تمهيد
تكلمت في نصي السابق عن الخداع المتبادل واكتفيت بوصف الداء ولم أقدم مقترحا حول الحل بل لم أحدد طبيعة المرض الذي كانت أعراضه التخادع العام في الطبقة السياسية. واليوم سأحاول استكمال التشخيص بالعودة إلى الأزمة الأولى بعد ما سمي بالتحول أو بعد فشل شرعية الإنقاذ الذي اعتمد عليها ابن علي في انقلابه على بورقيبة. ذلك أني كما سبق أن بينت تونس اليوم بسبب صعود السبسي تعيش نفس الأزمة التي عاشتها لما بلغ بورقيبة أرذل العمر وأصبح هم الطبقة السياسة النافذة لا يتعلق بمصير الوطن بل التنافس على التركة والوراثة في الحزب وفي الدولة
عهد السبسي و نهاية عهد بورقيبة
وكما بينت سابقا فإن بداية عهد السبسي متطابقة حرفيا مع نهاية عهد بورقيبة في كل وجوهها السياسية والاقتصادية. لكن الوجه المؤثر والغالب هو الوجه المتعلق بالنخبة السياسية مع ما أضيف إليه من نتائج فسادها في عهد وريثه ابن علي.
ومعنى ذلك –حتى وإن رفضت النخبة السياسية الاعتراف بذلك– فإن الأزمة في نهاية عهد بورقيبة يمكن أن نقول إنها كانت بالأساس أزمة نخبة سياسية يغلب عليها خصومة الاستبداد مع دور ليس محددا للفساد. أما الازمة في بداية عهد السبسي التي هي مطابقة لنهاية عهد بورقيبة فالمحدد هو الفساد الذي يريد أن يسترد شروط الاستبداد بوأد ما فرضته الثورة من وعي شعبي وحريات.
التذكير بالحل المقترح سابقا
أعلم أن الكثير سيعجب مما أقترحه الآن لأني سبق أن اقترحته لما تعرضت تونس للأزمة الأساسية التي بينت أن ما تقدم على أنه تحول إنقاذي لم ينقذ شيئا لأنه لم يشخص الداء بل اكتفى باعتبار أعراضه مصدرا لتبرير انقلابه على ما ادعاه في ما سمي بنص التحول الذي يعترف للشعب التونسي بالأهلية لقيادة نفسه أي بالحياة الديموقراطية. فوحدة الداء تقتضي وحدة الدواء مع تغيير “الدوزة” – كان الاستبداد هو المشكل والفساد سينتج عن الفشل في علاجه واليوم المشكل هو الفساد والاستبداد سينتج عن الفشل في علاجه-.
الحل المقترح
لا أنسى أن الكثير قد لامني على تقديم ذلك المقترح –وخاصة كما عرضته جون افريك ملخصا بقلم ممثلها في تونس وليس في نصه الأصلي الذي صدر في القدس في ثلاثة أعداد متوالية في نهاية سنة 11-9- بل وذهب الكثير من الأغبياء في مناكفات الحملة الانتخابية الأولى بعد الثورة إلى تقديم النص على أنه من جنس ما يسمونه مناشدة.
لذلك فقد تحداهم ابني يعرب فنشر النص كاملا ليبين أنه لا أحد من أبطال الكلام وأنذال الأفعال يمكنه أن يجرؤ على وضع الشروط الخمسة التي اشترطها المقترح للسماح لابن علي من التمديد من نوبة إضافية وتعديل الدستور لهذا الهدف .
شروط الحل المقترح
1-الشرط الأول
الفصل بين الدولة والحزب ومن ثم استقالته من رئاسة التجمع وتقدمه للرئاسة باسم الشعب التونسي كله وليس باسم حزب ممثل لإحدى حساسياته السياسية.
2-الشرط الثاني
العفو التشريعي العام على كل السجناء السياسيين من جميع الحساسيات السياسية حتى يكون المناخ مناخ سلم مدنية تمكن من التعبير الحر على إرادة الشعب.
3-الشرط الثالث
فتح باب الحريات السياسة والإعلامية للجميع بشروط العمل السياسي السلمي لتمكين النخب السياسية من تعلم السياسية لأن الأزمة هي أن النخبة البورقيبة نضبت (شاخت بالمعنيين) ولم تتكون نخب سياسية قادرة على ممارسة الديموقراطية.
4-الشرط الرابع
حياد الدولة إدارة واعلاما في التعامل مع المواطنين وخاصة في استشارات الشعب رأيه بخصوص إدارة شؤونة وخاصة في الانتخابات الوطنية.
5-والشرط الأخير
هو السماح بتكوين خمسة أحزاب يكون التجمع واحدا منها وتعامل كلها على قدم المساواة من الدولة تمويلا وتجهيزا للشروط الدنيا التي تضمن العدل في إمكانات العمل السياسي.
لماذا هذه الشروط وهل هي ما تزال راهنة؟
ذلك هو مضمون كلامي اليوم. لماذا فشل ما يسمى بالتحول الإنقاذي الذي لا يمكن أن ينكر أحد أنه في البداية نال رضا الغالبية وأصبح على الأقل في السنوات الأولى يتمتع بما يمكن أن نسميه بشرعية الإنقاذ بعد أن تردت الشرعية التاريخية للنظام البورقيبي؟ والمنطلق هو طبيعة هذه الأحزاب السياسية ولم هي خمسة.
ما حللته حينها وما لا يزال صحيحا الان هو أن تونس مثلها مثل كل البلاد العربية بل والإسلامية بل وكل البلاد ذات الحضارة العتيقة التي تستأنف تاريخها لا ينبغي الاقتصار على فهم السياسي فيها من المنطلق السياسي وحده بل لا بد من اعتبار البعد الحضاري وخاصة كل ما يتعلق بأزمة الهوية الحضارية والروحية.
لذلك فمنطق السياسي الذي يعتمد على معياري الاقتصادي (معيار الثروة) والاجتماعي(معيار المنزلة) لتحديد القوى الفاعلة فيه لا يكفي : الرأسمالي والاشتراكي أو اليميني واليساري لا يكفي.
وهذا المبدأ اصبح مبدأ عاما حتى في الدول الغربية التي ليست في وضع الاستئناف بل هي لم تمر بمرحلة انحطاط في بناها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الأقل منذ خسمة قرون.
ذلك أن اليميني لا يحكم إلا بوسط اليمن واليساري لا يحكم إلا بوسط اليسار. فتقاربت البرامج السياسية لأن التجربة بينت ضرورة الجمع بين شروط الفاعلية الاقتصادية (أساس النظرية الرأسمالية واليمين) وشروط الفاعلية الاجتماعية (أساس النظرية الاشتراكية واليسار) وبات الحكم ثمرة تحديد الكلفتين للتوفيق بين المطلبين لجمهور الناخبين.
بنية النخب السياسية
التيارات السياسية
وهذا يعني أن منظومة القوى السياسية إذا نظر إليها بما تقتضيه طبيعتها مخمسة الأبعاد : يسار ويمين كلاهما ينقسم إلى متطرف ومعتدل.
والتطرف يكون في الكلام والمعارضة لكن الحكم يؤدي إلى الاقتراب من الاعتدال والوسط لنيل رضا الأغلبية.
هناك إذن أربعة تيارات سياسية أو إن شئنا تياران في كل صف.
مقتضيات تغير الأغلبيات
لكن تغير الأغلبيات يقتضي أمرين :
أولا أن يوجد تيار غير محدد الهوى يتأرجح بين هذه التيارات الأربعة وهو قد يكون فيها جميعا بل هو الغالب في كل حزب سياسي كبير.
ثانيا و قد يكون في تيار مستقل –مثل الراديكاليين في فرنسا– هو إن شئنا تيار الانتهازيين الذين يرجحون صف الحزب الذي يتوقعون أنه الأقرب إلى نيل رضا الناخبين.
الآلية الطبيعية و الآلية الحضارية
تلك هي الآلية الطبيعية. لكن المجتمعات التي تعاني من أزمة الهوية الحضارية والروحية تضيف إلى ذلك إمكانية تصنيف قواها السياسية بهذا المعيار الذي لا يتنافى مع المعيار السابق بل يغير من آليات فاعليته فيجعل التحليل السياسي أكثر تعقيدا.
العلاقات بين التيارت السياسية
الإسلامي و البورقيبي
فالإسلامي والبورقيبي يشتركان في الموقف من الاقتصادي الاجتماعي (اليمين) ويختلفان في الموقف من الهوية الحضارية والروحية.
القومي و الإشتراكي
والقومي والاشتراكي يشتركان في الموقف الاقتصادي والاجتماعي (اليسار) ويختلفان في الموقف من الهوية القومية والعالمية.
الصراع القومي الإسلامي
ولما كان الموقفان الإسلامي والعروبي في صراع منذ بداية ما يسمى بالثورات العربية –الانقلابات العسكرية– في المنتصف الثاني من القرن الماضي فإن تحالف القوى السياسية كان يساريا قوميا ضد الإسلامي والبورقيبي. لكن خلافهم مع الإسلامي كان أقوى من الخلاف مع البورقيبي.
الخلاف الإسلامي البورقيبي
ولما كان الخلاف الإسلامي البورقيبي هو في الحقيقة حربا أهلية بين فرعين من نفس الحزب الذي بدأ جامعا بين همي التأصيل والتحديث فإن هذا العامل بات المحدد لكل المناخ السياسي من الصراع من بدايته الأولى بين بورقيبة والثعالبي إلى الحرب الأهلية بين ابن يوسف وبورقيبة وقد تواصل جامعا بين البعدين بين بورقيبة والإسلاميين وبين ابن علي والإسلاميين وهو الآن يطل برأسه من جديد بين عودة التجمع والإسلاميين.
لكنه الآن صار ظاهرة إقليمية تتجاوز تونس. وتلك هي علة انشغالي بالظاهرة ككل.
مشكلتا عقدة المعترك السياسي
وفي الحقيقة فإن المعترك السياسي كله –وخاصة إذا أضفنا إليه معادلة العلاقة بين الاستبداد والفساد بترتيب حالي مقابل للترتيب الذي كان عليه في نهاية عهد بورقيبة وجدنا عقدته الأساسية وأدركنا أن الحل لايمكن أن يكون من دون علاج المشكلين التاليين :
المشكل الأول:
وهو في الحقيقة جواب سؤال اعجب من عدم فهم النخبة السياسية لدلالته : ما الذي يفسر عدد الأحزاب وتذررها بل و“ذراريها“؟
المشكل الثاني :
لماذا يتحالف اليساري والقومي مع التجمع حتى بعد أن أصبح حزب رجال الأعمال وانقضاء مفهومي الشرعية التاريخية للبورقيبية والانقاذية للابن علوية؟
الحل المقترح
الحل هو في الجواب عن السؤال الأول بالصورة التالية وهي نفس ما اقترحت سابقا لأن المشكل هو هو: عدم وجود نخبة سياسية ناضجة وقادرة على العلاج السياسي الهادئ والمتحرر من العبث الصبياني الذي يجعل النخب السياسية مجرد واجهة لقوى خفية ذات طابع مافياوي.
فلن ننقذ تونس مما يجري في غيرها من دون أن يفهم من يؤمن حقا بأهداف الثورة ويريد انتقالا سلميا إلى الديموقراطية والحرية والكرامة بأن التعدد الحزبي الحالي يلغي كل إمكانية ليس للحكم الناجع فحسب بل لفرض المناخ السياسي بقوة شعبية قادرة سلميا على منع الفساد من استرداد الاستبداد.
لا بد إذن من توحيد الديموقراطيين بحق من كل التيارات في جبهة سياسية قادرة على منع استعادة الفساد الحاكم في الخفاء إلى جعل النظام نظام استبداد بقوة الدولة.
والحل هو الجواب عن السؤال الثاني. وهو سؤال يقتضي تعديل الحل الذي اقترحته سابقا من بعض الوجوه.
فالصراع بين القومي والإسلامي لم يعد له ما يبرره. فقد بينت الثورة أنه لا وجود لأنظمة قومية ولا لأنظمة إسلامية. فالقومية والإسلام كانا طيلة الصراع في القرن الماضي مجرد غطاء إيديولوجي الأول للطائفية والثاني للقبلية. ولا حاجة لمزيد التوضيح.
كما أنه لا وجود ليمين ويسار حتى في أمريكا وروسيا بل الحل أصبح عالميا البرنامج الجامع بين الفاعلية الاقتصادية والفاعلية الاجتماعية التي تحقق التناسب بين رضا الناخب وكلفة الرعاية.
تأسيس الحل وطبيعة الأحلاف الممكنة
ومن ثم فالاحلاف ينبغي أن تبنى على مطالب الثورة وليس على هذين الوهمين الذين تنبني عليهما الأحلاف في تونس اليوم مع تركيز عجيب على أمر مستحيل التحقيق: تحالف ضد ثقافة الشعب وممثليه لكأن الهدف صار دفع الشعب إلى العنف.
وعندي أن تونس ينبغي أن يوجد فيها خمسة أحزاب :
- من يدعو إلى قومية منفتحة ليست عنصرية بل ثقافية وحضارية
- ومن يدعو إلى إسلام منفتح وديموقراطي وليس قروسطي
- ومن يدعو إلى اشتراكية منفتحة لا تنسى الفاعلية الاقتصادية بسبب الهم الاجتماعي
- ومن يدعو إلى راسمالية منتفحة لا تنسى الحقوق الاجتماعية بسبب النجاعة الاقتصادية.
وبذلك فليتنافس المتنافسون بقوى سياسية قادرة على نيل رضا الشعب وعدم ضيم أي مطلب من المطالب التي يمثلها الأحزاب الأخرى.
ويبقى الحزب اللامشكل للانتهازيين أو ما يسمى “بالبطن الرخو” في كل منظومة للقوى السياسية ومنه يأتي الهامش المرجح في الانتخابات.
خاتمة
ورأيي ان ما يمكن أن يحول دون الفساد وسعيه لاسترداد الاستبداد حتى يبقى بقوة الدولة –وخاصة بالطبالين ممن يقدمون بصفة الخبراء والصحافيين المطلعين أو من بقايا قوادة النظام البائد وما أكثرهم– يقتضي أن يتحالف الأفاضل من هذه القوى الأربعة ليكونوا حكومة وحدة وطنية برنامجها الوحيد ليس الحرب على الإرهاب بل على أهم علله أعني في الحقيقة الفساد والاستبداد وما ينتج عنهما من تفقير وتجويع وضياع للحقوق السياسية والاجتماعية والمواطنة.
وهذا يفترض التخلي النهائي على “بابل” السياسية و“بيزنطة” الفكرية والشروع الفعلي في إنقاذ تونس قبل أن يجرفها تيار العنف المستحكم في الإقليم كله.