**** في ضحالة الواقعية علمية كانت أو أدبية الفصل الثاني
إذا كان العالم الفعلي أوسع من العالم الرمزي في أمة من الأمم أو في جيل من اجيالها، فإن عالمها الفعلي يكون أبكم لا يتكلم، ولا يمكن ترجمة عالم غير ناطق بلغة إبداعية ما لم يتجاوز العالم الرمزي العالم الفعلي. فلو أخذت أي شاعر جاهلي، لوجدت أن زاد عالمه الرمزي تسميته تتجاوز عالمه الفعلي. حتى إن التسمية عندهم تجاوزت تسمية الشيء إلى تسمية ما لا يكاد يتناهى من تنوعاته ومميزاته ما يجعل صفات الشيء تتحول إلى شبه كاليديوسكوب يعبر عن الحركة الحية في الشيء. فالتنوع ليس دليل تعدد في النوع، بل دليل تحولات الفرد الواحد من النوع فيعير تغير الطبيعة والحيوان والنبات وأحوال النفس. فتصبح هذه التنويعات في التسمية في نسبة الألوان عند الرسام، والنغمات عند الموسيقي، ومن ثم يضاف لأدوات التعبير فضاء آخر هو فضاء اللغة في مستوى التسمية، وفضاء اللغة في التوليفات بين الأسماء، ثم فضاء أوسع في تسمية ما لا وجود له في ما يسمى ب”الموجود” لعالم افتراضي هو عالم إبداع المنشود. والمنشود ليس أماني الكاتب، بل هو ما يترتب على منطق الفضاء الجديد الذي ليس له وجود، لأن المكان والزمان من حيث هما طبيعيان، يخضعان للجهات بالمعنى الذي يتصور العالم الواقعي هو الوجود الوحيد، فلا يكون عند الواقعيين أحد الممكنات، بل هو فضاء الإمكان الوحيد: هم سجناء الموجود الغفل للواقعية.
صحيح أن للواقعيين العرب منشود. لكنه منشود إضافي لأنه مقارنة بين موجودين: 1. الموجود الذي يعتبره “واقع” العرب 2. والموجود الذي يجعله منشودهم وهو ليس عالم مبدعا بل هو “موجود” ينسبه إلى الغرب في الغالب أو إلى مقابلة بين حاضر الامة وماضيها، ومن ثم فهو دائما حبيس “موجود” يجعل الحاصل واجبا. وهذا ليس موقفا يمكن لصاحبه أن يبدع، فهو يشبه عقدة القبيح الذي يقيس منشوده إلى موجود من يعتبره جميلا سواء كان ذلك علاقة بين امرأة واخرى تحسدها، أو بين رجل وآخر يغار منه ويتمنى أن يعدم نفسه ليصبح غيره. وغيره موجود مثله وليس منشودا في ذاته. والحصيلة هي عدم الخروج من سجن الموجود. لذلك فكلمة “الواقع” عندهم تعني عند ترجمتها بالجهات المنطقية “الواجب” أو ما لا يمكن أن يكون غير ما هو عليه. وفيه إطلاق ينتج عن الخلط بين حاصل الممكن وحصر الممكن في الحاصل منه، أو في ما لا يتجاوز أفق العالم الذي يعتقد وحيدا. وبذلك فالواقعية هي في الحقيقة وقوعية أي سقوط من الوقوع. والنسبة بين العالمين الذي ينطلق فيه الأديب أو العالم من المدركات الحسية، و الغفلة لما يسميه واقعا، والعالم الذي ينطلق منه الأديب والرياضي المبدعين لعالم لا وجود له في التجربة العادية والغافلة عن أسرار هذا العالم التي هي ليست منه، بل هي ما وراءه تشبه ثورة ابن خلدون في ثورته.
الأدب المحاكي لـ”لواقع” في نسبته إلى الأدب المبدع “لواقع”، هو ما وراء لهذا الواقع الغفل، يشبه نسبة علم العمران البشري والاجتماع الإنساني عند ابن خلدون بالقياس إلى معنى التاريخ الذي هو موضوع الحكايات الشعبية عن مجريات الحياة التاريخية للجماعة في سهراتها حول ايامها. وهذا المعنى الثاني لما وراء التاريخ بالنسبة إلى التاريخ، هو إبداع لبنى مجردة تحكم مجريات التاريخ الذي لا يرى منه المؤرخ العادي إلا الاعراض التي ترد إلى سير الحكام وعارض الاحداث، بدل البنى التي تجعل الأحداث قابلة للترجمة في شبكات من العلاقات التي تقبل الصوغ في قوانين وسنن.
ولا يمكن تصور الإبداع الرياضي الذي هو اساس الأبستمولوجي، والإبداع الأدبي الذي هو أساس الأكسيولوجي، من دون أن تصبح الجهات الثلاث، الممكن والواجب والممتنع، ذات: • دلالة موجودية • ودلالة منشودية تجعل الموجودي محدودا وتتخيل عوالم لامتناهية فلا يبقى ممتنع ولا موجود فاضلين على الإمكان المطلق وهو ما يقتضي اعتبار الضرورة الطبيعية مجرد فرضية، والامتناع الطبيعي مجرد أمر واقع، فيصبح الوجود مشدودا إلى المنشود الحر بإطلاق. لكأن الإنسان صار حائزا على سلطان “كن” يمكن بفعل التسمية الرياضية في النظر والأدبية في العمل أن يخلق عوالم أوسع من عالم “الواقعيين في” المعلوم والمعمول.
وإذا كانت اليتوبيا تحررا من المكان للإمكان المنشودي، فإن الميثولوجيا تحرر من الزمان للإمكان المنشودي، فيصبح الموجود أكثر العوالم الإنسانية ضيقا، ولا يمكن أن يقاس على ما يسمى واقعا شيء من علوم الإنسان وقيمه: • فتطلق إرادته الحرة • وعلمه الصادق • وقدرته الخيرة • وحياته الجميلة • ووجوده الجليل فيكون موضوع العلم وموضوع الأدب، أو موضوع النظر وموضوع العمل، هو مفهوم الله أو مفهوم الربوبية التي هي منشود الإنسان. جعل أي إنسان نموذج مثل الانسان، دليل فقرفي الوجدان وقلة دراسة بحقيقة التجارب الوجودية التي تجعل فكر الإنسان يبدع أساسي العلم والعمل للسلطان على الطبيعية وعلى التاريخ. ومهما أغرق الإنسان في اليتوبيا وفي الميثولوجيا في الإبداع الأدبي والعملي وفيما يناظرهما في الإبداع الرياضي والنظري، يبقى الإنسان دائما دون منشوده الذي هو الأفق المطلق لتجاوز الموجود باعتباره سجن الإنسان في وجده المتصل بسلطان عقله على الطبيعة أو بسلطان وجدانه على التاريخ. صورة الإنسان عن الله ليست هي التي خلقته كما يتوهم فيورباخ، بل هي التي خلقت فهم الإنسان لما حباه الله به من إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود. • فحرية الإرادة • وحقيقة العلم • وخير القدرة • وجمال الحياة • وجلال الوجود هي ما فيه من نفخة الروح فيه فجعلته مخيرا بين الحرية والعبودية وما يترتب عليهما. فبحرية الإرادة يختار بين صدق العلم وكذبه وبين خير القدرة وشرها وبين جمال الحياة وقبحها. وبين جلال الوجود وذله. فيكون بذلك فيه شيء من المستوى الثاني من التوجيه: المستوى الأول هو الذي بني عليه العلم والعمل الواقعيين، وهما أدنى درجات المعرفة والأخلاق: محاكات ما يسمونه الواقع. وهذه صفات المجتمعات المتخلفة في أخلاقها في آدابها وفي علومها. لذلك اعتبر الابداع العربي الحالي أكثر تخلفا من الواقع العربي الحالي، لأنه نسخة من أصل والنسخة تكون دائما دون الأصل كثافة وجودية. ويكفي لفهم ذلك أن تنظر إلى مسلسلاتهم وأفلامهم وما فيها من ترد فني وخلقي وذوقي خاصة. لا يكفي أن تكون قد كنت بحارا لتكتب في البحر ما يتجاوز مبتذلات البحارة، فتكون مثل بول فاليري صاحب قصيد المقبرة. فالبصر لا يغني عن البصيرة، والتجربة الغفلة لا ترى من موضوعها إلا أعراضه فلا تنفذ إلى ما في بناه من أعماقه. وهذا ممتنع على من كان زاده اللساني دون ما في وجود الأعيان. فالصم والبكم والعمي لا يعقلون حتى ولو تعاقلوا. قد يسمع أمواج البحر ويرى ألوان المشاهد الطبيعية لكن ما يتجاوز الهدير لا يرقى إليه التعبير، لأن التجارب الوجودية أبعد شيء عن أحوال نفس المؤلفين، وهي من الوجدان الذي يغالب ما لا ينقال بتافه الأقوال من الإيديولوجيات الشعبوية والابتذال.
ليس الأدب من جنس الشهادات التاريخية وإلا لكانت مذكرات أبطال التاريخ أسمى أجناسه. وليس الادب شكاوى المظلومين أو المسحوقين أو المنبوذين، وإلا لكان بكائيات أقصى ما تعبره عن مناحات الشيعة على خياناتهم للخليفة الرابع والتغرير بابنه، فالمتباكون هم أكثر الناس خدمة للمجرمين. فهل بالصدفة أن كان بعضهم سفراء، وبعضهم مدراء، وبعضهم موظفين، وخاصة من كبارهم لدى من كانوا يتحكمون في الثورة الفلسينية بالتحكم في خزائنها ولست بحاجة للتسمية. فإذا تساءلت عن موقفهم من النقد القرآني حول علاقة الاقوال بالأفعال احتجوا ضد الأخلاقوية في الأدب. نسوا أن هذا الاحتجاج كان ينبغي أن يكون ضدهم: فهم بأدلجة الشعر والرواية وجعلهما أداة نضال سياسي، وحتى طبقي وحزبي، هم الذي يوهمون بأن مهمتهم خلقية للدفاع عن المظلومين والمسحوقين وهم في الحقيقة لا يختلفون عن شعراء الكدية: كان للملوك والوزراء فصارت للشعوب وأهل الثراء.
من يبدع في الرياضيات لا يدعي أنه في خدمة أحد عدا الإبداع نفسه. وينبغي ألا يكون المبدع في الأدب في خدمة أحد. 1. الأول يبدع شروط العلم 2. والثاني يبدع شروط العمل. • الأول يطلب الحقيقة وأدوات الوصول إليها للسلطان على الطبيعة • والثاني يطلب الحق وأدوات الوصول إليه بالسلطان على التاريخ. ولا سلطان على الطبيعة إذا توهمنا أنه واقع طبيعي مطلق. ولا سلطان على التاريخ إذا توهمنا أنه واقع خلقي مطلق. ففتحنا أفقين نظري وعملي لا يحدهما “أمر” الطبيعة والتاريخ الواقع بجعل الموجود ضروريا وممتنعا وحصر الممكن بينهما، بل تجاوزهما إلى الممكن المطلق بمبدأ الحق والحقيقة: الله.