.
وفي القرآن وبخلاف خرافة الضلع المعوج (لعلها من الإسرائيليات) لدى الفقهاء والمفسرين أصل الإنسان هو الأنثى وليس الذكر في النساء 1 بتوضيح لا لبيس فيه في الأعراف 189: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
لذلك فالأكثر تحييرا هو استنادا إلى هذا الخطأ الفلسفي الذي يوهم بان الفرق بينهما متعلق بالمادة وليس بالصورة يقتضي عدم فهم دور هذا الفرق الذي قد يجعلهما نوعين مختلفين بالجوهر اختلافا هو الذي تجعل وجودهما معا شرطا في تواصل النوع: فهل الفرق المادي المنسي أهم من الوحدة الصورية المزعومة؟
ولست أبالغ إذا قلت إن إهمال هذا الفرق “المادي” في نظر الفلاسفة وخاصة محاولة إزالته سيحدد مصير الإنسانية فضلا عن كون ازاحته مستحيلة لأنه كما بينت لا يمكن أن يخلو أي مجتمع من وجود المستويات الخمسة المحددة لعلاقة الجنسين بحسب “نحلة العيش” ودور كلا الجنسين فيها.
وعندما أقارن منزلة المرأة في التوراة-مجرد عاهرة- ومنزلتها في الإسلام -حصان-أكتشف الفرق الجوهري بين المنزلتين. ولا أريد أن أهجو التوراة وأن امدح القرآن إذ على القراء أن يقارنوا بأنفسهم حتى لا يظنوا أني اتجنى على الأولى وابالغ في مدح الثاني لكني أشير إلى أن غياب المرأة في الفلسفة فضيحة فلسفية.
ولست مجازفا إذا قلت إن في أعماق الفلاسفة موقف نيتشوي من المرأة حتى وإن لم يعلنوا عنه. فلا أرسطو ولا أفلاطون ولا سقراط-الذي تعتبر السخرية من “غباء” زوجته علامة احتقار لا حد لها- ولا ديكارت ولا كنط ولا هيجل ولا أي فيلسوف عربي أعطى للمرأة واحد من المليون بالقياس إلى ما تعطيها إياه منزلتها في القرآن التي لا علاقة لعادات العرب بتمثيلها لأنهم نكصوا إلى الجاهلية: يكفي أنه يخاطبها بعلامة جنسها ليبين أنه يخاطبها كامرأة.
وبهذا المعنى فكل الحركات التي تدعي النسوية والدفاع عن المرأة وخاصة باتهام الإسلام حداثيي العرب وحداثياتهم أهم أكثر الناس احتقارا للمرأة لأن استنادهم إلى الفلسفة ليس له معنى أسمى مما يراه كبار الفلاسفة. فهم في الحقيقة لم يتجاوزا الرؤية الأفلاطونية هي كائن لا يبقون فيه من المرأة إلا ما لا يستطيعون حذفه أعني ما ترجعها إليه بعض العجائز التونسية احتقارا للمرأة “شقفة بول”. إنها ملكية مشاعة وبضاعة مباعة لأداء هذه الوظيفة الحيوانية دون مصاحبها الروحي.
ولهذه العلة فهم يرون العلاقة بين شرف الرجل ومنزلة المرأة من دلالات التخلف لأن من يقيمها بالقيمتين الماديتين (الاستعمال والتبادل) لا يمكن أن يصلها بالشرف إذ لا أحد مستعد للموت دون عرضه إذا عرضه يقاس بثمن اقتصادي بهذين المعنيين: ولهذه العلة فالكثير من هذا الرهط قد يستعمل نسائه لارتقائه بهذين بهما.
وإذا أمكن للتكنولوجيا أن تصنع حاضنات تغني عن الحمل فيمكن أن تلتقي البويضة والحيوان في المعمل ويصبح الجنس مطلق الفصل فلا يجتمع الدوران العضوي والجمالي في الحياة الجنسية وتتحقق أحلام أفلاطون وحتى ماركس من المشاعية الجنسية مثلها مثل مشاعية الملكية. هل هذه غاية الإنسان؟
لكن حتى لو أمكن تحرير المرأة والرجل مما يثقل على الجنسي لذاته فإن المشكل يبقى في خاصية بايولوجية سابقة ولاحقة ومصاحبة للمائدة والسرير المثمرين وغير المقتصرين على ما جعلته الحياة شبه جزاء من اللذة والجمال والحب للجهد المبذول لتحقيق بقاء النوع وعلى المرأة في ذلك كلفة أكبر من الرجل.
ومهما فعلنا تقنيا للتخفيف عنها بتعويض بعض الأجزاء من دورها يبدو أنه يستحيل تخليصها من الدورة الشهرية ومتاعبها ومن البيض ومن تغذية الجنين حتى لو تحررت من إرضاعه مع ما يترتب على ذلك من هشاشة الأطفال على الاقل في السنة الأولى بعد الوضع.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي