في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل الخامس

****

في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل الخامس –

والحصيلة أن توهم العلاقة ينبغي أن تكون من جنس واحد بمنطق التفاضل غير الإضافي للوضعيات الخمس التي حاولنا وصفها دليل دغمائية فلسفية وجهل بالمعطيات الانثروبولوجية التي تتعين بمقتضى مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني في علاقته بما أرجعنا إليه الموضع الحامل لشبكة العلاقات أو لنحلة العيش.
فالموضوعان الحاملان اللذان لا يمكن تحديدهما بالجوهرية سواء كانت:
• روحية(هيجل)
• أو مادية (ماركس)
هما ما رمزت إليها بالمائدة والجنس والأولى تحدد طبيعة ما يأخذه الكائن الحي من الطبيعية ليصبح كيانه والثاني يحدد ما يحوله كيانه ليخرج منه ما يمد به الكائن الحي الحياة ليتواصل النوع بالتكاثر.
ولو اقتصرنا على النوعين المختلفين بالكيف من أشكال مفهوم “نحل العيش” لوجدنا العمران البدوي والعمران الحضري ولكل منهما مجموعة من اشكال نحل العيش وغاية العمران البدوي تنتهي بتحول كيفي يؤدي إلى بداية أشكال نحل العيش الحضري والحصيلة الجامعة هي الحضارة.
والحضارة بهذا المعنى جامعة بين العمرانين. لكن ابن خلدون لا يكتفي بالعمران بل هو يعتبرهما يشتركان في الاجتماعين وهما غير العمرانين:
• فالاجتماعان يشتركان في كونهما تنازلا (اشتراك في المنزل أو السكن) من اجل “الأنس بالعشير”
• في حين أن العمرانين تنازل (اشتراك في المنزل أو السكن) من أجل سد حاجات الحماية والرعاية.
ولهذه العلة سمى علمه باسم غريب لجمعن بين هذين النوعين: العمران والاجتماع ونسب الأول إلى البشر والثاني إلى الإنسان “علم العمران البشري والاجتماع الإنساني”.
ما يعني أن الأول يدرس شروط سد حاجات الحماية والرعاية والثاني يدرس شروط الأنس بالعشير ورمزهما فن المائدة وفن السرير.
ولما كان الأنس بالعشر غاية الاجتماع الإنساني الذي هو غاية العمران البشري صار فن المائدة وفن السرير غاية الحماية والرعاية.
ولما كانت الغاية هي المحدد للكل إذ ما عداها هو من أجلها فإن طريقتي في تصنيف العلاقة بين الجنسين-العشير-هي المحدد الحقيقي لطبيعة المنازل المتوالية للجنسين.
وكل محاولة للفصل بين هذه المراحل في العلاقة بين الجنسين بمقتضى ما دون المائدة والسرير ثم المائدة والسرير ثم ما دون فن المائدة وفن السرير ثم فن المائدة وفن السرير ثم ما فوق فن المائدة وفن السرير يفسد حياة الإنسان وهو في كل الأحوال مستحيل التحقيق رغم عنف النخب التحديثية الغبية.
ففي كل مرحلة لا يحصل إلى ما هو ممكن الحصول والعنف لا يغير من الأمر شيء بل هو يفسد الحياة ولا يجودها وخاصة حياة المرأة. ذلك أن هذه الشبكة العلائقية لا يمكن أن تكون محددة بالأحكام المسبقة التي في الاذهان بل هي تتحدد بشبكة العلاقات التي في الاعيان ومحاولات فهم بنيتها وشروطها.
مثال ذلك أن مرحلة ما دون المائدة والسرير تجعلهما غاية للفرد وللجماعة فيكون تحصيل الغذاء والجنس مقتضيا تقسم عمل بين الجنسين يجعل معيارها القدرة على الحماية للرجال والقدرة على الرعاية للنساء دون أن يعني ذلك تفاوتا في المنزلة بين الجنسين بل إن لكلتا الوظيفتين نفس المنزلة والأهمية.
فالزوجة والام والاخت والبنت نساء ولسن جواري كما وهن ذوات منزلة كريمة حتى وإن كنا من حيث الحماية تابعات للأب والأخ وللأقربين من محارمهن بحكم وظيفتهم كحماة في المرحلة التي ما يزال فيها طلب الرزق اليومي يجري في شبه حرب دائمة مع الطبيعة ومع الإنسان.
وغير صحيح أن المرأة حينها كانت جارية. فالجارية مفهوم متأخر ولا تبدأ إلا مع حصول القدر الكافي من المائدة والسرير.
ومعنى ذلك أن من يحقق الاكتفاء المشروط في المائدة والسرير هو الذي يمكن أن يصبح قادرا على التمييز بين الزوجة والجارية وهو بداية تقسيم عمل “جنسي اقتصادي”.
ذلك أن الجارية تبدأ للخدمة وتنتهي للجنس إذا توفرت فيها شروط الجمال إذ معها تزول الحشمة التي هي شرط الحياة مع الزوجة بمعنى أن المباح مع تلك مستحيل مع هذه في كل ما يصحب الحياة الجنسية الأقل التزام بقيم الحشمة و”القدر” تماما كما صار يحصل الآن مع العشيقات.
وينبغي أن أشرح هنا مفهوم الوأد. فوأد البنات كانت له علتان: العجز عن الحماية والعجز عن الرعاية.
لم يكن العربي القادر عليهما يئد بناته. فالعجز عن الحماية يورث العار.
والعجز عن الرعاية يورث جريمة أكبر. فموت البنت جوعا جريمة أشنع من الوأد فهو من جنس الموت الرحيم بالقياس إلى عذاب الجوع الذي لا مخرج منه. وطبعا الإسلام حرر البشر منه بأبوات الإنفاق.
وإذن فتوهم الجواري موجودة في مرحلة ما دون المائدة والسرير من الأخطاء التي لا يمكن أن يقع فيها من طبق مفهوم “نحلة العيش” على العلاقة بين المرأة والرجل. وجود الجواري يقتضي تحقق الشروط الدنيا من مرحلة المائدة والسرير.
وهم ممكن للقلة من الاقوياء إذن يصبحون اثرياء النهب والسلب والسبي.
ولكن عندئذ يكون ذلك مع الرجال كما مع النساء فيتكون مفهوم العبد والامة وتتكون تجارة من العبيد والإماء وهي تجارة من جنس تجارة الصيادين: فالأقوياء يصطادون من لا يستطيع حماية ذاته وحماية نسائه ثم تتكون تجارة العبيد بعد أن يسد الصيادون حاجتهم منهم. والأمر كذلك في العالم كله إلى الآن.
ومن أراد أن يجد دليلا على بقاء الحال على ما هي عليه إلى الآن رغم كذبة زوال العبودية فيلدرس ما يجري في البلاد التي اشتهرت بالسياحة عامة والتي لم تعد تخفي علاقة السياحة عامة بالسياحة الجنسية خاصة. وسيرى دون كبير عناء أن تجارة الجنس والعبودية موجودة في العالم عامة غنيه وفقيره.
واستكمالا لقضية وأد البنات في الجاهلية أضيف عنصرا اساسيا:
لو كان العرب يئدون البنات أنهم بنات لما تواصل النوع. كانوا يئدون بسبب العلتين اللتين ذكرتهما. وأبواب الإنفاق في الدولة الإسلامية هي بداية كونية لمفهوم الدولة الراعية لمن يعجز عن الرعاية كما هي حامية لمن يعجز عن الحماية.
ويكفي أن ننظر الآن في علاقة أهل المدن من الأغنياء ببنات أهل الريف من الفقراء أو في استيراد الخليج للخدم وحتى للجواري من بلاد العرب والعجم. فهذه عبودية حتى وإن زعمت تعاقدية.
وهي عبودية مضاعفة من البلاد المصدرة ومن البلاد الموردة وكل ذلك مناف لقيم الإسلام ومعاني الإنسانية.
بل إن ابن خلدون وصل إلى حد اعتبار المستخدم لغيره أحقر الخادم لأنه فقد القدرة على الاعتماد على نفسه في رعايتها. وكنت ولا زلت دائما أعجب من دعيات الدفاع عن المرأة وهن أكثر نساء العالم حطا من كرامة خادماتهن وفقيرات النساء في بلادهن بل وحتى الرجال: المرأة “مورد رزق إيديولوجي”.
سيظن الكثير أن المنزلة التي أوليها لما رمزت إليه بالمائدة والسرير ولفن المائدة وفن السرير وما اشتققته منهما قبلهما وبعدهما وبينها مع التركيز على أهمية البدن أو الجسم الإنساني أن قائل بالجوهرانية المادية. ذلك ان الكثير يتصور البدن مادة بمعنى كتلة جرمية وليس هو بدوره بنية علائقية.
ومثلما يتصورون البدن مادة يتصورون العالم الخارجي الطبيعي والتاريخي اللذين يتعامل معهما الإنسان بتوسط بدنه في العلاقتين العمودية مع الأول لسد حاجاته والأفقية لتنظيم هذا السد والأنس بالعشير مادي هو بدوره فأكون وكأني ملت إلى الماركسية. لكني لا أفهم معنى المادة في هذه الحالات.
فكون أرى بدني متعينا في حيز ذي امتداد من المكان وفي حيز ذي مدة من الزمان والعالم من حوله وكأنه هو بدوره حيزين جنيسين من المكان والزمان كلاهما مناسب لمداركي الحسية لا يعني أني أعلم طبيعتهما بردهما إلى مادة أو إلى روح أو إلى مزيج منهما أو إلى شيء آخر مجهول: ما أعلمه هو العلائق.
وإذا أمكن لي أن أسمي شيئا من هذه العلائق بوصفه “طبيعة” ما فهو النظام القانوني الممسك بالعناصر التي تدركها حواسي. وهو ليس مادة ولا روح رغم أني أستطيع أن اعبر عما أعلمه منه بجمل رمزية ذات اسميها رياضية بمعنى أنها نسب بن مقومات عنصرية افترضها لملء خانات معادلة رياضية.
وهذه “الحقائق” هي التي أوجبت التخلص من خرافة العلاقة الجدلية التي صارت “عصا سحرية” عند كاريكاتور الحداثة وحتى عند كاريكاتور الأصالة الذي صار يستعملها تحت مسمى التدافع لكأنه توجد علاقة بين عنصرين متناقضين في أي مجل وليس علاقة يسهم فيها العالم كله كما حاولت بيانه.
وليس لأننا نلغي الكثير من العناصر المتدخلة حتى نستطيع التعامل مع الوضعيات المعزولة بسبب محدودية إدراكنا فإن تلك العناصر ملغاة وفاقدة لدورها. لا شيء مما يحدث فينا أو في العالم او في ما بينا وبين العالم يمكن استثناؤه مما يجري في النظام المحدد للعلاقة بين جنسين لا يتواصل النوع إلا بهما.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي