في تونس الحالية – من يخدع من؟

مقدمة

يكذب من يحاول أن يصف ما يجري في تونس بعد الانتخابات الأخيرة بأنه مبارزة بين شيخين أو “طرح” شطرنج بين “متكتكين” كلاهما يخادع الآخر أو يصادقه بحق. فلعبة الخداع أوسع من لقاء الشيخين والحزبين الأكبرين: الجميع له منها قسط يكبر أو يصغر بحسب الأدوار التي نحاول وصفها هنا.

وفي كل الأحوال فالمخدوع في “الطرح” هو الشعب المسكين الذي لم يعد يفهم ما يجري لفرط ما أثاروه من غبار وبثوه من دخان بالحملات الإعلامية المخادعة للفضائيات التي قلوتها منذ البداية.

لقد سكت. ثم حذرت. ثم سكت. ثم خاصة التزمت بمنع ما كان يمكن أن يؤدي إلى الصدام مباشرة بعد الانتخابات لأن الجماعة قررت العودة طوعا أو كرها وكانت الفرصة الإقليمية سانحة وهم إلى الآن يطلبون استنساخها.

لكن السكوت بات الآن مشاركة في ما يمكن أن يهدد مستقبل البلاد مباشرة وبصورة غير مباشرة من خلال الغفلة عن الخطة الساعية لضرب الحساسية الإسلامية التي هي الضامن الوحيد للجم الدكتاتورية في تونس وفي كل البلاد العربية لأنها هي القوة السياسية الوحيدة التي تزن بما يحول دون خصوم حكم الشعب لنفسه والتغول.

فهم يريدون ضرب هذه الحساسية المعبرة بحق على أغلبية الشعب إذا قال رأيه بحرية ودون تدخل أجنبي بتوسط أصحاب الاستبداد والفساد:

  1. ليس في المجتمع السياسي فحسب
  2. وليس في المجتمع المدني فحسب
  3. وليس في مؤسسات التعليم فحسب
  4. وليس في مؤسسات الإدارة عامة ومؤسسات السيادة التقليدية فسحب
  5. بل خاصة في الحياة الروحية للجماعة بالعودة التدريجية– والجميع يرى ذلك الآن بالعين المجردة– لسياسة ابن علي بأكثر خبثا وباستراتيجية استئصالية تستفيد من الحرب المعلنة كما يفعل حلفاؤهم من بشار إلى السيسي إلى حفتر بتحريك إيراني إسرائيلي أي ذراعي الاستعمار والاستتباع. وهذا أمر بين للعيان.

وقد تساءلت عن مواصلة هذا الخداع المتبادل عديد المرات منذ أن بدأ ما يسمى بالحوار الوطني ما سره وكيف يمكن أن نفهمه. وهو ليس مقصورا على الحزبين الأكبرين فضلا عن أن يكون مقصورا على الشيخين. لكني انشغلت عن القضية المحلية للبحث في محدداتها الإقليمية والدولية وأراني مضطرا للعودة إلى المحلي لأن ما يجري بات بحق أخطر مما يتصور أي عاقل.

كان سؤالي الأول حول تفسير سلوك القوى السياسية بصنفيها أي النهضة وحليفيها (الترويكا) والأحزاب التي لعب بها السبسي ببعض نوابها شر لعب في مهزلة جبهة الانقاذ حتى أبقاها سخرية الرأي العام المحلي والإقليمي.

وكان سؤالي الثاني حول تفسير سلوك القوى السياسية التي تحكم الآن بالفعل وتوهم النهضة والحزبين الآخرين بأن لهم دور في الحكم بما يرمى لهم من فتات لا يمكن لأي سياسي أن يعتبره دليلا على مشاركة فعلية في الحكم.

السؤال الأول

أبدأ بالنهضة. سألت مرة –لما كنت مشاركا في ديوان رئيس الحكومة– وخاصة عندما اشتدت الأزمة بعد الاغتيال الأول وحتى عندما خرجت وبقيت ساعيا للنصح بعد الاغتيال الثاني وخلال مسرحية الحوار الوطني سألت : هل للنهضة ما تخشاه كأن يكون لأعدائها عليها –وحتى لمن يظن من أصدقائها– ملفات يمكن أن تجبرها بالابتزاز على التسليم بما يفرض عليها؟ ونصحت بأن على النهضة إن كان لها ما يمكن أن تبتز به أن تطبق منطق بيدي لا بيد عمرو وأن تعاقب من يمكن أن يلطخها بما يستعمل في ابتزازها فيضعف موقفها. .

وهذا السؤال صار اليوم عندي أكثر إلحاحا دون أن أتهم احدا خاصة وأني لا أجهل أن الملفات يمكن أن تفتعل ومن بيده السلطان لا يعييه اختراع التهم. لكن التنازلات وصلت إلى حد غير مفهوم ولا مقبول. ويصعب أن تكون هذه الدرجة من التنازل –مثل القبول بقانون المصالحة وبالإصلاح البنكي دون محاسبة والقبول بالتصفية النسقية لكل ما له علاقة بإسلامية المجتمع– ثمرة خطة إيجابية لأن استراتيجية الخصم بينة.

فالخصم يريد أن يدفع بالنهضة إلى فقدان كل رصيدها الخلقي والنضالي بتحويلها إلى عميل مثلهم لرجال الأعمال الفاسدين فضلا عن فقدان تمثيل ما يضربونه اليوم اعني الهوية الإسلامية للمجتمع التونسي. لذلك فإذا كان للنهضة ما يمكن من ابتزازها فالشجاعة السياسية تقتضي التضحية بمن أصاب النهضة في مقتل مهما كان قريبا أو عزيزا حتى لا تفقد الحركة رصيدها الرمزي وتمثيلها للحساسية الإسلامية.

ولأثني بالحزبين اللذين شاركا النهضة في الحكم وكانا حقا عالة عليها في كل شيء لأنهما كانا أكثر ابتزازا لها من معارضيها بالمزايدات العلنية وبفرض محاصصة مخجلة وخاصة في الوظائف الإدارية وفي وزارات السيادة (كالسفراء : مثلا تعيين سفير تونس في باريس أو تعيين وزير المالية أو تعيين بعض مديري البنوك : كل ذلك كان فضائح شككتني في إيمان قيادة التكتل مثلا بالمصلحة الوطنية). ورغم ذلك فقد كثر الكلام على مقاومة الفساد والتطهير رغم أن المزايدات جعلت ذلك شبه مستحيل فضلا عن اللعب على الوتر الثوري (المؤتمر وسلوك ديوان رئاسة الجمهورية التي صار المستشارون فيها معارضين علنا للنهضة) أو الحداثي (التكتل وحماية الصحافة المزعومة) وخاصة من قبل من خانوا هذين الحزبين وانضموا إلى النداء. وبعضهم نال ما يطمع إليه وبعضهم ما يزال ناقما لأن النداء لم يعطه ما كان يتصوره ثمن خيانته للحزب الذي جعله نائبا في الانتخابات الأولى.

سؤالي إلى هذين الحزبين وما تفرع عنهما من فتات حزبي هو بذاته دليل على عدم الإيمان بالديموقراطية لأن تفتت القوى السياسية يجعلها ممتنعة: إلى متى ستظلون تعبثون بهاتين الورقتين الثورية والحداثية في حين أن البلاد تحتاج بحق إلى جبهة إنقاذ تتجاوز الخلافات الصبيانية لدكاكين التجارة السياسية والعنتريات الحزبية والسردكة الزعامية؟ وإلى متى ستواصلون المزايدة على النهضة في حين أنكم الذين تحشرونها في الوضع الحالي لأنها لا تثق فيكم ولا تستطيع أن تعتمد عليكم بعد تجربة دامت سنتين بينت أن باطنكم غير ظاهركم في كل ما تفعلون. ومهما فعلتم فلا يمكن أن تتهموني بالانحياز للنهضة فقد كنت ولا زلت أكثر الناس نقدا لها ولكن ليس بالمزايدة عليها. ولما شعرت بأني لم أعد مسموعا حتى بمعنى الأخذ بالخاطر غادرت ولا أنوي العودة لأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.

السؤال الثاني

وهو سؤال مضاعف كذلك. وهو سؤال يتعلق بأخطر وضع تمر به البلاد التي أراهم يدفعونها دفعا لمآزق ما أتى الله بها من سلطان خاصة وقد جربها غيرهم بل بعضهم وتبين له أنها تؤدي إلى طرق مسدودة.

وسأبدأ بحزب الشيخ الثاني الذي أعجب من تجاهله حقيقة عاشها مرتين في العهد البورقيبي (الذي خانه طيلة حبسه فلم يسعفه حتى بالسؤال عن أحواله ويدعي الآن تمثيله) وفي العهد الابنعلوي الذي يمثله بحق لأنه بنى حزبه على نفس الاستراتيجية : استعمال اليسار الاستئصالي ومحاولة تصفية الاتجاه الإسلامي ومعاملة الدساترة على أنهم الأغمار بيد بقايا الاستعمار.

وهذه الحقيقة هي التالية : لا تتذاكى –كما بينا في شرحنا لقصة التارزي الشهيرة– فما عجز عنه بورقيبة وابن علي لن تنجح فيه إن كنت تنوي القيام به :

الشعب التونسي تعلم ولم يعد « حربوشة للبلعان ». فلا تغامر بتونس مثل ما فعل من تهنئه بالانقلاب في مصر ومن تعيد معه العلاقات الدبلوماسية في سوريا ومن تميلون إليه في ليبيا. أتمنى أن تفهمو أنكم بهذا قد تفتحوا على تونس باب جنهم. ذلك أن خط الدفاع الأخير هو الإسلام التونسي المعتدل الذي يمثله من تريدون تصفيتهم.

فإذا كان بورقيبة قد أفقد تونس خط الدفاع الأول ضد الفوضى عندما حارب المدرسة التونسية في الفكر والخلق الديني الوسطي فقضى على مؤسساتها ورجالاتها وحاول ابن علي إفقادها الخط الثاني بالظن أنه يمكن أن يقضي على الحركة الإسلاميةوأن يغير ثقافة الشعب بالاعتماد على اليسار الهجين الذي يدعي تطبيق تجفيف المنابع فإن من معكم من الاستئصاليين يريدون القيام بالأمرين معا. ومن ثم فهم في الحقيقة الحلفاء الحقيقيون للإرهاب إذ هم يخلون له الساحة من كل صمامات الأمان التي تجعل الشعوب تعيش حرياتها الدينية والروحية دون حاجة لما يضطرها لحمايتها بكل الطرق : بل هم يفرحون به لأنه يمكنهم من استعمال الإرهاب المعاكس إرهاب الدولة لإرجاع الشعب إلى خوف ما قبل الثورة. وهذا مستحيل كونوا واثقين.

والسؤال في الحقيقة لا يتوجه لشيخ النداء بل هو موجه إلى الدساترة أو على الأقل إلى من أدرك منهم أخطاء الماضي ويريدون أن يصلحوا ما يمكن اصلاحه بالتصالح مع قيم شعبهم وتعويضه بإخلاص على ما عاناه من عهدي الحكم باسمهم. فهذا لا يكون إلا إذا تجندتم لتحرير النداء من لوثة الاستئصاليين الذين يعتبرونكم مجرد قوادة وجامعي أصوات في الانتخابات ليحكموا البلاد ويخربوها بسلوك استئصالي يعد ما فعله ابن علي قبلهم لعب أطفال : فهم بكل أصنافهم الموجودة في الجبهة –ونفس الأصناف موجودة في النداء وفي الاتحاد– لا يحلمون إلا بحمام دم من جنس ما يجري في سوريا ومصر وليبيا وحتى اليمن : يكفي أن تسمعهم في البلاتوهات يتكلمون بإعجاب عن براميل بشار وإرهاب حزب الله وتشريد الشعب السوري وتشويه مقاومة شبابه للتحرر من الاستبداد والفساد.

فإذا بقيتم متفرجين واعتمدتم على صمود الحركة الإسلامية وبعض المخلصين من المعارضة الديموقراطية فستكونون مجرد حطب معركة يكون الجميع خاسرا فيها لأن الحركة الإسلامية هي خط الدفاع الأخير ضد ما يستعمله أعداء الوطن لكي يفرضوا من جديد سلطانهم باسم محاربة الإرهاب والتكفير بسياسة تجفيف المنابع مع إثبات التجربة أن هذا التجفيف هو المسؤول الأول عى ظاهرة الإرهاب ليس عندنا وحدنا بل في كل العالم.

ولنمر الآن إلى الاحزاب التي غرر بها السبسي فدخلت معه في ما سموه جبهة الانقاذ–واعني خاصة ما صار الآن يسمى بالجماعة الديموقراطية في المجلس من غير الترويكا : أي حزب الشابي وما تفرع عنه من حزيبات مجهرية. فهؤلاء هم الآن لا في العير ولا في النفير. يتفرجون ويزايدون ولا يدرون أنهم يسهمون في حشر النهضة لعلمهم أنها لو اختارت صف المعارضة لسهلت على الخصم ما يسعى إليه : تعميم مفهوم الإرهاب كما فعل السيسي في مصر على كل إسلامي.

ومعنى ذلك أن استراتيجية تأجيل الصدام يمكن أن تتحول إلى استراتيجة فرض السلام إذا اتحدت كل الأحزاب الديموقراطية مع الحركة الإسلامية لتحقيق التوازن ومنع ما يخطط له الاستئصاليون في النداء وفي الجبهة وفي الاتحاد من جر تونس إلى ما يقرب من الحرب الأهلية. وما لم يتحقق هذا المسعى لفرض الخيار الديموقراطية والانتقال السلمي فإن الاستراتيجيا الوحيدة الممكنة للإسلاميين هي ما هم مضطرون إليه الآن مادامت كل الأحزاب الأخرى تتكلم على الديموقراطية ولا تريد القيام بما يترتب على ذلك بحق.

فلكأن هذه الاحزاب هي بدورها تخفي في ضمائرها ما يعلن عنه النداء والاستئصاليون فيه على وجه الخصوص : السعي لعزل الحساسية الاسلامية ولمنع نصف الشعب من المساهمة في بناء تونس الجديدة ويريدون مثلهم فرض نموذجا اجتماعيا لا تريده غالبية الشعب التونسي نمط يتصور أن مكاسب الحداثة تعني خلع الشعب من ثقافته وقيمه وتحريم المشاركة السياسية على من يريد تمثيل هذه الإرادة بحرية وتطبيق الدستور الجديد الذي نرى اليوم النداء ومن فيه من استئصاليين يدوسون عليه كل يوم.


في تونس الحالية – من يخدع من؟ – أبو يعرب المرزوقي

إعجاب تحميل…

مرتبط

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي