**** في ضحالة الواقعية علمية كانت أو أدبية الفصل الاول
علّل القرآن الكريم ذمه لبعض الشعراء بما يعتبره أكثر الأشياء عند الله مقتا: أن يقولوا ما لا يفعلون. فظن الكثير أن القرآن يرفض الشعر وليس ما يجعله منافيا لحقيقة الإبداع الذي شرطه الصدق قيميا كان أو معرفيا. والرّادون لهذا يتصورون ذلك أخلاقوية تمييزا بين العمل الفني المبدع وصدق صاحبه.
والمحير في هذا الموقف هو أن أصحابه يمثلون في الغالب دعاة ما يسمى بالأدب الواقعي الذي صار موضة أدعياء الإبداع من العرب حصرا للواقعية في أحوال النفس، لأن غالبهم لا يتجاوز الروايات المختلفة للترجمة الذاتية توهما بأن ما عاشه يمكن أن يعتبر ممثلا لأعماق التجربة الوجودية للإنسان كإنسان.
وهم في ذلك أشبه بمن يتصور معرفته بنفسه علما بها ومن يتصور مداركه الحسية صورة مطابقة لحقيقة الوجود الخارجي، خاصة إذا لعبت برأسه بنت العنب أو ما يفوقها قدرة على فقدان الوعي الصافي بالمدركات. ذلك أنهم لا يميزون بين معنيي الصدق المعرفي والنفسي. • فالأول قضوي • والثاني موقف قضوي.
فالصدق المعرفي معياره شروط موضوعية المعرفة، وهو إذن متعلق بشروط البلوغ لما يمكن أن يكون ما عليه الشيء في حدود ما لدى الإنسان من وسائل النفاذ إلى الحقيقة. والصدق النفسي معياره مستويات الاعتقاد لدى المتكلم بما يقوله وهو معتقد حقا أن ذلك هو ما يفكر فيه وليس منافقا أو مداريا للغير. وبين أن الأدب المترجم للذات وهو الغالب على أدعياء الواقعية في الأدب – ترجمة مباشرة للذات ولشهادتها على عصرها أو تصوراتها حول ما تتكلم عليه في علاقته بها – لا يمكن أن يكون صادقا لا بالمعنى الاول ولا بالمعنى الثاني. • فبالأول تنقصه أدواته ومناهجه • وبالثاني ينقصه ما يحرر منه الاول الثاني
ذلك أن أعسر شيء يمكن التخلص منه هو ما في معرفة الذات لذاتها من شبه استحالة للتخلص من ضرورة تجميل صورة الذات حتى عندما يحاول النفاق في الاعترافات كما في حالة كل أدب الاعترافات للعظام من البشر ناهيك عن المتعاظمين. فالموضوعية المعرفية شبه مستحيلة ناهيك عند الكلام عن أحوال النفس. وكما ورد في ما ذكره أرسطو رواية عن أكبر شعراء اليونان فإن الشعر لا يبدأ إلا بعد أن يتخلى الشاعر نهائيا عن الكلام عن ذاته. والعلة لا تتعلق بالشكل فيمكن للمرء أن يتكلم عن ذاته بأجمل ما يكون الاسلوب لكنه مع ذلك لن يتجاوز المدارك السطحية لما للذات عن ذاتها من ارتسامات وأغلبها زائفة. وما يقوله هومر على الشعر لا يقصد به الشعر في مقابل النثر كما في حضارتنا، بل هو يقصد الشعرية في الإبداع المعتمد الذي أداته اللسان ليس من حيث هو كلام، بل من حيث هو استحضار للأفعال بشكلها الدرامي مع الأساليب التي تقوم بوظيفتين: • إبداع الأسطورة أو القصة الدرامية • وشكلها المناسب اسلوبيا.
وإذن فالقصد الإبداع الأدبي عامة ليس من حيث هو كلام يروي أفعالا، بل من حيث كلام يقدم الفاعلين أنفسهم بأدوارهم التي يكون الكلام فيها أحد أفعالهم وليس فعلهم الوحيد. وهو إذن أدب مشهدي لا يتوجه إلى السمع وحده بل وكذلك إلى البصر وإلى المشاركة الوجدانية في سلوك الأبطال الفاعلين والمتكلمين. وهذا لا يمكن أن يكون مبنيا على معرفة اساسها أحوال نفس المؤلف فيكون علمه بالشخوص الذين يردون في عمله مجرد إسقاط ذاتي ولا علاقة له بعلم النفس والاجتماع وخاصة بالتجارب الوجودية التي أريد اليوم أن أتكلم عليها من منطق نظرية الجهات بالمعنى المنطقي الوجودي الذي يغيب عن أذهان أدباء الواقع. ولست أعارض الأدب الواقعي لأنه واقعي، بل لأنه يخلط بين الواقع واعراضه فيكون ما يسمونه الكلام باسم المسحوقين في الأرض من نوع الطبيب الذي يعالج أعراض الأمراض متوهما أنه نطاسي كبير. فوصف أحوال الناس ومعاناتهم وأعراض الأمراض عالمها هو التجارب الوجودية للإنساني عامة.
وليس من شك في أن الكلام على أحوال نفس الأديب واسقاطه إياها على ما حوله لا يخلو من بعض النفاذ للتجارب الوجودية التي هي من هذا الجنس، لأن كل فرد من حيث هو فرد فيه ما يعبر عن الإنساني ككل. لكن الذي هو كذلك لا يختلف عن الرؤية العامية بالقياس إلى ما يطلبه المبدعون في المعرفة.
أعود الآن إلى بؤرة الإشكال في الإبداع عامة سواء كان متعلقا بالأبستمولوجي أو متعلقا بالأكسيولوجي من علاقة الإنسان بذاته وبعالمه وبمساعيه للنفاذ إليهما قدر الممكن للفكر الإنساني الباحث عن شرطي قيامه في علاقة العمودية بالطبيعة أساس التبادل وعلاقته الأفقية بالتاريخ أساس التواصل. • فالأبستمولوجي هو العلاج الفكري الممكن من حل مشكل العلاقة العمودية مع الطبيعة أعني شروط البقاء العضوي للإنسان وخاصة إنتاج مادة التبادل بين البشر • والأكسيولوجي هو العلاج الفكري الممكن من حل مشكل العلاقة الأفقية مع التاريخ أعني شروط البقاء الروحي وخاصة أنتاج مادة التواصل بينهم. وبهذا المعنى فيمكن القول إن نسبة العلم إلى المهمة الأولى يناظرها نسبة الأدب إلى المهمة الثانية. • فالعلم ينتج جهازا رمزيا قابلا للتحول إلى جهاز مادي يمكن من السلطان على الطبيعة • والأدب ينتج جهازا رمزيا قابل للتحول إلى جهاز خلقي يمكن من السلطان على التاريخ: كلاهما ينتج نماذج مجاله
وإنتاج النماذج في الأبستمولوجي رياضية وهي تصبح علما عند انطباقها على التجربة الطبيعية. وانتاج النماذج في الأكسيولوجي أدبية وهي تصبح عملا عند انطباقها على التجربة الخلقية. وكل حضارة متخلفة في الرياضيات لا تتقدم في الأبستمولوجي وبالتناظر تكون متخلفة في الأدبي وفي الأكسيولوجي.
مشكل الواقعيين في الأدب من جنس مشكل التجريبيين في العلم أي من يتوهمون العقل قادرا على علم التجربة بمحاكاتها وليس بوضع النماذج الرياضية المجردة التي تكون لغة ترجمة التجارب إلى قوانين علمية في الابستمولوجي وإلى قيم خلقية في الأكسيولوجي. فتكون النتيجة في الواقعية العامية التي يعمل بها العلم البدائي والأدب البدائي هي التدني المتوالي لأن ما يسمونه “واقعا” من موضوع قوانين علمية وقيم خلقية يصبح معيارا للمعرفة والأخلاق فيصبح منحنى التطور الإنساني مقلوبا فالإنسان لن يكون مبدعا للعلم والأخلاق بل خاضع للأمر “الواقع”. ما يحيرني حقا هو توهم النخب العربية أن العلم نسخ لما يسمونه واقعا طبيعيا ومثله الأدب لما صار خلقيا. وكلا الوهمين خطأ فادح. وحتى لو قبلنا به، فإن الأديب الغربي الذي يصف “الواقع” الاجتماعي هو من جنس العالم الغربي الذي يصف “الواقع” الطبيعي: كلاهما له نفاذ إليه بدلالة النموذجين. فعندما يكتب أحد أدباء فرنسا -زولا- أدبا حول الطبيعة هو لا يتكلم عليها من منطلق أحوال نفسه أو من منطق معرفته الغفلة، بل هو يعتمد ما وصل إليه العلم المتعلق بها. لكن أي أديب عربي اراد أن يصف حتى الحياة العادية، فإنه يقف حائرا حتى أمام الأسماء العادية لما يوجد فيها من أمور لا يستطيع تسميتها. ذلك أن “الواقع” الذي يريد وصفه إن لم يقتصر على تجربته الغفلة والعامية وأراد أن يغوص فيه فإنه يوجد أمام مسميات ليس لها أسماء في لغته لأن ثقافته في التاريخ الطبيعي صفر -النبات والحيوان- حتى بالقياس إلى لغة العرب في الجاهلية ناهيك عنها اليوم والأسماء جلها لاتينية وأوروبية. وهذا القصور في المستوى الأدنى من العالم الرمزي -اللغة الطبيعية- يتبعه قصور في المستوى الاعلى من العالم الرمزي -اللغات الصناعية لتسمية الأشياء نباتا وحيوانا وأزهارا وحتى مآكل وأواني وأدوات- بحيث إنه لا يستطيع أن يعبر عن شيء جدي وخاصة عن أعماق النفس البشرية.
قلما تجد أديبا عربيا يمكن أن ينافس أي أديب جاهلي فضلا عن أديب في عصور الإسلام المزدهرة في تسمية ما يتكلم عليه من لطائف علم أعماق النفس والتجارب الوجودية. وأقصى ما يمكن أن يعبر عنه هو مبتذلات عامية لا تتجاوز الأسماء العامة دون تنوع التسمية بتنوع الخصائص المميزة للمسمى. وإذا كان العجز عن التسمية باللغة الطبيعية هو بهذه الدرجة فكيف بالتسمية باللغات الصناعية والتي هي كلها من ثمرات الأبستمولوجي مطبقا على الاكسيولوجي في الحضارات التي لغاتها الطبيعية هي لغات التعامل اليومي وهي قادرة على ترجمة التعامل المختص شرطا في التربية والتعليم الموصل إليها. ولست واثقا مثلا أن حنا مينا الذي اشتهر بثقافة البحر قادر على تسمية ما يعبر عنها: • أولا كحرفة • وثانيا كأدوات • وثالثا كمجال بحري • ورابعا كتعامل مع أهم منتجات البحر • وأخيرا كتجربة رامزة لما في التجربة الوجودية والخلقية من لا تحدد ومفاجآت كما يصفها القرآن في صلة بالمتعاليات الوجودية.
وهذه المستويات من التسمية قد تبدو للكثير عديمة الصلة بالكلام على أدبية الأدب أو على الأقل على ما جعلنا نناظر بين دوره في الأكسيولوجي ودورالرياضيات في الأبستمولوجي أعني أبداع النماذج الخلقية والنماذج المعرفية. وطبعا من لا يرى العلاقة بين الأمرين لا يستحق الكلام معه في المسألة. فالفرق بين الإبداع الرياضي والإبداع الأدبي من حيث أدوات التعبير هو كالفرق بين المستغني عن الترجمة إلى اللغة الطبيعية (الرياضي) والمضطر إليها (الاديب). فللأدب مستويان من اللغة واحدة مثل لغة الرياضي وهي المستوى الأعمق من العبارة الإبداعية في كل أدب ومستوى أدائها باللغة الطبيعية. الرياضي تكفيه الكتابة بديلا من هذا المستوى الذي يحتاج إليه الأديب لأن الرياضي لغته التواصلية للغته المبدعة للمعاني المعرفية الجديدة رسوم بخلاف الأديب الذي لا يرسم بالأشكال والخطوط وبرموز ليست من جنس رموز اللسان الطبيعي بل باللغة الطبيعية حتما وما “يطبع” من اللغة العلمية. وما لا يستطيع الأديب تسميته لا يمكن أن يكون حاضرا كمسمى ومن ثم فالأديب فقير العبارة سيقتصر على المبتذلات التي تغيب فيها اللطائف من المعاني ولا شيء غير اللطائف ذو دلالة في الغوص إلى أعماق النفس البشرية وما بين النفوس من قيم خلقية. فالادب مداره أنواع القيم الخمسة موجبها وسالبها. فكل الإبداع الادبي يدور حول الإرادة (حرية وعبودية) والعلم (صدقا وكذبا) والقدرة (خيرا وشرا) والحياة (جمالا وقبحا) والوجود (جلالا وذلا) حول الموضوعات التي عالجتها سورة يوسف في مستوي الوجود التاريخي المسبوق بالوجود الخيالي في الأحلام: الحب والاقتصاد والعلم والسياسة والتعالي الديني.
وسأخصص الفصل الموالي لإشكالية التوجيه المنطقي الوجودي -الممكن والواجب والممتنع- وصلتهما بموضوع الإبداعين العلمي والعملي. فلا يمكن تخيل الإبداع الرياضي والإبداع الأدبي من حيث هما خالقين من تجاوز وحدانية العالم الذي تحصر فيه دلالة الجهات من دون المقابلة بين معايير الموجود والمنشود.