في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل الثالث

****

في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل الثالث –

العلاقة بين الجنسين بمقتضى ما يمكن تسميته بـ”قانون المائدة والسرير” في منظور “نحلة العيش” المفهوم الذي وضعه ابن خلدون واعتبرته متجاوزا للجوهرانية المثالية (هيجل) والمادية (ماركس) لأنها تعتمد مفهوم شبكة العلاقات دون تحديد طبيعتها تحديدا يقبل الرد إلى الـمثالية (روحية) أو إلى الـمادية (أشياء متجسمة).
بدا وكأن المراحل الخمس التي ميزت بينها (مرحلة ما دون المائدة والسرير-مرحلة المائدة والسرير-مرحلة ما دون فن المائدة وفن السرير-مرحلة ما فوق المائدة والسرير) وكأنها مراحل متوالية توليا يجعل ظهور الخالفة ملغية للسالفة لكأن الإنسانية تكون كلها في نفس المرحلة فتتجاوز السالف بالخالف.
وكل محاولات فرض منطق الخالف على السالف أو العكس هي التي تحدث أنواع الخلل المجتمعي في نماذج العيش لأن الخالف له جاذبية الجديد والسالف جاذبية العادة فيحصل تنازع نماذج العيش وتمانعها بصورة قد تبدو للكثير تأييدا للمنطق الجدلي إذ توجد ثنائية من جنس معنى التناقض الجدلي.
لكن ذلك محض تبسيط لأن كل مرحلة من المراحل متعددة المستويات وليست واحدة إلا بالمقابل مع التي تليها والتي تتقدم عليهما وكلتاهما متعددة المستويات ومن ثم فالظاهرة هي بدورها شبكة علاقات وليس تناقضا بين أمرين جوهريين متعينين في روح أو في طبقة.
وإذن فلا معنى لآلية التغير بالصراع الجدلي.
التوالي بين المراحل صحيح بالنسبة إلى المراحل من حيث ظهورها بمعنى أننا لا يمكن -كما بين ابن خلدون-أن نجد العمران الحضري قبل العمران البدوي من حيث الظهور. لكن بعد الظهور لا يمكن تخيل الحضري موجودا والبدوي زال من الوجود بل إن تلازمهما حتمي وعلامته تحاوط الحواضر والبوادي.
والتحاوط-كلاهما محيط ومحاط-لا يوجد في الأعيان فحسب بل يوجد في الأذهان بمعنى أن الإنسان هو ذاته حضري وبدوي دائما في تشاجن لا يدركه إلا من يتوهم أن الطبيعة والثقافة في وجود الإنسان قابلان للانفصال احداهما عن الاخرى أو بصورة أدق الطبيعي والمكتسب في الإنسان وخاصة في علاقة الجنسين.
وإذا اعتبرنا علاقة الطبيعي والمكتسب ودورها في علاقة البشر بعضهم بالبعض وخاصة إذا كانا من جنسين مختلفين تقبل الترجمة إلى ما هو سلوك تعاقدي قبل الخصام وبعد الخصام فإننا نعتبر القبل خاضعا للتعالي على الطبيعي بالخلقي والبعد بالقانوني: وكلاهما يتمازج فيهما الطبيعي والثقافي.
وفي مثال العلاقة بين الجنسين لو صارت كلها خاضعة للعادات المكتسبة لأصحبت مسرحية ونفاق متبادل ومن ثم فما يحييها هو ما فيها مما يعبر عما يتعالى على المكتسب وخاصة أحكام العشق إن وجد أو أحكام عكسه إن وجد وكلاهما لا يلبس قفازات العادات المكتسبة وبذلك يقاس الصدق فيهما كليهما.
وحينها فما يبدو معبرا عن الصدق في الإرادة والكراهة في وعي المرأة العميق هو البداوة والطبيعي وما يبدو معبرا عنهما في وعي الرجل هو المكتسب والحضاري لكأن القرب من الحيوانية والبعد عنها يمثلان معيارين قويين في العلاقة وخاصة عندما تنظر إلى ذلك في المجتمعات التي ابتعدت حضاريا عن الطبيعة. ومهما زعم من لطف الجنس اللطيف فأكثر شيء يحتقره هو أن يصبح الجنس غير اللطيف لطيفا إلى حد التشبه به.
ومن عاش في أوروبا يفهم ذلك جيدا بل وحتى من يتابع سلوك السواح يفهمه. وليس القصد رصد السلوك الإنساني في الاعيان فحسب بل البحث فيه في الأذهان وما يعبر عما يتجاوز الاعيان والاذهان أعني في الفنون والآداب التي تصفه ليس كما يجري فعلا بل كذلك كما يتجاوزه في لامتناهي الخيال.
وبهذا يمكن أن نفهم نظرية أرسطو ونظرية ابن خلدون المتقاربتين وإن كانت الثانية أعمق في ما يتعلق بمنزلة القيم عامة والقيم الحاكمة في علاقة الجنسين. فأرسطو يعتبر هذه القيم بمعيار المستوى الذهني قابلة للقسمة إلى ثلاثة: من لم يصلوا إليها ومن تجاوزوها ومن يعيشون بها وهم بين هذين الحدين.
والمعلوم أن أفلاطون يلغي تماما وجود المرأة لأنه يعاملها كما تعامل الملكية المشاعة على الأقل بالنسبة إلى الطبقتين الأوليين أي الحكام (أصحاب العقل) والحراس (أصحاب الغضب) ولا يبقى عليها بمعنى الزوجة والأسرة إلا للطبقة الدنيا أو (أصحاب الشهوة). والمسألة تبدو غير موجودة عند ابن خلدون. وقد تسمع البعض يمدح ابن رشد لذكره في شرحه لسياسة أفلاطون ما يبدو مدحا لرأي أفلاطون في تربية المرأة وهم غافلون عن منزلتها الحقيقة عنده.
وكنت متحيرا أمام هذا الغياب ولم أفهم عمق رؤية ابن خلدون قبل الوصل بين مفهوم “نحلة العيش” ودورها في الحب وفي الجنس. فهو يرفض تفسير نكبة البرامكة برد الرشيد على علاقة مزعومة لأخته مع البرمكي محتجا بالقرب من البداوة ويكذب انتحال النسب في بعض دول المغرب العربي بنفس الحجة.
لكن الاهم من ذلك هو الطابع الدوري بين اقصى مراحل البداوة -العرب بمعنى أولى نحلة عيش وهي ليست خاصة بالعرب كجنس بل بمرحلة انثروبولوجية في تكون العمران البدوي ومنه العرب كنجس والكرد وكل الشعوب التي تعيش في الصحراء على رعاية الأبل-وآخرة نحله أو آخرة مراحل الحضارة: الترف.
ولعل الفرق الوحيد هو أن ما يحصل بليونة الحضارة في المرحلة الأخيرة من الحضارة أو الترف يحصل بعنف البداوة في المرحلة الأولى منها أو التوحش: الجنس يصبح شبه مشاع ولا يكاد يتميز فيه جنس عن جنس من الجنسين بل أكثر من ذلك لا يكاد يوجد فاصل بين الإنسان والحيوان في المسألة الجنسية.
فالمثلية الجنسية تصبح ظاهرة عادية وزنا المحارم والعلاقة الجنسية حتى مع الحيوان تصبح منتشرة وخاصة في البوادي وكل ما يسميه ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية” الناتج عن العنف في التربية والحكم-حتى قبل وجود الدولة في البداوة وبعد فسادها في الحضارة-دور التوحش في الأولى او العنف كقوة كسلطة والتخنث في الثانية أو الجاه كسلطة.
وينبغي ألا ننسى ما يحيط بالمائدة والسرير من ظروف حصول الفعلين وهي ليست مقصورة على الرؤية المتبادلة بين الجنسين بل حيز اللقاء بينهما. فالمسكن الذي يوفر شروط اللقاء الحميم بين الجنسين من أهم هذه الظروف وهي شبه منعدمة في الأسر الفقيرة حتى لو اقتصرنا على الأبناء. والأمر يتجاوز ما يجري داخل الأسرة الفقيرة بل يمتد إلى ما يحصل في المحاشد المحيطة بالمدن وشبه فقدان المسافة الكافية للستر بين الأجوار.
فلا يبقى من العلاقة بين الجنسين إلى ما لا يكاد يتجاوز الموجود بين الحيوانات للتكاثر ما يفقد العلاقة الحميمة دلالتها الروحية والجمالية حتى وإن حافظت على عنفوانها العضوي. وما يقال عن السرير يقال مثله أو أكثر منه في المائدة. ذلك أن كثرة الخلفة مع قلة الإمكانات المادية يحولان العيش المشترك المحكوم بتقاسم القليل شبه معركة حياة أو موت مهما تكلمنا على العلاقات العاطفية في الأسرة.
وحتى نفهم الرؤية الخلدونية عندما تترجم بالمفهومين-نحلة العيش وعلاقة الطبيعة بالثقافة-ينبغي أن نذكر أنه يرفض بناء نظرية الاجتماع والسياسة على علم النفس الأفلاطوني الأرسطي بخلاف كل علماء الإسلام متفلسفيهم ومتدينيهم الذين هم توابع في ذلك لنظريتيهما. فأفلاطون وأرسطو كلاهما يبني الجماعة والدولة على خاصية بايولوجية ثابتة هي عندهما مثلث القوى النفسية أي العقل والغضب والشهوة.
ولهذه العلة فإني أمقت الكلام في الأخلاق وفي الوعظ والإرشاد اللذين يما يتجاوز أصحابهما الرؤية الأفلاطونية والأرسطية إلى الآن ويغفلون عن ثورة ابن خلدون في هذا المضمار. فهو يعكس: لا يؤسس الجماعة والدولة على بنية النفس بل هو يعتبر الخصائص النفسية التي قد تفهم من حيث هي عضوية بالصورة الأفلاطونية والأرسطية فهمهما تبسيطيا.
ولست أمقتهما بسبب الأخلاق والوعظ بل بسبب ما أدى إليه ذلك من إهمال شروط الإصلاح في المجتمعات الإسلامية. والأدهى أن الدين أصبح مقصورا على الممارسة المشعرية التي لا تتجاوز هذه المستوى من تصور الأخلاق وكأنها مجرد تصورات قيمية لا تتجاوز الوجود الذهني وليس لها تأثير على شروط أثرها أعني انتقالها من القول إلى الفعل في تعمير الأرض بقيم الاستخلاف اللذين هما جوهر الدين.
وكل السخافات التي تتكلم على أن الإسلام الحقيقي هو مرحلته المكية ناتجة عن هذا الفصام بين هذين المستويين:
• فمستوى النظر والعقد يصبح مقصورا على ما وراء ما ليس موجودا في هموم الناظر والمعتقد (الكلام في ما وراء العالم دون علم العالم)
• ومستوى العمل والشرع يصبح متعلقا بما وراء همو العامل والشاعر (الكلام في ما وراء التاريخ دون علم بالتاريخ) : ولا يستحون فيسمون ذلك علما دينيا أو فلسفيا.
فالفصل بين قوى النفس هذه-تسليما بوجوده يوهم بأن الفيلسوف عاقل فحسب والحارس غاضب فحسب والعامل شاه فحسب فيقسم المجتمع إلى ثلاث طبقات (طبقة العقلاء وطبقة الحراس وطبقة العمال) في حين أن هذه الصفات موجودة عندهم جميعا وهي تغيب وتحضر عند الجميع والتفاوت فيها كمي وليس كيفيا- لا يطابق حقيقة الكيان العضوي للإنسان.
فالنفس عنده مادة تشكيلية لكأنها “ورقة بيضاء” تصوغها “نحلة العيش” وما خصائص هذه الأبعاد النفسية العضوية إلا ما يحصل من التشكيل بمحددات “نحلة العيش”. ولذلك فعنده أن “نحل العيش” في العمران البدوي أقرب إلى الفضائل و”نحل العيش” في العمران الحضري أقرب إلى الرذائل ولكن ذلك لا يعني تفضيله للعمران البدوي على العمران الحضري. وهنا يأتي وجه الشبه بينه وبين أرسطو: بداية البدوي متوحشة (بسبب الاعتماد على النفس وعدم وجود سلطان تربوي وسياسي فوق الفرد غير مجرد الوجود في الجماعة) وغاية الحضري متخنثة (بسبب التربية والحكم والاعتماد على الحامية) هما إذن ما دون وما فوق الأرسطيان.
وإذن فيوجد ما بعد بداية البدوي وما قبل نهاية الحضري وهما عنده مستوى القيم الحقيقي أعني أن البداوة تنتهي إلى غاية تصبح أكثر تبعية لقيم الفضيلة فتؤسس الدول والمدن سندا للوزع الذاتي (القيم في الأذهان) بالوزع الأجنبي (القيم في الأعيان ممثلة بالحكم الشرعي). والحضارة تنتهي إلى غاية تصبح أكثر تبعية لقيم الرذيلة فتخرب الدول والمدن. الرؤية تبدو غريبة ولكنها تفهمنا إدراكه لعلاقة عميقة بين الطبيعة والثقافة.
فعنده أن الثقافة من حيث هي تدجين للإنسان تنتهي إلى النكوص به إلى ما دون الفضيلة. فالفضيلة هي ما يعرف به الإنسان “رئيس بالطبيع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”.
فيكون الإنسان في البداية لم يدرك هذه الرئاسة لأنه يخضع للقوة (قانون الطبيعة) وفي الغاية يفقد الرئاسة (قانون الغريزة).
فتكون نهاية البداوة اكتشاف ما يتعالى على القوة وهو تأسيس ما يسميه ابن خلدون بالوزع الأجنبي أو حراسة القانون بنظام سياسي هو أصل الدولة. وتكون نهاية الحضارة اكتشاف ما يتعالى على القانون وهو تأسيس ما يسميه ابن خلدون بالترف أو انخرام حراسة القانون السياسي والخلقي فتنهار الدولة التي تصبح محكومة بـاستبداد الغرائز عند الحاكم والمحكوم.
وليس المقصود بالدولة منظومة المؤسسات السياسية وكأنها جهاز مجرد لا يمثل جماعة بل ما يجعلها ممكنة وذات شرعية معبرة عن إرادة الجماعة فتساند شوكتها. وإذن فالدولة تقتضي وجود المؤسسات الوسيطة بينها وبين الفرد بوصفها عين التعبير الحقيقي عن الوصل بين الشرعية والشوكة في كل دولة: الأسرة والمعبد والمدرسة والمعمل وكل الجماعات المدنية بنوعيها أي الاقتصادية حول المصالح المادية والثقافية المعرفية حول المعاني القيمية.
لكن هذه المقابلة المطلقة في فكر ابن خلدون وهي التي تؤسس نظرية أعمار الدول والحضارات قابلة للتعديل بما حاولنا بيانه من التماعي الدائم للمراحل التي ذكرتها (ما دون المائدة والسرير فالمائدة والسرير فما دون فن المائدة وفن السرير فما بعدهما) بفضل المرحلة الوسطى بين الأوليين والأخيرتين.
فالمرحلة الوسطى-ما دون فن المائدة وفن السرير-مرحلة يكون فيها فن المائدة وفن السرير منشودين بمعنى أنهما مثالان أعليان يجعل أساسي الحياة العاطفية غاية يسعى إليها الجنسان وليست أمرا تحقق فصار مجرد عادة يطلب الإنسان تحقيقهما المطلق ثم تجاوزهما إلى الترف الذي هو نهاية الحياة السوية.
وهذه المرحلة الوسطي بعد الأوليين وقبل الأخيرتين مضاعفة. فهي متجاوزة لمرحلة ما دون المائدة والسرير بداية للبداوة والمائدة والسرير غاية للبداوة. وهي كذلك قبل الأخيرتين تصبو لهما دون الوصول إليهما لأن التحقق المطلق للرابعة ينتهي إلى الخامسة وهي مرحلة الترف القاضية على “معاني الإنسانية”.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي