****
في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل الثامن –
والآن وصلنا إلى خاتمة المحاولة:
هل كان ما دون المائدة والسرير يمكن أن يصل إلى المائدة والسرير لو لم يكن للإنسان بعض وعي بكونه “رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”؟
هل كان يمكنه أن يتجاوز الحيوانية فيسموا إلى الإنسانية جمعا بين السيادة (قوة طبعية) والرئاسة (قوة وجدانية)؟
هل كان ذلك يكون لو كان الأب والام يعاملان الأبناء بقيم التبادل بدلا من قيم التواصل؟
هل يمكن للحيوان ذكره أو انثاه أن يجوع ليغذي ابنه أو بنته؟
صحيح أن بعض البشر في عصر الوحشية التي دون المائدة والسرير قد يأكل أبناءه أو أبناء غيره إذا جاع بل وكان يتصور مؤلهاته تحتاج إلى أضاحي بشرية. لكن ذلك كان استثناء وإلا لما تم تجاوزه.
وتلك هي رمزية قصة ابراهيم مع اسماعيل.
وهي قصة تذكر بمثلث أفلاطون في نظرية الألوهية التي اراد وضعها في تأسيس حكمه على الجناية الكبرى:
- نفي وجود الله.
- اعتباره غير معني بالعالم.
- اعتباره قابلا للرشوة وهي الاضاحي من أجله.
وقد يعاب على إبراهيم أنه أبقى على الأضحية.
لكنها ليست رشوة بل هي علامة تحرر الإنسان من رمز القيم الاقتصادية من أجل القيم الوجدانية.
فالحيوان المضحى به ليس القصد منه رشوة الله بل القصد منه تحرير الإنسان من الملكية من عرفان من الإنسان بوصوله إلى الوعي بكونه رئيسا بالطبع لأنه خليفة.
وللقرآن في ذلك آية تنفي أن يكون لحم الضحية أو دمها هو ما يعني الله بل دلالة الفعل الذي هو تواصل وجداني مع دلالة الحادثة التي وقعت لإبراهيم والتي هي بداية الوعي بأن الإنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له وذلك هو معنى الإنسانية أو أصل لكل المعاني التواصلية.
فالمعنى التواصلي للمائدة هي “اطعام اليتيم والمسكين” والمعنى التواصلي للسرير “هي العفة” والمعنى التواصلي لفن المائدة هي العطاء الكرم والمعنى التواصلي لفن السرير هو الحب والمعنى التواصلي لأصل الفنون كلها هو مقومات الإنسان: حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود.
والمراحل التي هي دون المرحلة الثالثة التي هي الوعي المشرئب إلى مرحلة فن المائدة والسرير تمثل التدرج الإنساني نحو معاني الإنسانية بحسب هذا التعريف. وما يأتي بعد مرحلة فن المائدة من تجاوزات هو بداية الترف الذي يعتبره ابن خلدون غاية الحضارة بمعنى نهايتها وليس بمعنى فضيلتها.
فالإسراء 16 ليس فيها ظلم عندما تهلك القرية كلها لأن المترفين فسقوا فيها.
ذلك أن الترف هنا ليس صفة للأغنياء وحدهم بل هي كما وصفها ابن خلدون في الفصل الذي خصصه للترف هو فساد معاني الإنسانية في الغني والفقير على حد سواء: النكوص إلى غلبة قيم التبادل المادي على قيم التواصل الوجداني.
فكل المعاني التواصلية تزول بالتدريج حتى يصبح الإنسان للإنسان ذئبا بسبب الغنى والفقر في آن: الأول يفعله للاستمتاع بما يظنه قوته والثاني يفعله بما يعتبره ثأرا من وضعه ويصبح كل شيء مباحا ولعل أفضل علامة على ذلك هو ما صار عليه أرقى فنون التلهية أعني السينما عند “طابخيه” وعند “آكليه”.
وقد يكون ما يحدث في “واقع” العرب أكثر تمثيلا لهذه الحالة من السينما الأمريكية: ففيه الطابخون هم الحكام ونخبهم من الكاركاتوريين والآكلون هم الشعب المسكين الذي يرى بأم عينيه الموبقات التي توجد في السينما بوصفها ذات وجود افتراضي لكنها عندنا توجد بوجود فعلي دونه الافتراضي بشاعة.
فكل قصور الحكام وذوي الجاه أشبه بمعامل الوجود الافتراضي عند الطباخين الذين يسمون فنانين وكل المدن السياحية في الشرقين الأدنى والاقصى أشبه بالآكلين في الافتراضي والمأكولين في الفعلي. فالسائح الذي يزور المدن السياحية شرقية وسطى أو شرقية قصوى يطلب المائدة والسرير بضاعتين بلا روح.
وفي المقابل فالشباب الذي يرتمي في البحر من أجل الوصول إلى الغرب ماذا يطلب؟ هل هو يفعل ذلك من أجل تواصل وجداني أم من أجل تبادل مادي صار ما يحلم به من “جنة افتراضية” في الغرب أسمى قيمة من حياته التي كان يمكن أن يجعلها تصبح مبدعة لشروط المائدة والسرير بمجرد وعيه برئاسته بالطبع؟
فلو كونت الثقافة الشباب بجنسيه فجعلته يدرك معنى التواصل الوجداني المقدم على التبادل المادي لكونه شرطه هل كان يعجز فلا يفهم أن الجنة الافتراضية التي يذهب إليها قد تمكنه من قشور الكيان الكريم بمقابل هو التخلي عن شروط الكرامة التي جوهرها هو فعل تحقيقها علامة على الرئاسة بالطبع.
وهكذا إذن فعندنا مستويات التحديد بعلاقتي الإنسان العمودية مع الطبيعية والافقية مع الإنسان : - ما دون المائدة والسرير
- المائدة والسرير
- ما دون فن المائدة وفن السرير
- فن المائدة وفن السرير
- ما بعد فن المائدة والسرير.
وهي كلها شبكات علائقية متجاوزة لجواهر الأعيان ولأفكار الأذهان.
وهي إذن لا مادية فتكون ماركسية ولا روحية فتكون هيجلية بل هي من طبيعة مجهولة ولا ينسب إلى جواهر الأعيان (مادة) أو جواهر الاذهان (مثال) إلا بسبب وهم أرسطي يجعل العلاقات صادرة عن نواة جوهرية هي الطبائع في حين أننا نرى هنا ليس طبائع بل علاقات لا نعلم طبائع مصادرها وعلى علل تأثيرها.
كون كيان الإنسان تصله بالطبيعة الحاجة إلى شروط بقائه ككائن عضوي وكون بقائه ككائن عضوي مع الجنس الثاني يمثلان شرط بقاء النوع أمران لا نعلم منهما إلا كونهما علائق مشروطة وشارطة لأمرين نجهل حقيقتهما: فلا الطبيعة ولا الحياة بالأمرين المعلومين لنا إلا فرضيا ككيانين نجوهرهما ذهنيا.
وإذا جوهرناهما من دون أن نضع وراءهما أو فيهما جوهرا أعلى منهما نعتـبـره الناظم (شارع) أو الخالق (بارئ) أو كلاهما معا. وكلاهما موجود في الرؤيتين الفلسفية والدينية إذ حتى القرآن فهو يمكن أن يفهم بقراءة الخلق عن عدم وبقراءة الناظم لموجود غير مخلوق هو المادة (وكان عرشه على الماء).
وإذا وصفنا الله والعالم بالقدم فإن ذلك لا يعني أن القدم الذي للخالق من جنس القدم الذي للمخلوق. فالعالم المخلوق مدين لله الخالق ليس بوجوده فحسب بل وبقدمه بمعنى أن الله خالق بالذات والعالم مخلوق بالذات والخالقية مقوم ذاتي لله والمخلوقية مقوم ذاتي للعام وكلاهما قديم دون زمانية تقتضي أن يوجد سابق ولاحق لكأن الله لم يكن خالقا ثم أصبح خالقا والعالم لم يكن مخلوقا ثم صار مخلوقا.
ونفس القول بالنسبة إلى الآمر والمأمور. فالآمرية مقوم ذاتي لله والمأمورية مقوم ذاتي للعالم. ومعنى ذلك أن الله لما يصف نفسه بكونه له الخلق والأمر فهو يعني أنه له الخالقية والآمرية والعالم له المخلوقية والمأمورية ومن ثم نفهم معنى تسبيح كل شيء لله ويأتيه طوعا أو كرها. فعلا الخلق والأمر ليسا حادثين ومثلهما مفعولهما.
ولا ندعي بذلك علما بالغيب: فالقرآن يقول ذلك والإنسان لا يستطيع تصور غير ذلك دون أن يزعم أن ذلك علم يستمده من التضايف بين المعنيين وحده بل هو مجرد تصور لا يفيد الحقيقة في ذاتها لو لم يكن القرآن هو الذي جعله أفضل الخيارين في الممكن عقلا: فالممكن عقلا قد يوجد وقد لا يوجد.
وما يفيد وجوده في هذه الحالة هو ما يؤيده القرآن نصا.
وكل تخريف الفلاسفة والمتكلمين يتأسس على وهم العلم بطبيعة المادة واعتبارها دالة على النقص ومثلها ما يتصورونه خاصا بها مثل الحركة والتغير لكأن الصوري يمثل التمام والثبات الكمال. وهذا موروث على فلسفة أفلاطون (المادة هي الشر) وأرسطو (المادة هي التغير والقوة في مقابل الصورة التي هي الثبات والفعل). لكن القرآن لا يكون ذلك: فالمدد الإلهي مشتق من المادة وهو إمداد من مادة أي جوهر الموجود وكل ذلك إلهي لأنه سر القيام المستمد من قيومية الحي القيوم أي من الله. والله نفسه كل يوم في شان.
ومعنى ذلك أن السخفاء الذين يتهمون ابن تيمية بالقول بقدم العالم ويكفروه لذلك لم يتدبروا القرآن جيد التدبر لأن ذلك -كما بين ابن رشد في رده على المتكلمين- لا يتنافى مع القرآن بل العكس هو الصريح في الكثير من آياته خاصة إذا قلنا بالخلق المستمر بمعنى أن بقاء العالم القديم مشروط بعناية الخالق القديم: وذلك هو ما يقوله ابن تيمية.
أما السلسلة الثانية فهي ما يمكن اعتباره مقومات أحياز العالم المحيط بالإنسان وهو طبيعي وتاريخي في آن ومقومات أحياز الإنسان نفسه المحيط بالعالم بفضلها وهي أيضا مقومات طبيعية وثقافية أعني الحدين اللذين تصل بينهما السلسلة الأولى المتعلقة بما يؤخذه الإنسان من الطبيعة وما يعطيه للحياة.
فأحياز العالم المحيط بالإنسان الطبيعي فيهما هو المكان كجغرافيا طبيعية والزمان كتاريخ طبيعي بوصفهما كليهما شارطين لأحياز الإنسان من حيث هو آخذ من الأول ومعط للثاني أو وسيطا بينهما في الوجود الطبيعي وفي الوجود الحضاري بإبداع حيزين آخرين هما الثروة والتراث ويوحد ذلك كله بمرجعية.
والمرجعية التي توحد الأحياز الأربعة في العالم المحيط بالإنسان والاحياز الأربعة المناظرة لها في كيان الإنسان (بدنه و”روحه” وما يختزنه بدنه مما يستمده من حيز الجغرافيا وما تختزنه “روحه” مما تستمده من حيز التاريخ) في رؤية وجودية دينية وفلسفية دائما للتلازم بين النظر (العلم) والعقد (الإيمان) دائما.
ولا معنى للنظر والعقد إلى لتأسيس العمل والشرع. وهذه الشروط الأربعة هي التي تحقق التعالق بين نوعي الاحياز أحياز العالم وأحياز الإنسان. فالنظر والعقد شرطان لعلاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة لأنه لا يستطيع أن يأخذ منها ما لم يعلم قوانينها: شرط التسخير.
وتطبيق النظر والعقد لتحقيق التسخير شرط في تحقيق معنى الرئاسة بالطبع أو التمكن من المائدة والسرير بالعمل والشرع. ولا يمكن تصور عملا وشرعا لتنظيم حياة الجماعة التي تتعاون للحماية والرعاية بقيم التبادل من دون أن يتقدم على ذلك قيم التواصل التي تمكن البشر من التلاقي بدل الاقتتال.
مع القليل من التدخل والإضافات التي ليس إتيانا بما ليس موجودا في المقدمة بل وصلا بين عناصرها التي تعاني من عدم النسقية النظرية لأن ابن خلدون لم يدع أنها عمل تام لا يحتاج إلى الاستكمال بدليل ما قاله في خاتمتها. ونأمل المزيد منا أو من غيرنا.