****
في علاقة الجنسين، بمنظور مفهوم “نحلة العيش” الخلدوني – الفصل الأول –
ما أريد الكلام عليه الآن أعلم جيد العلم أنه مما لن يرضى عنه كاريكاتور التحديث والتنوير العقلاني ولا كاريكاتور التأصيل والتنوير الروحاني وخاصة من يقيسون التقدم والرجعية بمعايير جوهرانية سواء كانت هيجلية (أرواح الشعوب) أو ماركسية (طبقات الجماعة) ومع ذلك فهو عندي متجاوز لكل هؤلاء في علاج طبيعة العلاقة بين الجنسين أو منزلة المرأة في المجتمعات البشرية.
وهو ليس متجاوز لأني صاحبه بل لأن صاحبه هو من أفسدت كل أفكاره لأنها عيرتـها بمقياس البحث عما فيه بدعوى بيان السبق والحداثة من فكر ماركس أو هيجل فلسفيا تاريخيا أو من أغست كونت ودوركايم عليما اجتماعيا بدل النظر في أقواله وتصوراته بمقتضى نسقها الذي تستمد منه دلالاتها ومعانيها: ابن خلدون.
كل ما أنسبه إلى نفسي هو “شبكة” قراءته بتصورات بمقولات يمكن ردها إليه إذا فهمنا مضمون الباب الأول من المقدمة كما أراده صاحبه إطارا نظريا عاما للأبواب الخمسة الباقية ولمجالي بحثه أي “العمران البشري” أولا و”الاجتماع الإنساني”ثانيا في مرحلتيهما البدوية والحضرية واتجاهي تفاعلهما من الأول إلى الثاني ومن الثاني إلى الأول. وهذا الإطار النظري الشامل الوارد في الباب الأول من المقدمة شديد الوضوح:
- العالم الجغرافي المناخي أساس كل حياة وخاصة حياة الإنسان.
- خصائص الحي العضوية و”الروحية” من حيث هي وعي بشروط قيامه وظروف تحصيلها.
- الخوف من المستقبل بخصوص شروط البقاء.
- ابداع التوقع والاستعداد لها ماديا ورمزيا.
- هي “العمران البشري والاجتماع الإنساني” بمرحلتيه البدوية والحضرية.
وهذان الشكلان من “التنازل” أو تقاسم الجماعة السكن في مكان محدد هو ما يتوالى من أشكال مفهوم أبدعه ابن خلدون وسماه “نحل العيش”. وهو مفهوم يتجاوز مفهوم أرواح الشعوب الهيجلي ومفهوم الطبقة الماركسي وما وراء المفهومين من جهرانية الروح وجوهرانية المادة.
فمفهوم “نحلة العيش” يفيج الأحوال التي تمر بها علاقات العناصر الخمسة الواردة في الإطار النظري التي وصفت والتي هي مادة الباب الأول من المقدمة. ليس جواهر ولا هي روح ولا هي مادة ولا نعلم طبيعتها ما هي. كل ما نعلمه أنها شبكة “علاقات” بين أمور كلها غير محددة تحدد “نحل العيش” الإنساني التفاعلية.
فإذا اعتبرنا الإنسان في تفاعليه مع محيطه الطبيعي الخارجي تفاعلا ينتج محيطا ثقافيا متعينا في أدوات مادية وأدوات رمزية هي شروط علاقاته بمحيطيه الطبيعي والثقافي المتراكم بالتدريج أمكن لنا أن نرد ذلك إلى عاملين هما شروط يستمدها من الطبيعة لبقائه وشروط يمد بها الحياة لبقاء النوع.
وأهم شرط يستمده الإنسان من محيطه الطبيعي سواء مباشرة أو بتوسط الجماعة (تقسيم العمل) هو الغذاء. وأهم شرط يمد به الإنسان الحياة من كيانه هو التكامل بين الجنسين للإنجاب أو الجنس. ومن ثم فالمقوم الطبيعي الأول هو الجغرافيا والمناخ وقدرات الإنسان للاستفادة منهما لتفعيل هذين الشرطين. والقدرات هي:
• ما يمكنه من التعامل مع محيطه الطبيعي أي النظر والعقد لمعرفة قوانينها للاستفادة من ثرواتها
• ما يمكنه من التعالم مع محيطه الإنساني أي العمل والشرع معرفة سننها الحياة الجماعية للاستفادة من تراثها في تنظيم حياته الجمعية وتحقيق شروط التواصل والتعاون والتبادل السلمي.
وبهذا المعنى فـ”نحلة العيش” حصيلة محددة للوظيفتين الواصلتين بين المحدد الطبيعي المحيط بالإنسان والمحدد الطبيعي الإنسان المحاط به: أي ما يأخذه الإنسان من حيث هو طبيعي من الطبيعة شرط حياته كفرد وما يعطيه الإنسان للحياة من حيث هو حي شرط حياة النوع كجماعة.
وحتى أيسر الكلام على هذين العلاقتين استعرت اسمين لهما مما يرمز إليهما في حياة الإنسان من حيث فرد من جماعة متواصلة الأجيال فسميت:
• العلاقة الاولى بالمائدة (استعارة على الغذاء)
• والثانية بالسرير (استعارة على الجنس).
وانطلاقا منهما أمكن التمييز بين خمس أشكال من “نحلة العيش”.
وهذه الأشكال تمثل مراحل تطور العلاقة بين الرجل والمرأة في ما ينتج هذين المحددين الرئيسين للإنسان من حيث هو وسيط بين الطبيعة وبقاء الفرد والنوع ولا علاقة لهذه العلاقة بالأديان ولا بالفلسفات. فهذان هما مجرد محاولة لصياغة الوضع أو لتبريره بحسب توالي أشكاله. لكن المراحل التي تتحدد فيها العلاقة بين الجنسين وبينهم وبين الطبيعة في أي جماعة هي حصيلة “نحلة العيش” بالمفهوم الخلدوني.
وهذه الحصيلة ليست جوهرا ولا تنتج عن جوهر. فلا هي روحية ولا هي مادية ولا هي ناتجة عن فلسفة من جنس المثالية الهيجلية أو من جنس المادية الماركسية لأنهما كلتيهما تقولان “بشيء” ذي قيام جوهري إليه تردان حقيقة الأشكال وتدعي معرفة حقيقة هذا “الشيء” المحدد لها. لكنه في الرؤية الخلدونية ليس شيئا متجوهرا بل هو شبكة علاقات أو بنية هي مضمون الباب الأول من المقدمة. فما هي هذه المراحل الخمس التي سبق أن درستها في محاولة سابقة: - نحل العيش التي توجد دون المائدة والسرير.
- نحل العيش التي توجد عند حصول المائدة والسرير.
- نحل العيش التي توجد ما دون فن المائدة وفن السرير.
- نحل العيش التي توجد عند حصول فن المائدة وفن السرير.
- نحل العيش التي توجد بعد ما فوق فن المائدة وفن السرير (الترف).
وعلاقة المرأة والرجل وعلاقتهما بالطبيعة وبالجماعة رهن “نحلة العيش” التي تتحدد بمقتضى ما تفرضه هذه المراحل كبنية علائقية وهي علاقة كونية لا يمكن نسبتها إلى عرق محدد أو إلى ثقافة محددة أو إلى دين أو إلى فلسفة بل كل هذه العناصر تابعة لها لا متبوعة منها. لكن بنية هذه الشبكة العلائقية لا تكتمل من دون أن نضيف إليها عاملين كلاهما ينتج عن المؤثر الطبيعي المحيط بالإنسان والمؤثر الطبيعي الذي في الإنسان نفسه (بدنه ونفسه). فعضويا لا يمكن للعلاقتين من الطبيعة إلى الإنسان ومن الإنسان إلى حياة النوع أن تحصل من دون جماعة تحمي نفسها وتعولها.
فأنثروبولوجيا لا يمكن للتكاثر الإنساني أن يحصل من دون شرطين: حماية مصدر حياة الجماعة بسبب كون الجماعات تعيش في البدء على ما تنتجه الطبيعة فيكون المجال الحيوي معرضا للعدوان الخارجي وحماية حياة الأطفال في مرحلة الحمل وفي المراحل الاولى قبل أن يصبح الطفل قادرا على القيام المستقل.
وذلك هو المحدد للشكل من “نحل العيش” وتوزيع العمل بين الرجل والمرأة.
• فالأول يكون دوره في الغالب للحماية
• والثانية للرعاية.
ويشتركان في حماية الرعاية ورعاية الحماية.
وذلك هو أساس الوحدات الأولى لبقاء الجماعة: الأسرة التي تتوسع بالتدريج لتصبح قبيلة ثم وحدة قبائل للحماية والرعاية.
وفي هذه المرحلة تصبح المرأة مستهدفة بسبب الحاجة إلى التكاثر خاصة وليس من اجل الجنس. لأن الواحدة تكفي في الجنس لكنها لا تكفي في التكاثر. التعدد وسبي النساء جزء من الحماية لأنه “ينتج” المحصلين لشروط البقاء رعاية وحماية. ونرى ذلك عند المزارعين: الأبناء هم العملة والحماة خاصة وتسمى في البوادي التونسية بـ”الوالي وهم الإخوة والأبناء” وفي الصعيد المصري بـ”العزوة”.
وهذا هو المستوى الأول من اللحمة الجماعية أو الدرجة الأولى والأقوى من العصبية بالمعنى الخلدوني (عصبية الدم). ومنها ينشأ الشكل الأول من الدول التي هي شرط الانتقال من العمران البدوي إلى العمران الحضري. فيكون الباب الثاني (العمران البدوي) والباب الثالث (الدولة) معدين للحواضر التي تمثل الحد الاوسط بين العمران البدوي والعمران الحضري.
وبهذا فسرت حديث الغدير بكون الرسول لم يوصي آل البيت بالأمة بالعكس أوصى الأمة بآل البيت لأنه يعلم أن النظام القبلي ما يزال مسيطرا وأن سيطرته ستستأنف مباشرة بعده وأنه لم يكن من الفرع الأقوى عصبية بين العرب ولا حتى في قريش وهو ما فهمه ابن خلدون في تبدل نظام الحكم من الخلافة إلى الملك العضوض: انتهاء القوس التي دامت بدوام التغير الذي حدث في عادات العرب بفضل التربية الرسولية.
ومثلما أن الحواضر قبلها شرطان العمران البدوي والدولة نجد بعدها شرطين هما موضوع الباب الخامس أو المعاش ووجوهه (من إنتاج الإنسان وليس الطبيعة) وموضوع الباب السادس أو العلوم وأصنافها والتعليم (عودة النظر والعقد ثم العمل والشرع).
فإذا تجاوز الإنسان مرحلة ما دون المائدة والسرير فإنه يصل إلى مرحلة المائدة والسرير وطبعا هذا لا يتحقق للجميع بل لأصحاب القوة فيكون الأساس هو القوة وشكلها الاول هو القوة الطبيعة المادية وهي قوة البدن وقوة التكاثر فتتكون العصبيات المبنية على هذين القوتين وتكون النساء توابع لهما.
لكن يقع التمييز بين الحرائر والجواري. ذلك أن ذوي العزوة لا يقبلون معاملة نسائهم مثل النساء اللواتي ليس لهن من يدافع عنهن بهذين القوتين. فيكون وضع المرأة مزدوجا مثل وضع الرجل أيضا: فالعبيد الذكور والجواري لهما وضع “قانوني” يتحدد بالقدرتين أعني بالعلاقة بين الحماية والرعاية.
فالقادرون على الحماية ونساؤهم لهم منزلة المائدة والسرير ومن سواهم يبقى في منزلة ما دون المائدة والسرير بمعنى أنهم تابعون لمن وصل إلى منزلة المائدة والسرير بفضل ما لديه من القوتين. والقوتان تتبعهما قوتان رمزيتان هما:
• قوة الثروة الناتجة عن القوة بالمعنيين
• وقوة التراث (أو ما يسمى بـالنسب في اختيار الجنسين احدهما للآخر ولهذا علاقة بعادة ما تزال موجودة بين أعيان القبائل والأسر العريقة).
وضمن الحاصلين على منزلة المائدة والسرير يتدخل عامل الفن أو الجماليات بالتدريج رغم أن الحالة ما تزال دون فن المائدة ودون فن السرير. فيضاف إلى مفهوم المرأة “الحصان” أو الحرائر مفهوم المرأة الجميلة التي رغم كونها جارية تصبح زوجا لمن وصل إلى مرحلة المائدة والسرير وبدأ يشعر بما فوقها.
ومعنى ذلك أن الفصل بين الحرائر والجواري لم يعد مبنيا على الثروة والتراث فحسب بل يتدخل عامل الذوق الجمالي لدى الحاصلين على منزلة المائدة والسرير والساعين لتجاوزها فيتم بالتدريج تجاوز الاقتصار عليهما إلى “نحلة عيش” تصبح فيها المائدة ذات فن والسرير ذا فن. لم يعد الأكل مجرد غذاء ولا الجنس مجرد جماع حيواني.
فيصبح الفن أداة تحرير للجنسين: فما يصدق على الاغنياء من الرجال إزاء الإماء يصدق على النساء الغنيات إزاء العبيد فيصبح الفنان فن المائدة وفن السرير بداية التحرير ويبرز نوعا السلطان في الجماعة: سلطان المرأة الخفي وسلطان الرجل الجلي والأول أقوى من الثاني ألف مرة.
وما أن يحصل ذلك نصل إلى تجاوز فن المائدة والسرير بالانفصال التام بين وظيفتي المائدة والسرير.
يصبح المطلوب الفن للفن.
لم تبق العلاقة بين الغذاء والقيام هي المحددة ولا العلاقة بين الجنس والإنجاب هي المحددة بل يصبح الغذاء لمجرد فن المائدة ويصبح الجنس لمجرد فن السرير. فيتساوى الجنسان.
وإذا تساوى الجنسان زال الفرق بينهما. وإذا زال الفرق بينهما لم يعد لمعنى الجنس مقابلة عضوية بين الذكورة والأنوثة بل هو متجاوز لها.
فلا يبقى الذكر ذكرا ولا الانثى أنثى بل كلاهما مطلوبه هو اللذة أيا كان مصدرها فتكثر المثلية وتفقد المرأة والرجل الصبر على دورهما في تواصل النوع.
فتكون ثورة المرأة على الرجل حينها ذات دافعين:
• دوره في تواصل النوع أقل كلفه من دورها بمقتضى خصائص عضوية
• استجمال النوق يؤدي إلى استنواق الجمال. وهو سر البرود الجنسي في المجتمعات التي وصلت إلى هذه المرحلة والسيطرة المتدرجة للمثلية الجنسية ولهوامش العلاقة الحميمة.
فتعود الإنسانية إلى المرحلة الأولى: وأعني بذلك أن المرأة تصبح في قرارة نفسها تبحث عن الإنسان البدائي أي الرجل المستبد والممثل للفحولة والرجل في قرارة نفسه يبحث عن الجارية البدائية أي المرأة الخاضعة لكل نزواته بوصف ذلك من أسرار الانوثة: نتيجة “لنحلة العيش” في كل الحضارات.