لا يمكن أن يكون كل هؤلاء المترشحين لرئاسة تونس والمتنافسين على أسمى أمانة يكلف بها الإنسان مدركين لدلالتها وشروطها.
فأما دلالتها فهي مضاعفة:
1-فعلية بمقتضى الدستور الحالي: قيادة وجهي العلاقة بالعالم الخارجي لحماية الوطن دبلوماسيا وعسكريا فضلا عن حماية الدستور.
2-ورمزية بمقتضى مفهوم الرئاسة: تمثيل وحدة الشعب في الداخل وإرادته وثقافته وحظوظه في التعاون الدولي.
وأما شروطها فذات صلة بدلالتها: فلا يمكن لمن ليس له وراءه قوة سياسية معتبرة ممثلة للإرادة الشعبية في حالة عدم وجود اتفاق على وحدة وطنية لمدة معينة أن يكون ذا شرعية كافية لكي يكون مسموعا في وظيفتي الحماية الفعلية (الدبلوماسية والدفاع) والحماية الرمزية لمنزلة الجماعة ولوحدتها ولدستورها.
وأما تمثيل حظوظه في التعاون الدولي فلها علاقة ليس بالوزن السياسي في الداخل فحسب بل بالصورة في الخارج وخاصة بالعلاقات الجيدة مع المحيط الإقليمي والدولي: لأن الدول الصغيرة من حجم تونس سلامتها في صورتها وبعدها عن الأحلاف والتحيزات الحاسمة لأنها ليست قوة دولية تقدر على مثل هذه التحيزات.
فإذا طبقنا هذه المعايير بات من الواجب أن نستثني في هذا المضمار أكثر من 99 في المائة من المترشحين. فلو فرضنا أن “زيدا” أو “عمروا” قد نجح دون أن تتوفر فيه هذه الشروط فإن ذلك سيمثل عائقا مضاعفا:
1-الأول أمام الوطن بصورة عامة من حيث عدم تمكينه من تحقيق شروط الحماية والرعاية وكلتاهما بحاجة إلى التعاون الدولي خاصة بالنسبة إلى بلد تابع في أكثر من 80 في المائة من شروط حمايته ورعايته إلى إرادات أجنبية؟
2-الثاني أمام الثورة باعتبارها نقلة نوعية في المواطنة تحتاج لا إلى منطق الصدام بين الأحزاب بل إلى مصالحة تمكن من بناء وحدة وطنية على الأقل لمدة دورتين أي عقد كامل ليس فيه صراع سياسي يفتتت بلد فاقد للشروط الدنيا للتنمية من حيث الثروات الطبيعية في حالة فقدان السلم المدنية التي تمكن من العمل المنتج ؟
إذا لم يتم التوافق على شخصية من خارج الحزبين الأغلبيين ومن خارج الأحزاب المجهرية التي لا تتكون إلا من متزعم مغرور و”حارة” من الأعضاء فإن البلاد في خطر ايا كان الناجح من المترشحين الحاليين جميعهم.
وما يجعلني أخاف من هذا المآل هو أن المرشحين يعملون بمنطق الصدام المضاعف:
1-فالذين حكموا في المرحلة السابقة ما زالوا يتوهمون أنهم يمثلون الثورة ويتهمون البقية بأنهم يمثلون الثورة المضادة اعتمادا على ما عانوه خلال فترة حكمهم التي دامت أكثر مما كان ينبغي أن تدوم لو اقتصرت على مهمتها التأسيسية.
2-والذين عارضوا لم يتنصلوا بصورة واضحة من الثورة المضادة التي مثلوها خلال عمليات التعطيل النسقي للمرحلة الانتقالية ويتهمون الآخرين بأنهم يمثلون مؤامرة على الوطن لا ثورة. ثم هم بتحالفهم مع أعداء الثورة في المنطقة وتأييدهم للانقلابات في مصر وللجرائم في سوريا فإنهم يعبرون عن مواقف تريد محو كل ما سعت إليه الثورة ليس في الأعيان فحسب بل وكذلك في الأذهان.
وإذن فمنطق الصدام ليس مقصورا على الحملة الانتخابية العادية فضلا عن كونها ليست عادية بل هو منطق الصراع الإيديولوجي الخطير بشقيه في ما كان يمثل المعارضة (اليسار والتجمع) وفي ما كان يسمى الحكم بشقيه (الإسلامي والعلماني). والمعلوم أن اليسار والقوميين في تونس كما في مصر ضحايا فكر تجاوزه العصر فضلا عن مواقف انتقامية واستئصالية لا يمكن أن تحقق السلم المدنية.
ولما كان العلماني الذي كان يحكم قد انتهى تقريبا من الخارطة السياسية بمقتضى وزنه الانتخابي فإن الحلف بين شقي النظام السابق اليسار والتجمع على الإسلاميين يعيدنا إلى المربع الأول ولكن في مناخ دولي يوهمهم بأنهم قد وقعوا على فرصة تحقيق ما عجز دون ابنا علي الأخير والسابق. وهنا يمكن الخطر الذي يمكن أن يدخل البلاد في ما لا تحمد عقباه. وطبعا فينبغي أن يفهم هذا الحلف أن المهمة أعسر مما كانت في عهد ابن علي وبورقيبة: الإسلاميون اليوم أصبحوا أكثر حداثة منهم في كل الميادين التي تحتاجها الدولة الحديثة.
أما محاولة تجميع صف الثورة للتصدي للحلف بين اليسار والتجمع في الانتخابات الحالية فهو مهمة شبه مستحيلة لأن مثل هذا الأمر يقتضي مراجعة وجهد كبير ومديد لا تكفي لإنجازه مدة الحملة الانتخابية. ولما كان جل العلمانيين الذين يمكن ان ينتسبوا إلى صف الثورة اختاروا العودة إلى الحلف مع الأنظمة المتقدمة على الثورة فإن المسعى الوحيد هو مراجعتهم لمواقفهم بعد أن تثبت المعركة أنهم قد اختاروا الصف الخاسر. وذلك أمر أنا متأكد منه لكن لا بد من أن تذهب المعركة إلى غايتها وهي طويلة لأنها حرب مطاولة محلية واقليمية ودولية.
لذلك فإني أرى أن فرضية أخذ الرئاسة للحد من عدوان الثورة المضادة حتى لو تحققت لن تحد منها بل هي ستسرع الصدام باعتبار أن الثورة المضادة عازمة على الحسم في الظرف الدولي المواتي حاليا: لذلك كان سؤالي هل نحن مستعدون لخوض المعركة بشروطها ؟ وهل الاستعداد لها محلي أم إقليمي أم دولي أم هو بها جميعا كالحال مع الثورة المضادة التي تعمل محليا وإقليما ودوليا لمحو آثار الربيع ومنع أي إمكانية لحكم المسلمين لأنفسهم حتى بالآليات الديموقراطية التي يدعي الغرب الإيمان بها.
تلك هي المعطيات. وذلك ما توصلت إليه بالتحليل. لكني ليس لي حلول: فتلك وظيفة قيادات المسرح السياسي الذين لا أنتسب إليهم ومن ثم فينبغي الا يفهموا من كلامي أني أنافس أيا منهم أو أعادي أحدا منهم. فعندي أن تونس هي بحجم لا يمكنها من خوض معارك تاريخية بهذا الحجم إذا لم تنضو في استراتيجية أوسع هي ما جعلني أعتبر الثورة متخلفة على الثورة المضادة: فهذه تعمل محليا وإقليميا ودوليا وتلك لم تصل حتى للتنسيق المحلي فضلا عن الاقليمي والدولي.
ملحق: توقعات وليست تنبؤات – أبو يعرب المرزوقي http://wp.me/p4ZS3x-B
المنتظر بعد الإنتخابات : ما أتوقعه و لا أتمناه – أبو يعرب المرزوقي http://wp.me/p4ZS3x-u