في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل التاسع

****

في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل التاسع –

لما شرعت في علاج إشكالية “علاقة الجنسين بمنظور “نحلة العيش”لم أكن أتوقع أن الأمر سيتطلب أكثر من فصلين. لكن اقتضى أن يتجاوز حتى الخمسة المعتادة لأن ضعفها. إذ بقي فصلا اخران غير الأربعة التي نشرت في شكل مقالات ومثلها لم ينشر بعد لكنها صدرت مسودتها في شكل تغريدات.
فقد يظن أن استعارتي “المائدة” و”السرير” توحيان بالجمع بين قراءتين “ماركسية” و”فرويدية” بمعنى أن الأولى لها علاقة بالاقتصاد أو القراءة الاقتصادية والثانية لها علاقة بالجنس أو القراءة التحليلية. وكان ذلك يكون كذلك لو أني لم أبين أن السلسلة المؤلفة منهما تناظرها سلسلة تحول دون هذا الظن.
ولبيان تعجل هذا الارتسام أشير إلى إن مجرد الجمع بين الأمرين ينفي عنهما كليهما أن يكون أي منهما محافظا على الدلالة التي له لما يكون وحيدا ومستفردا بزعمه المبدأ المعلل لسلوك الإنسان فردا وجماعة وكافيا ليؤسس فلسفة التاريخ التأسيس الأتم الذي أنسبه إلى ابن خلدون بمفهوم “نحلة العيش”.
فالتفسير الاقتصادي والتفسير العضوي كلاهما لم يخرج من الرؤية الجدلية الجوهرانية صنفها المادي رغم أن الصريح في رؤيتهما ليس نفسه لأن جدلية الرؤية صريحة عند ماركس وجوهرانيتها صريحة عند فرويد ويتفقان على المادية المشتركة في هذين العاملين: تقديم الاجتماعي الاقتصادي أو العضوي النفسي.
ومعنى ذلك أن الفرد لا يكون مجودا في الرؤية الماركسية والجماعة لا تكون موجودة في الرؤية الفرويدية والنفي الأول هو في قلبت مفهوم الوعي والنفي الثاني هو الطابع السلبي للجماعة في تكون الشخصية بل وفي الطابع السلبي المتعلق بكل ما يمكن أن يعتبر حضارة بوصفها تصعيدا للمكبوت.
فيكون ما أنسبه إلى ابن خلدون بخلاف ما هو بين عند ماركس هو حضور الفرد البارز وبخلاف ما هو بين عند فرويد هو رفض نظرية بنية النفس الثابتة وعدم سلبية الحضاري من حيث هو حضاري بل مستواه المتجاوز في المرحلة الاخيرة عندما يصبح ترفا ليس كابتا للعضوي بل مفلتا لغرائزه ضد المكتسب الحضاري.
لا أنكر أن هذه الدقائق عسيرة الملاحظة لدى العجلين في المقارنات السطحية ومن ثم فهم يجدون وجوه شبه كما ينظر عن بعد للأشياء التي فيها وجوه شبه بمجرد ردها إلى صورة كاريكاتورية عامة حيث كما يقول هيجل “كل الابقار رمادية” في الغروب إذا نظرنا إليها عن بعد وببصر ضعيف دون بصيرة.
فهذه الفروق التي يستطففها من يكتفي بالمقارنات السطحية هي التي تميز بين فلسفات التاريخ أو بصورة أدق بين الخيارات القيمية التي تحدد مقومات الأحداث وتقدر وزنها في تحديد وجهات المآل الإنساني فتمكن من تفسير مراحل تاريخه التي يهملها التبسيط الجدلي بدل التعقيد البنيوي كما في الطبيعة.
ولما كانت سنن التاريخ أعقد من قوانين الطبيعة إذ هو يجمع بينها وبين ما يتجاوزها -ولهذه العلة فالعلوم الإنسان أكثر تعقيدا وأعسر تفسيرا-فإن العلاج الوحيد هو البنى التي تشبه ما تتأسس عليه الرياضيات المطبقة على الطبيعيات. ولا بد أن يوجد ما يجانسها للانطباق على الإنسانيات.
ولهذه العلة بينت أن نسبة البنى الرياضية إلى الطبيعيات في علم قوانين العالم الطبيعي لها نظير في علم العالم التاريخي أو الحضاري هي نسبة البنى الأدبية إلى الإنسانيات في علم سنن العالم التاريخي. والأدبيات هنا تعني الإبداعات التي يخلو منها أدبنا لزعمه الواقعية.
فما يسمونه أدبا واقعيا ينهي الإبداع الأدبي المتعلق بالممكن عامة -وهو القصد الأرسطي-لانه يجعله من التاريخ الأدنى. فهذا ليس إبداعا أدبيا وهو من جنس الخلط بين الرياضيات والقيس العامي للمقادير والكميات: نسبة هؤلاء الكتاب إلى الأدب تجانس مماثلة لنسبة حساب العطار إلى الرياضيات أي إنها لم تصل حتى البناء الذي يطبق الهندسة البسيطة في فن البناء. إنه حكاية أحوال نفس الكاتب وانطباعاته الساذجة التي يتوهمها “واقعا”.
فمن يبحث عن المعاني الأدبية الممكنة من فهم سنن التاريخ يشبه من يبحث عن المعاني الرياضية لفهم قوانين الطبيعي بقيس الأشكال المرسومة فعليا فيحدد سمك المستقيم واستدارة الدائرة حتى في البسيط من الهندسة. ولو اعتمد اقليدس هذه الطريقة لاستغنى عن تعريف الأشكال والبرهان المنطقي خصائصها.
وبهذا المعنى فلسنا متخلفين في علوم الطبيعة بسبب تخلفنا في الرياضيات ومن ثم عجزنا عن معرفة قوانين الطبيعة وتطبيقاتها التقنية فحسب بل نحن متخلفون في علوم التاريخ بسبب تخلفنا في الآداب ومن ثم عجزنا عن معرفة سنن التاريخ وتطبيقاتها الخلقية: الكلام على آدابنا فيه الكثير من الوهم.
لكن هذا التمييز قد لا يقنع من يكتفي بسطحي المقارنات العجلى فضلا عن كونه قد يفهم وكأنه ذو نزعة دفاعية ضد القراءات التي تمدح الماركسية والفرويدية باسم خصوصيات حضارية وخاصة عند من لا يعلم موقفي من الآراء القائلة بالخصوصية في الفلسفي والديني وتوكيدي على الكوني والكلي.
فليس لأني مسلم أو لأن ابن خلدون يكثر من استعمال الشواهد القرآنية أميل إلى فلسفة التاريخ التي يقول بها لأنه هو نفسه لا يقول بالخصوصيات وخاصة في الفلسفة والعلم وبهذا المعيار يميز بين ما يسميه علوم العلوم وبها يبدأ الباب السادس والعلوم الكونية التي يعتبرها عقلية تجريبية التأسيس.
ولأمر الآن إلى الحجة الأساسية في الرؤية البنيوية الخلدونية. وسأستعمل مصطلحات لم يستعملها لكني وضعتها حتى أستطيع أن أصل المنفصل في ومضاته فكره الإبداعية التي لم يكمل عملها التنسيقي إذ هي مجرد مسودة كتبها في أقل من نصف سنة ولم يراجع منها إلا بعض الشواهد التمثيلية من التاريخ.
وما كنت لأسمح لنفسي بذلك لو لم أجد في المنفصلات من ومضاته إشارات لهمزة الوصل النظري بينها كإشارته في اسم الباب الأول من المقدمة بعبارة “العمران على الجملة” بمعنى أن ما فيها يشمل العمرانين البدوي والحضري ما يعني أنه أشار إلى أن هذا الباب ينطبق على مسائل المقدمة كلها من أولها إلى آخرها.
فالعمران سواء كان بدويا أو حضريا لا بد له من مسائل الباب الأول الخمسة بتفاوت الدور الذي يؤديه عناصرها الخمسة بمنظور ثابت هو “نحلة العيش”:

  1. عامل الجغرافيا الطبيعية
  2. وعامل الرؤية الوجودية التي يقابلها بها الإنسان فردا وجماعة
  3. وأثر العامل الأول في الثاني وفي الإنسان صاحبه
  4. وأثر الثاني في الأول ودور الإنسان الناتج عن التفاعل
  5. والحصيلة النهائية وهي مسار الحضارة الإنسانية بوصفها حصيلة هذه العناصر المقومة لوجود الإنسان الدنيوي وما يترتب عليه من رؤية متعالية لوجود متجاوز له أو أخروي في كل الحضارات البشرية.
    ومنظور “نحلة العيش” يمكن بتجاوز تأويلي لهذه الرؤية إرجاعها إلى مفهومين يعرفان الإنسان بمقتضى مقومات كيانه ومهمتيه في التاريخ في المقدمة وفي القرآن الكريم:
  6. فالإنسان يعرفه ابن خلدون بمقتضى مقومات كيانه فيعتبره “رئيسا بالطبع (فلسفيا) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (دينيا)”.
  7. ويعرفه بمقتضى المهمتين اللتين كلف بهما وهما الاستعمار في الأرض أي تكليفه بتعمير الأرض والاستخلاف فيها أي تكليفه بأن يجعل التعمير يتم بقيم متعالية هي التي لأجلها كرم أبناء آدم.
    ومن دون تحقيق المهمة الأولى يصبح الإنسان تابعا للطبيعة ومن يعمرها بدلا منه فلا يكون حرا ولا كريما لأنه يصبح تابعا فلا يبقى رئيسا بالطبع. ومن دون تحقيق المهمة الثانية ينكص الإنسان إلى الحيوانية فيصحب خاضعا للقانون الطبيعي ويسيطر سلطان الصراع بين البشر.
    والجمع بين هذين الأمرين يؤدي إلى فساد معاني الإنسانية فلا تبقى نحلة العيش منتظمة بالتعاون والتبادل العادل ولا بالتواصل الذي من شرطه التواصي بالحق والتواصي بالصبر بين بشر يؤمنون بالله فوق الجميع ويعملون صالحا.
    وما كنت لأجرأ مع ذلك لهذه الإضافات التي استنتجها من روح المقدمة دون الخروج على صريح نصها لو لم يختم المقدمة بهذه العبارة الجميلة: “ولعل من يأتي بعدنا مما يؤيده الله بفكر صحيح وعلم مبين يغوص في مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن احصاء مسائله وإنما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلم فيه والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده..”.
    وأهم كملة تعنيني في هذه الخاتمة الجميلة هي “تعيين موضع العلم”. فكلمة موضع تعني حيز في منظومة. ومن له دراية بمواضع العلوم في الفلسفة التي كانت سائدة في عصر ابن خلدون منذ أرسطو لا تعطي للتاريخ وفلسفته أي موضع لأنه لا يقبل العلم النظري بل هو دون الأدب حسب أرسطو.
    ولما كانت الإشارة لهمزة الوصل في الباب الأول هي أوضح الإشارات فإني قد انطلقت منها لاكتشاف البنية الأساسية التي بنيت عليها مسائل المقدمة كلها وسميتها بمصطلحات وضعتها لهذا الغرض: موضوع الباب الأول هو نوعا الأحياز المحيطة عينيا والمحاطة ذهنيا في العالم وفي الإنسان فردا وجماعة.
    وهذا الموضع لا وجود له في الفلسفة السائدة حينها لأن التاريخ وفلسفته لم يكن موجودا أصلا بسبب كونه عندهم لا يدرس إلا العيني الحاصل بخلاف الشعر الذي يدرس الممكن الذي هو أقرب إلى الكلي الموضوع الوحيد للفلسفي. فيكون بيان الموضوع غير ممكن إلا بأحد طريقين أو بهما معا.
    وابن خلدون “خلق” الموضع وأبانه بالطريقتين: أولا غير موضوع الفلسفة أو الكلي وغير مفهوم أساس علم التاريخ أو بصورة أدق أساس علم نقد التاريخ الذي يصبح ممكنا بعد تغيير مفهوم الكلي. فالمعلوم أن الكلي لاتاريخي في الفلسفة القائلة بالمطابقة بمعنى أن الكلي في الذهن مطابق للكلي في الوجود: وكلاهما ثابت لا يتغير.
    فيكون العلم إذا طابقه مثله غير تاريخي. وكل ما لا يطابقه من العلم فهو خطأ وليس علما. لكن إذا تحررنا من القول بالمطابقة فإن العلم يصبح تراكميا أي إن الكلي المعلوم هو كلي معرفي-بمعنى ما اتفق العلماء على أنه علمي في لحظة من اللحظات- دون أن يكون كليا وجوديا إذ لو كأنه لكان نهائيا ولن يتطور. ذلك فهو بالضرورة حصيلة التراكم المعرفي وبذلك يصبح العلم العقلي هو بدوره تاريخيا.
    ومن ثم فالمنطلق كان محاولة تأسيس علمية التاريخ التي نفيت عنه العلمية لأنه لا يعلم الكلي وانتهت إلى بيان أن الكلي الفلسفي هو بدروه تاريخي لأن العلم المحيط مستحيل وكل علم هو تراكم المعرفة المبنية على بنى عقلية ومعطيات تجريبية يجمع بينهما الاستدلال المنطقي والبناء الرياضي.
    فلم يعد ابن خلدون مكتفيا بتحديد موضع علمه الجديد بل هو حدد منظومة الـمواضع الـجديدة التي كانت الفلسفة نفسها محتاجة للتموضع فيها. وبذلك انتقلنا من علم رئيس-أرشيتاكتونيك- يحدد المواضع كان اسمه “ما بعد الطبيعة” إلى علم رئيس بديل هو “ما بعد التاريخ” أو “علم العمران البشري والاجتماع الإنساني”. والفلسفة قسمها إلى علوم يقبلها وسماها علوم العقل أو الحكمة التي اراد أن يجعل التاريخ أحدها-وتلك مهمة ما بعد التاريخ أو علم العمران البشري والاجتماع الإنساني-وعلوم زائفة على رأسها الميتافيزيقا. وذلك هو موضوع الفصل 31 من الباب السادس بعنوان “إبطال الفلسفة وفساد منتحلها” ضمن الفصول المخصصة للعلوم الزائفة.
    تلك هي الثورة التي لم يكن ابن خلدون نفسه واضح الوعي بها. لكنها تجاوزت مجرد تأسيس علم نقد الخبر إلى قلب نظام العلوم نفسه وتحديد مواضع جديدة كانت قبله “ارشيتاكتونيك=علم رئيس” ميتافيزيقية. فصارت بفضل ثورته “ارشيتاكتونيك=علم رئيس” ميتاتاريخية وهو ما سنحلله في الفصل العاشر والأخير من هذه المحاولة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي