في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل الثاني

****

في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل الثاني –

منطلقنا في فهم العلاقة بين الجنسين هو ما يمكن تسميته بـ”قانون المائدة والسرير” من منظور “نحلة العيش” المفهوم الذي وضعه ابن خلدون وهو مفهوم متجاوز للجوهرانية المثالية (هيجل) والمادية (ماركس) في فلسفة التاريخ والحضارة لأنه يعتمد مفهوم شبكة العلاقات دون تحديد طبيعتها بهذين المفهومين لأنها ليست مثالا (روح) ولا مادة (جرم).
وما يحول دون فهم ذلك هو مواصلة ابن خلدون استعمال مفاهيم هيلومورفية تجعله وكأنه يواصل الرؤية الأرسطية. لكن مفهومي المادة والصورة عنده مختلفان تماما عما هما عند أرسطو. ويكفي تعريف الإنسان الذي يستمد منه مضمون ثورته والذي لا ينطلق من كونه “حيوانا عاقلا” بل بالذات من العناصر التي صارت أبواب المقدمة أو الكتاب الأول من العبر أي الستة التي وردت فيها.
فالتعريف لا يعتمد على مبدأ الجنس والفرق النوعي أي من الجواهر الثواني بل مما يمكن أن يعتبر مقومات ذاتية شبكية تشمل كل المحددات للوجود الإنساني من حيث هو كائن طبيعي ثقافي.
فلأول أمرة في تاريخ الفكر الفلسفي يكون التعريف بما يعرض وليس بجوهر: وما يعرض للإنسان لا هو مادة ولا هو صورة ولا نعلم طبيعته ماهي.
ولأورد النص:” ونخن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضع بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة وتدفع بها الأوهام وترفع الشكوك” ثم يأتي تعريف الإنسان بهذه الأعراض والأحوال: وتلك هي الأبواب الستة:

  1. العمران البشري على الجملة
  2. العمران البدوي
  3. الدولة
  4. العمران الحضري
  5. الصنائع والمعاش
  6. العلوم واكتسابها
    ولنعد الآن إلى موضوعنا المباشر أعني العلاقة بين الجنسين من هذا المنظور الذي لا يمكن أن يفهم بالمنطق الأرسطي (زوجية القيم مع عدم التناقض والثالث المرفوع وثبات الهوية) ولا بالمنطق الهيجلي (ثلاثة القيم مع التناقض والثالث الموضوع وتغير صيرورة الهوية). فقد بدا وكأن المراحل الخمس التي ميزت بينها في الفصل الأول (مرحلة ما دون المائدة والسرير-مرحلة المائدة والسرير-مرحلة ما دون فن المائدة وفن السرير-مرحلة ما فوق المائدة والسرير) وكأنها مراحل متوالية توليا يجعل ضهور الخالفة ملغية للسالفة لكأن الإنسانية تكون كلها في نفس المرحلة فتتجاوز السالف بالخالف.
    وكل محاولات فرض منطق الخالف على السالف أو العكس هي التي تحدث أنواع الخلل المجتمعي في نماذج العيش لأن الخالف له جاذبية الجديد والسالف جاذبية العادة فيحصل تنازع نماذج العيش وتمانعها بصورة قد تبدو للكثير تأييدا للمنطق الجدلي إذ توجد ثنائية من جنس معنى التناقض الجدلي.
    لكن ذلك محض تبسيط لأن كل مرحلة من المراحل متعددة المستويات وليست واحدة إلا بالمقابل مع التي تليها والتي تتقدم عليهما وكلتاهما متعددة المستويات. ومن ثم فالظاهرة هي بدورها شبكة علاقات وليست تناقضا بين أمرين جوهريين متعينين في روح أو في طبقة. وإذن فلا معنى لآلية التغير بالصراع الجدلي إلا عندما نقبل بالتبسيط الذي يقصر الأمر على حدين متناقضين. لكن الزوجية الفاعلية بحق ليست تناقضية بل هي تكاملية دائما وخاصة في الظاهرات الحية.
    التوالي بين المراحل صحيح بالنسبة إلى المراحل من حيث ظهورها بمعنى أننا لا يمكن -كما بين ابن خلدون-أن نجد العمران الحضري قبل العمران البدوي من حيث الظهور. لكن بعد الظهور لا يمكن تخيل الحضري موجودا والبدوي زال من الوجود بل إن تلازمهما حتمي وعلامته تحاوط الحواضر والبوادي.
    والتحاوط-كلاهما محيط ومحاط-لا يوجد في الأعيان فحسب بل يوجد في الأذهان بمعنى أن الإنسان هو ذاته حضري وبدوي دائما في تشاجن لا يغفل عن إدراكه إلا من يتوهم أن الطبيعة والثقافة في وجود الإنسان قابلان للانفصال احداهما عن الأخرى أو بصورة أدق التشاجن الدائم بين الطبيعي والمكتسب في الإنسان وخاصة في علاقة الجنسين.
    وإذا اعتبرنا علاقة الطبيعي والمكتسب ودورها في علاقة البشر بعضهم بالبعض وخاصة إذا كانا من جنسين مختلفين تقبل الترجمة إلى ما هو سلوك تعاقدي قبل الخصام وبعد الخصام فإننا نعتبر القبل خاضعا للتعالي على الطبيعي بالخلقي والبعد بالقانوني: وكلاهما يتمازج فيهما الطبيعي والثقافي.
    وفي مثال العلاقة بين الجنسين لو صارت كلها خاضعة للعادات المكتسبة لأصحبت مسرحية ونفاق متبادل ومن ثم فما يحييها هو ما فيها مما يعبر عما يتعالى على المكتسب وخاصة أحكام العشق إن وجد أو أحكام عكسه إن وجد وكلاهما لا يلبس قفازات العادات المكتسبة وبذلك يقاس الصدق فيهما كليهما.
    وحينها يبدو معبرا عن الصدق في الإرادة والكراهة في وعي المرأة العميق هو البداوة والطبيعي وما يبدو معبرا عنهما في وعي الرجل هو المكتسب والحضاري لكأن القرب من الحيوانية والبعد عنها يمثلان معيارين قويين في العلاقة وخاصة عندما تنظر إلى ذلك في المجتمعات التي ابتعدت حضاريا عن الطبيعة.
    ومن عاش في أوروبا يفهم ذلك جيدا بل وحتى من يتابع سلوك السواح يفهمه. وليس القصد رصد السلوك الإنساني في الأعيان فحسب بل البحث فيه في ما يصحبه مما تتصوره الأذهان وما يعبر عما يتجاوز الأعيان والأذهان أعني في الفنون والآداب التي تصفه ليس كما يجري فعلا بل أيضا كما يتجاوزه الإنسان في لامتناهي الخيال.
    فالإنسان بمقتضى الزمان التاريخي ليس خاضعا لما في الأعيان من الأحداث ماضيها وحاضرها ومستقبلها بل هو خاضع كذلك لتذكر الأول وتأويل أحاديثه لأنه لم يعد موجودا ولتوقع الثاني بتحليل أحاديثه فيكون حاضره متميزا بالتوالج شبه المطلق بين الحدث والحديث ولا معنى للتمييز بين واقع وخيال إذ هو نوع من الغليان والفوران الذي لا يكاد الافتراضي والفعلي ينفصلان إلا نظريا.
    وبهذا يمكن أن نفهم نظرية أرسطو ونظرية ابن خلدون المتقاربتين وإن كانت الثانية أعمق في ما يتعلق بمنزلة القيم عامة والقيم الحاكمة في علاقة الجنسين. فأرسطو يعتبر هذه القيم بمعيار المستوى الذهني قابلة للقسمة إلى ثلاثة:
  7. من لم يصلوا إليها
  8. ومن تجاوزوها
  9. ومن يعيشون بها وهم بين هذين الحدين.
    والمعلوم أن أفلاطون يلغي تماما وجود المرأة لأنها يعاملها كما تعامل الملكية المشاعة على الأقل بالنسبة إلى الطبقتين الأوليين أي الحكام (أصحاب العقل) والحراس (أصحاب الغضب) ولا يبقى عليها بمعنى الزوجة والأسرة إلا للطبقة الدنيا أو (أصحاب الشهوة). والمسألة لا تبدو موجودة عند ابن خلدون.
    وكنت متحيرا أمام هذا الغياب ولم أفهم عمق رؤية ابن خلدون قبل الوصل بين مفهوم “نحلة العيش” ودورها في الحب وفي الجنس. فهو يرفض تفسير نكبة البرامكة برد الرشيد على علاقة مزعومة لأخته مع البرمكي محتجا بالقرب من البداوة ويكذب انتحال النسب في بعض دول المغرب العربي بنفس الحجة.
    لكن الأهم من ذلك هو الطابع الدوري بين أقصى مراحل البداوة -العرب بمعنى أولى نحلة عيش وهي ليست خاصة بالعرب كجنس بل هي مرحلة انثروبولوجية في تكون العمران البدوي ولا يستثنى منه شعب مقيم في الصحاري.
    وقد ذكر مع العرب كجنس الأكراد وكل الشعوب التي تعيش في الصحراء على رعاية الأبل-وآخرة نحله أو آخرة مراحل الحضارة وهي كذلك مرحلة انثروبولوجية: الترف.
    والأولى أشبه بالطفولة حيث يكون السلوك خاضعا لمنطق سد الحاجة بما يوجد مباشرة دون بعيد نظر -مثال ذلك وصف ابن خلدون لسلوك بني هلال مع الحضارة واستعمال خشب المنابر لطهي الأكل مثلا. والثاني أشبه بالشيخوخة حيث يكون السلوط خاضعا لمنطق الإعياء العضوي وفقدان العنفوان والاستسلام لثمالات ما بقي من قوة في الكيان العضوي.
    ولعل الفرق الوحيد هو أن ما يحصل بليونة الحضارة في المرحلة الأخيرة من الحضارة أو الترف يحصل بعنف البداوة في المرحلة الأولى منها أو التوحش: الجنس يصبح شبه مشاع ولا يكاد يتميز فيه جنس عن جنس من الجنسين بل أكثر من ذلك لا يكاد يوجد فاصل بين الإنسان والحيوان في المسألة الجنسية.
    فالمثلية الجنسية تصبح عادية وزنا المحارم والعلاقة الجنسية مع الحيوان وكل ما يسميه ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية” الناتج عن العنف في التربية والحكم-حتى قبل وجود الدولة في البداوة وبعد فسادها في الحضارة-دور التوحش في الأولى أو العنف كقوة كسلطة والتخنث في الثانية أو الجاه كسلطة.
    وحتى نفهم الرؤية الخلدونية عندما تترجم بالمفهومين-نحلة العيش وعلاقة الطبيعية بالثقافة-ينبغي أن نذكر أنه يرفض بناء نظرية الاجتماع والسياسة على علم النفس الافلاطوني الأرسطي: كلاهما يبني الجماعة والدولة على خاصية بايولوجية ثابتة هي عندهما مثلث القوى النفسية (النفس هي صورة البدن بالتعريف الأرسطي وحتى الأفلاطوني مع قوله بفصلها عنه وتقدمها في الوجود) أي العقل والغضب والشهوة.
    لكنه هو يعكس: لا يؤسس الجماعة والدولة على بينة النفس بل هو يعتبر الخصائص النفسية التي يمكن فهمها عضويا بالصورة الأفلاطونية والأرسطية وإن كان فهمهما تبسيطيا لأن الفصل بين هذه القوى لا يطابق حقيقة الكيان العضوي للإنسان-بكونها مواد تشكيلية تصوغها “نحلة العيش” فيكون خصائص النفس ثمرتها.
    ولذلك فعنده أن “نحل العيش” في العمران البدوي أقرب إلى الفضائل و”نحل العيش” في العمران الحضري أقرب إلى الرذائل ولكن ذلك لا يعني تفضيله للعمران البدوي على العمران الحضري. وهنا يأتي وجه الشبه بينه وبين أرسطو: بداية البدوي متوحشة وغاية الحضري متخنثة والأول لـم يصل إلى اعتدال القيم والثاني تجاوزه فتلتقي البداية والغاية في عدم التوازن القيمي (رؤية أرسطو).
    وقرب البداوة هنا لا يعني البلوغ إلى غاية القيم بل يعني أن السعي إليها قوي. وقرب الحضارة إلى الرذائل يعني بداية التخلي عن الفضائل ما يجعل الوصول إلى الترف هو نهاية السعيين لأن البدوي عندما يغرق في الحضارة مباشرة دون التدرج يكون أفسد من الحضري لأن التوق الثاني يلغي التوق الأول بل ويؤدي الصراع بينهما إلى نوع من الوعي الزائف: باطنه يبقى بدويا فيبالغ في ظاهرة حتى يجعل غيره يعتقد أنه تحضر.
    وأعتقد أن جل النخب العربية التي تدعي الحداثة ينطبق عليها هذا القانون الانثروبولوجي. فإدمانها عن قشور الحضارة وخاصة من كان منهم قد أصبح من الأغنياء الجدد -وتلك علة تكالبهم على التقرب من المستبدين-أو المتثاقفين الجدد الذين تسكرهم زبيبة فتصبح الشعارات الحداثية مصعدا للمنازل التي تحددها الشلل والحانات ولقاءات السفهاء الذين يعتبرون أنفسهم قادة الرأي العام.
    والمعلوم أن ابن خلدون-لكأنه يعتذر عن مشاركته في السياسة وما يلتصق بها من نفاق وتقرب من ذوي السلطان- قد اعتبر ذلك من شروط السعادة (المادية) في المجتمعات التي يكون السلطان فيها بيد المستبدين والفاسدين. لكنه مع ذلك يعيب على النائين بأنفسهم عن نس السلوك معتبرا ذلك ناتجا عن كبر وعدم مشاركة في قيادة الرأي لظنهم الكمال في أنفسهم فينعزلون بسبب هذا الكبر الذي يعتبره ظاهرة مرضية حائلة دون التأثير في الحياة العامة.
    وإذن فيوجد ما بعد بداية البدوي وما قبل نهاية الحضري وهما عنده مستوى القيم الحقيقي أعني أن البداوة تنتهي إلى اكتشاف قيم الفضيلة فتؤسس الدول والمدن. والحضارة تنتهي إلى اكتشاف قيم الرذيلة فتخرب الدول والمدن. الرؤية تبدو غريبة ولكنها تفهما إدراكه لعلاقة عميقة بين الطبيعة والثقافة.
    فعنده أن الثقافة من حيث هي تدجين للإنسان تنتهي إلى النكوص به إلى ما دون الفضيلة. فالفضيلة هي ما يعرف به الإنسان “رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”. فيكون الإنسان في البداية لم يدرك هذه الرئاسة لأنه يخضع للقوة (قانون الطبيعة) وفي الغاية يفقد الرئاسة التي هي سلطان الذات على ذاتها شرطا في سلطانها على ما يجعلها أهلا للاستخلاف (قانون الغريزة).
    فتكون نهاية البداوة اكتشاف ما يتعالى على القوة وهو تأسيس ما يسميه ابن خلدون بالوزع الأجنبي أو القانون والدولة. وتكون نهاية الحضارة اكتشاف ما يتعالى على القانون وهو تأسيس ما يسميه ابن خلدون بالترف أو انخرام القانون والدولة التي تصبح استبداد الغرائز عند الحاكم والمحكوم.
    لكن هذه المقابلة المطلقة في فكر ابن خلدون وهي التي تؤسس نظرية أعمار الدول والحضارات قابلة للتعديل بما حاولنا بيانه من التماعي الدائم للمراحل التي ذكرتها (ما دون المائدة والسرير فالمائدة والسرير فما دون فن المائدة وفن السرير فما بعدهما) بفضل المرحلة الوسطى بين الأولين والأخيرين.
    فالمرحلة الوسطى-ما دون فن المائدة وفن السرير-مرحلة يكون فيها فن المائدة وفن السرير منشودين بمعنى أنهما مثالان أعليان يجعل أساسي الحياة العاطفية غاية يسعى إليها الجنسان وليست أمرا تحقق فصار مجرد عادة يطلب الإنسان تحقيقهما المطلق ثم تجاوزهما إلى الترف الذي هو نهاية الحياة السوية.
    وهذه المرحلة الوسطي بعد الأوليين وقبل الأخيرتين مضاعفة فهي متجاوزة لمرحلة ما دون المائدة والسرير بداية للبداوة والمائدة والسرير غاية للبداوة وقبل الأخيرتين تصبو للأخيرتين دون الوصول إليهما لأن التحقق المطلق للرابعة ينتهي إلى الخامسة وهي مرحلة الترف القاضية على الإنسان.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي