في الفعل السياسي، شروط فاعليته وشروط سياسيته

ه

في كلامه على الأمم كثيرة العصائب قال ابن خلدون إنها أمم يعسر أن توجد فيها دولة. وأضاف أنه إذا وجدت فيها دولة فقلما تستقر بسبب تفتت قواها السياسية وتغليب التناحر بينها على وحدتها والعمل من أجل المصالح المشتركة بينها. وطبعا رغم ما في كلامه من طابع نظري عام فإنه يقصد ما كان عليه حال العرب قبل الإسلام وما نكص إليه المسلمون في عصره. فينبغي ألا ننسى أنه من الأندلس وأنه كان في تواصل مع نخبها ومع أعدائهم وعالما بقوة الطرفين حتى في مرحلة احتضار ما بقي من ملوك الطوائف.
ومحاولتي هذه التي قد تكون آخر ما أخصصه للحملة الانتخابية. وتلك علة طولها الذي لم يكن من عادتي في الكتابة على القضايا الظرفية. وأملي أن يتدبرها كل من يريد أن يسهم في تجنيب تونس مآلا أكاد أراه بالعين المجردة وأرى عسر تجنبه من دون فهم ما يجري في نفس السياق الذي أشار إليه ابن خلدون. فالتفتت السياسي في تونس أشبه ما يكون بالتفتت في إمارات الطوائف الأندلسية. وهو تحلل الجماعة والدولة تحللهما المؤدي إلى الفوضى الهدامة التي تحول المجتمع إلى مزبلة لكل جراثيم العالم وفيروساته. وهو أمر بدأ منذ ترهل النظام البورقيبي و”تمفيز” نظام ابن علي ونظام الاتحاد وكل “الموازيات” في الاقتصاد والثقافة والإعلام. وهي كلها اقطاعيات أنهت مفهوم الدولة رغم تبدل الظرف وتغير المعطيات. لكن اللعبة الدولية ازداد ثقلها أكثر مما كانت عليه في عصر ابن خلدون وتبقى مع ذلك من نفس الطبيعة في علاقة المسلمين بالغرب الذي يريد أن يسيطر على الإقليم بالعملاء من أصحابه تماما كما حصل في حروب الاسترداد ونموذجها الاندلس وملوك الطوائف فيها.
وقد عادت هذه الظاهرة في الإقليم عامة وعند العرب خاصة منذ انفراط عقد الخلافة وتكون ما يسمونه دولا وهي في الحقيقة محميات تخضع لولاء طبقة تأتمر بأمر «المسؤول الكبير» – كما قال المرحوم – المستعمر الذي سلم لنخبة عميلة أمر مستعمراته ليحافظ عليها بأيدي أبنائها ممن لا شرف لهم ولا دين. ذلك أنه لا يوجد عاقل وخاصة الآن في عصر العماليق يمكن أن يصدق أن من يتسول شروط رعايته وشروط حمايته يمكن أن يكون حرا وسيدا في دولة بمعنى مفهوم الدولة في أي عصر.
وهذه الظاهرة فضحتها الثورة وخاصة الثورة المضادة لأنها قد صارت طاغية على المناخ العام وصارت العمالة علنية في بلاد الربيع حيث صار الساسة الفاقدون لشروط الفعل السياسي أشبه بأمراء الحرب في ما يسمى بحركات الجهاد الفاقدة لشروط الفعل الجهادي. ولم يعد أحد يخفي تبعيته إما لإيران ومن وراءها دوليا أو لإسرائيل ومن وراءها دوليا. وكلا ممثلي الماوراء الدولي أي إيران وإسرائيل حائزان على رضاه لأن المستهدف هو بقاء الإقليم تحت السيطرة باستعمالهما غولين لتخويف من لا إيمان لهم ولا عزم.
فالكل صار حربا على الكل والكل يدعي تمثيل المثال الأعلى للوطنية وحتى الثورية ويشكك في غيره لكأن السياسة عديمة المحددات التي تقبل الحصر بصورة شبه جامعة ومانعة. ولأبدأ بتحديد طبيعة الفعل السياسي ببيان شروط الفاعلية وشروط السياسية فيها ولأطبقها خاصة على الترشح لأعلى سلطة في الدول.
فما رأيت في حياتي نخبة سياسية تسعى مباشرة لأعلى سلطة في الجماعة دون أن تكون قد مرت بالمراحل المعدة إليها بحسب أنظمة السلطة المختلفة في الجماعات البشرية. وهي تقريبا نفس المراحل.
ولعل أهمها مرحلة النجاح شبه المجمع عليه في مقومي السياسي أي ما يرمز إلى الشوكة وما يرمز إلى الشرعية. والأولى هي مقومات التعمير الاقتصادي (القيم المادية) والثانية هي مقومات الاستخلاف الثقافي (القيم المعنوية) عند الجماعة ككل بمعنى أن الناجح في الأولى يتحلى بالثانية والمتحلي بالثانية ناجح في الأولى إلا في حالتين ينطبقان على مقومي السياسي خصيصا عندما يكونان منفصلين أحدهما عن الآخر وفي شكل ثورة إما من منطلق أدوات الشوكة السياسية أو من منطلق غايات الشرعية السياسية:

  1. الأولى هي حالة الانقلابات العسكرية التي هي نجاح في عامل الشوكة دون الشرعية العامة. وهذه هي الغالبة على التاريخ الإنساني. وفي هذه الحالة الأولى يمكن لقائد عسكري حاز على شروط القيادة في الحامية أن ينقض على أعلى سلطة لأن له وراءه جماعة تميل حيث يميل كما يقول الغزالي معرفا من يسميهم معتبري الزمان. لكنها جماعة تمثل الشوكة وتنقلب على نظام لم يعد شرعيا في راي الجماعة التي لم تحمه من الانقلاب.
  2. الثانية هي حالة الانقلابات الروحية وهي عكس الأولى أي إنها نجاح في عامل الشرعية دون الشوكة العامة وهي حالات نادرة ورد ذكر اكثرها في القصص القرآني. وفي هذه الحالة الثانية يمكن لقائد روحي حاز بالتدريج على شروط القيادة والشرعية عند متبعي رؤيته أن يصل إلى أعلى سلطة لأن له وراءه جماعة تميل حيث يميل كما يقول الغزالي في تعريفه لمعتبري الزمان كذلك لأنها صارت حاصلة على الشوكة الكافية:
    ولا أعتقد أن الانتخابات التونسية الحالية تجري في مناخ يريد فيه الشعب الحل الأول حتى وإن كانت فيه أحزاب تنتظر البيان عدد 1.
    ولا أعتقد كذلك أن الانتخابات تجري في مناخ يريد فيه الشعب الحل الثاني لأن ثقافته تعتبر الرسالة الإسلامية خاتمة ولا أحد ينتظر نبيا جديدا.
    فالحل الأول ينطلق إلى السلطة العليا من وظيفة الحماية المادية. والحل الثاني ينطلق إليها من وظيفة الرعاية الروحية. وهما المدخلان الوحيدان لقيادة البشر إما بما للقائد من سلطان على الإنسان منطلقا من سلطانه على بدنه أو من سلطانه على ذهنه. ولهذه العلة فلا توجد سلطة سياسية تكتفي بالشوكة التي تمكن من السلطان على الأبدان بل لا بد لها من الشرعية التي تمكن من السلطان على الأذهان. وكل الإشكال في السياسة هو تحقيق التوازن بين العاملين وهو معنى الدولة عندما تكون دولة سوية ذات سيادة لأنها تحكم بإرادة شعبها.
    ولما كان السعي لأعلى سلطة في أي جماعة مشروطا بالحصول على أحد ركني السلطة هذين عامة على الأقل ومنه يحصل الانتقال إلى السلطة الأعلى وهي السلطة السياسة في الجماعات البشرية أعني سلطة قيادة الدولة التي لها دائما هذان الوظيفتان فإن ما يجري في تونس اشبه بالعبث السياسي منه بالفعل السياسي. فلا أحد من المترشحين له هذا أو ذاك من النجاحين أو قادر على تحقيق انقلاب طفري وكيفي فيهما. فما يحدث في وضعياتنا أمران مناقضان لهذين المسارين في الوضعيات التي ليست تداولا على الحكم بالطرق المشروعة في نظام سياسي مستقر سواء كان جمهوريا أو ملكيا أعني بمقتضى سنن توالي الأجيال في نظام الحكم الخاص بتلك الجماعة.
    فكيف يمكن أن أشخص الوضعية السياسية الحالية التي صار الكل فيها مبتدئا من جديد بمنطق جديد يختلف جذريا عما كان سائدا قبل الثورة مع سعي لاستعادة الدورين ولكن في ترتيب وظيفي مقلوب إذا قورن بما كان موجودا قبل الثورة:
    فالإسلاميون الذين كانوا ممثلين لصف المعارضة الأكبر حاولوا أن يحكموا بعد أن أوصلهم الشعب إلى الحكم وفشلوا وأضاعوا الفرصة لأنهم خلطوا بين البداية والغاية ولم يفهموا معنى التدرج في تحقيق شروط الفاعلية السياسية شوكة وشرعية. ولا معنى لقول الواحد منهم: إن العلمانيين قد أفشلوني لأن من شروط الحكم القدرة على تجنب الفشل والإفشال. وهو أمر -ولا فخر- حذرت منه لكن كلامي كان صيحة في واد لأني لم أقنع بضرورة قلب صفحة المعركة بين الثعالبي وبورقيبة أو بين الأصالة والحداثة أو بين الإسلام والعلمانية.
    و”العلمانيون” الذين كانوا ممثلين لصف الحكم الأكبر حاولوا أن يعارضوا بعد أن أوصلهم الشعب إلى المعارضة ففشلوا كذلك وأضاعوا الفرصة لأنهم كذلك خلطوا بين البداية والغاية متجاهلين طبيعة ما حدث بين ما تقدم على الثورة وما تأخر عنها. لم يفهموا أن الأمر يتعلق باستئناف حقيقي وليس بعودة إلى ماض يستحيل إحياؤه خاصة إذا علمنا علل سقوطه.. ولا معنى لقول الواحد منهم إن الإسلاميين قد أفشلوني بنفس التعليل لأن المعارضة أيضا جزء من الحكم في النظام الجديد. وهم أيضا لم يسمعوا للناصحين.
    وقد دعاني رئيس الدولة المرحوم السبسي وتكلمنا ساعة نصف الساعة في شروط أن يكون في مستوى بورقيبة قبل أن يخرف. لكنه هو بنفسه كان قد خرف بدليل محاولته منافسة بورقيبة في ما بدأ به وجعله ما ينتهي هو به: الحرب على نص المجتمع حسم فيه بصورة أفضل لو كان خبراؤه المزعومون قد درسوا المسألة انثروبولوجيا.
    ولذلك فلا أحد منهما نجح. فلا من كان معارضا نجح في الحكم لما وصل إليه. ولا من كان حاكما نجح في المعارضة لما وصل إليها. ولما كانا بنحو ما مؤمنين بأن الحرب الأهلية لم تعد حلا فضلا عن العجز دونها لعلل ذاتية وموضوعية:
    فالسبسي لم تكن سنه تسمح له بخوض معركة مع الإسلاميين يعلم أنها ستكون أطول مما كانت عليه مع بورقيبة وابن علي وهو لا يملك ما كان متوفرا لهما حتى وإن كان مناخ الإقليم مشجعا على المحاولة. لكنه كان ذكيا فلم يجرب المجرب ولأجل ذلك حييته.
    والغنوشي حاول تجنب تكرار أخطاء الماضي لئلا يخوض معركة ثالثة مع السبسي بعد خسران المعركتين السابقتين رغم الصمود وقد ساعده المناخ الإقليمي الدافع إلى الحذر فتجنب ما ينبغي تجنبه. ولذلك لم أكتب ضد التوافق رغم كونه كان مغشوشا لما فيه من حيف لا يناسب ميزان القوى بالمعيار الديموقراطي في شعب حر وثائر. ولذلك نقدي المتكرر للتكتيك ليس تحاملا على صاحبه بل كان حفظا على بعض آمال الإسلاميين في تونس لئلا يسقطوا مع من يصارعهم مع ادعاء التوافق معهم وخاصة الشاهد الذي هو ألف مرة أخطر عليهم من السبسي الذي مهما قيل فيه يبقى من جيل حركة التحرير وغيور على قدر كبير من سيادة تونس.
    والسبب الموضوعي الأقوى هو أن تونس ليس لها أدنى شروط العيش حتى النباتي في حالة الحرب الأهلية إذا قورنت بالجزائر (في العشرية) أو بليبيا (حاليا) لأن كل ثروتها هي ثمرة عمل أبنائها والحرب الأهلية توقف كل عمل منتج بل حتى الفوضى الحالية ليست في المستطاع لأنها هي علة كل ما حل بالبلاد من تردي الحياة الاقتصادية والمادية للجماعة. والرمز هو هبوط الدينار الحاد واشتعال الأسعار.
    لذلك فقد اضطر الرجلان إلى أن يحكما معا دون التخلي عن التعارض العميق بينهما وظلا يكيدان أحدهما إلى الآخر ويتربصان ببعضهما في توافق مغشوش كثيرا من حذرت منه.
    فالذي عاد إلى الحكم (حزب السبسي) بقي متكئا على من عاد إلى المعارضة (حزب الغنوشي) ومن عاد إلى المعارضة (حزب الغنوشي) بقي متكئا على من عاد إلى الحكم (حزب السبسي). وتلك معادلة لا يمكن أن تثبت فيكثر بينهما من يريد حكما غير متعارض في ذاته ومعارضة غير متعارضة في ذاتها.
    وبذلك حصل التفتت على الأقل في حزب السبسي وكاد يحصل التفتت في حزب الغنوشي لولا ألطاف الله وحسم عزرائيل – كما سبق أن توقعت – للمعركة التي بدأت يوم أراد من خان السبسي من حزبه بمساعدة النهضة وسعيا إلى قتله سياسيا قبل الانتخابات. وكان يمكن أن تستمر أطول لولا وفاة السبسي التي غيرت اللعبة وقلبتها رأسا على عقب.
    وقد حاولت بيان ما ستكون عليه مستقبلا لأن موته العضوي قد يمثل انبعاثه السياسي ما يعني أن الشاهد انتهى وأن التوافق معه كذلك. ولا يمكن أن يحصل توافق جديد بنفس الشروط. والمطلوب هو التوافق المستند إلى الندية بين القوتين السياسيتين الأكبرين خاصة إذا استطاع الزبيدي توحيد الصف البورقيبي وتحريره من البارازيت اليساري الذي كان دائما عدو البورقيبية وعمل مع ابن علي وليس مع بورقيبة. ولا أعني بذلك استثناء اليسار من الحياة السياسية بل ما استثنيه هو الاندساس في الحزب الحاكم وفي الاتحاد وهما منافيان للسياسة المعتمدة على قاعدة شعبية خاصة به.
    لكن شرط ذلك أن يثبت مورو بوصفه ممثلا للإسلاميين لم تنل منه المرحلة التي وصفت وأن يثبت الزبيدي ممثلا للعلمانيين لم تنل منه المرحلة التي وصفت سعيا جديا لتوافق غير مغشوش يتجاوز مرحلة الشاهد والغنوشي لبناء دولة ديموقراطية تحرر التونسيين من صدام الحضارات باسم الأصالة والحداثة أو باسم نمط المجتمع والهوية وكلاهما دال على الحمق السياسي والالتفات إلى الماضي ومرحلة لم يعد لها معنى في ثقافة تونس. ولذلك فنحن أمام خيار بين التقدم الكيفي أو النكوص الكيفي. ولا مفر من الحسم وقلب صفحة هذه الصراعات التي تحول دون البناء السوي للحياة السياسية التي ينبغي أن تتفرغ لعلاج الوجهين الاقتصادي والثقافي شرطين للسيادة الفعلية.
    ولذلك فالانتخابات الحالية مفصلية وكل خطأ تقع في حركة الإسلاميين في استراتيجية الاستعداد لما بعدها سيكون نكبة على تونس والثورة. فالتفتت الذي حصل في حزب السبسي وفي الأحزاب التي كانت بنحو ما قد تعاونت مع النهضة – وهو التفتت الأول قبل تفتت حزب السبسي – أحدثا إلى جانبهما ما لا يحصى ولا يعد من المعارضات التي تسعى إلى الحكم الفعلي دون شروطه بسبب ضعف القاعدة الشعبية ومن الحكام الذين يسعون إلى المعارضة الفعلية دون شروطها لنفس السبب. وهو ما قد يؤدي إلى أن تصبح تونس غير قابلة للحكم بسبب المافيات سواء التي استبدت بالدولة والإدارة أو بالمجتمع والجمعيات والنقابات والفوضى الهدامة التي هي الملجأ الأخير للمافيات حتى تؤبد سلطانها.
    والعلة هي أنه لا أحد يدري ماذا يعني الحكم الفعلي ولا المعارضة الفعلية لأن المعركة بينهم ليست معركة بين محاولات في الجماعة للوصول إلى الحلول السياسية التي هي دائما تناغم بين الحاكم بالفعل والحاكم بالقوة (المعارضة) بل هي إضافة إلى ما قاله ابن خلدون حول تعدد العصائب ليست عملا سياسيا مستقلا بل هي من أجل أهداف سياسية تابعة لمن يستعملهم علما وأن قياداتهم تقوم به بوعي وقواعدهم بغير وعي.
    إنها معركة هم فيها أدوات لمن يحركهم من خارجهم لأنه جعلهم في وضعية لا يمكن لأي منهما أن يصل إلى الحكم وأن يبقى في المعارضة القادرة على الوصول إلى الحكم من دون رضاه عنه ومساعدته إذا قبل بشروطه. وهو يبقي عليهما لأنه يبتز كلا منهما بالثاني كمن يعرض بضاعة ويعدد طالبيها حتى يرفع في ربحه بما يحدثه من ابتزاز يجعل الطرفين يزايد أحدهما على الثاني لترضيته. وفي هذه الوضعية يصبح الإكثار من طالبي الخدمة وعارضي أنفسهم لدور الدمى أكبر ما يمكن. وبذلك تفهم علة عدد المترشحين للرئاسة خاصة وحتى للنيابة.
    فلا يوجد بلد محترم يمكن أن يترشح لرئاسته في أقصى تقدير خمسة أشخاص بحسب القوى السياسية العادية في أي بلد يدعي أصحابه تطبيق قواعد الديموقراطية:
    • مرشح اليمين: وهو من يريد أن يجعل الحكم أداة حماية للمزايا الحاصلة لطبقة رأس المال ومنع التغير بخلاف سنن توالي الأجيال.
    • مرشح اليسار: وهو من يريد أن يجعل السياسة تحقق ما تقدم عند اليمين في الاتجاه المقابل ينتهي إليه لأن طبقة الأغنياء تصبح أصحاب الحكم من طبقة العمال.
    • مرشح يسار اليمين: محاولة الجمع بين الغايتين للحد منهما وتحقيق توافق يبقي على أهداف اليمين مع تعديل يضفي عليها شيئا من الشرعية بإعطاء بعض الحقوق لطبقة العمال خدمة للسلم الاجتماعية وتوسيعا للسوق الاقتصادية بزيادة المستهلكين.
    • مرشح يمين اليسار يعمل عكس الأول فيبقي على بعض الحقوق لطبقة رأسمال حتى يقوي دوافع انتاج الثروة وتيسير التوزيع الاجتماعي المحقق للسلم الاجتماعية وتقوية طاقة الانتاج ومن ثم توفير الثروة التي يمكن توزيعها بشيء من العدل.
    • مرشح الوسط: لا دين لا ملة وهو الانتهازي بالجوهر لأنه مع الرابح في المعركة أيا كان.
    أما من لا ينتسب إلى هذا التصنيف أي إلى اليمين واليسار ويسار اليمين ويمين اليسار وحتى إلى الوسط فهم مرشحون بعدد شعر الرأس. وهذا هو الجنون بعينه إذ لا يعقل أن يترشح لرئاسة الدولة 26 شخصا.
    وهذه هي الحالة التي قصدها ابن خلدون في كلامه على استحالة وجود الدولة في جماعة تكثر فيها العصائب واستحالة استقرارها إذا وجدت. ولم أرد إدخال الأبعاد النفسية للمترشحين وهي فعلية فجلهم “سراديك” أو ديكة تتقافز بما يمثل أدنى المسرحيات الهزلية في بلاد التررني. ولم أتكلم على الأمانة والخيانة ولا خاصة على السعي إلى الاثراء السريع وغايات المافية بل اكتفيت بالعوامل التي تبين القصد بطبيعة الفعل وطبيعة السياسي وطبيعة الجمع بينهما.
    ولذلك تكلمت في شروط الفعل السياسي مميزا بين شروط فعليته وشروط سياسيته حتى نفهم علل التعثر الحالي في أقطار الربيع عامة وفي تونس خاصة وبمناسبة الانتخابات بصورة أخص. ولست أكتب في الموضوع من باب الدفاع عن مواقفي ولا حتى من باب الرد على بعض الأصدقاء الذين يتسرعون في الحكم بحسن ظن ودون عداوة لأني أعرفهم وأعرف شعورهم إزائي. لكنهم يظنون أني أفعل بسبب الانحياز لهذا المترشح أو ذاك أو على هذا المترشح أو ذاك وليس للاعتماد على ما أعتبره شروط الفعل السياسي إذا كان فعلا أي قادرا على التأثير وكان سياسيا أي التأثير بأدوات الديموقراطية أو الذي لا يكون فيه السياسي وصيا على الشعب حتى لو كانت له خصائص القيادة الراشدة.
    فمن دون ذلك تصبح السياسة استبدادا إذا توفرت وسيلتها العنيفة أو عبثا إذا بقيت أقوالا عاجزة دون الافعال فيكون ضررها أكثر من نفعها كحال أكثر من أربعة أخماس الأسماء التي وردت في قائمة المترشحين للرئاسية وحتى للنيابية.
    واكتفيت بالكلام على الرئاسية بهدف الخروج بتصنيف يفهمنا حقيقة ما يجري في ترشح 26 اسما جلهم ديكة متطاوسة معتبرا كل المتقدمين لها من ذوي النوايا الحسنة إزاء الوطن مع علمي أن هذا الاعتبار فيه الكثير من التياسر. ولا بأس من ذلك لأني لا اريد أن أحاكم النوايا لجهلي بالسرائر رغم أن الأفعال التي صارت معلومة تثبت أن اغلب المترشحين ينطبق عليهم أنهم ترشحوا لغاية في نفس يعقوب غير الغاية المعلنة في الأقوال.
    ففي الأقوال يقدم فيها الجميع أنفسهم على أنهم من أكثر الناس إخلاصا للوطن وأنهم يؤمنون بأنه لا ولاء لغيره إذ حتى الحصول على جنسية ثانية فهو لحاجة يعرفها كل من هاجر رغم ان المتهمين في ولائهم ليس من حصل على جنسية ثانية بل من يريد مع ذلك أن يحكم بلدا فضل على الانتماء إليها انتماء ثانيا لم يكن من المهاجرين المضطرين إليه كبعض المضطهدين من السياسيين المنفيين أو المحتاجين ماديا من الطلبة-وقد كنت منهم ولم أفعل وابني ولد هناك ولم يفعل.
    وأعلم أن ذلك لا يثبت أن من لم يطلبها أو لم يحصل عليها هو بالضرورة مخلص للوطن ولا يقبل القدح في وطنيته. لذلك وضعت ذلك بين قوسين واكتفيت بالقول في شروط الفعل السياسي من حيث هو فعل ومن حيث هو سياسي أعني المشترك بين الجميع. ذلك أنه من المفروض أن يكون حتى الخائن -إن وجد وهو موجود في جميع الانواع التي سأتكلم عليها سواء كانت حائزة على شروط الفعل السياسي أو غير حائزة عليها- أحرص الناس على اعتماده.
    فمن يوظف الخونة ويستعملهم في أدوار مهمة وضرورية لتحقيق الغايات السياسية عند من يستهدف أوطاننا لا يحتاج إليهم إذا لم يكونوا من أبرع الناس على توفير هذين الصنفين من الشروط. ومن يستعمل الخونة في المهام الكبرى لا يمكن أن يلجأ إلى من لا حول له ولا قوة فيدخل في السياسة بـ”فركة وعود حطب”.
    لكنه يحتاج إليهم في مهام تخدم المهام الكبرى وخاصة تمكن من محاربة من يتصدون له بندية لكونهم حائزين على شروط الفعل السياسي. وهذا هو النوع الثالث من السياسيين الذين لا يشك عادة في اخلاصهم للوطن إذ يبدون وكأنهم “من النوابت” الذين لا أحد يحتاج إليهم. لكن النوعين المتصارعين والحائزين على شروط الفعل السياسي -في حرب التحرر الحالية مثلما كان الأمر في حرب التحرير السابقة والتي لم تكتمل فعادت لتصبح جزءا من حرب التحرر- يحتاجون إليهم أحيانا لأن من يعتبرون الحماسة المقرونة بالسذاجة كافية للفعل السياسي يستعملون حطبا في المعارك وخاصة ممن يسعون لسد الباب على من يخدمون الوطن بشروط الفعل السياسي بالمزايدين عليهم المبالغين في شعارات الثورية والإخلاص ما قد يجعل من يجهل شروط الفعل السياسي يغتر بهم فيتشتت صف المخلصين.
    وعلامة هذا النوع الثالث أنهم يتوهمون الفعل السياسي يسيرا مثل “القول السياسي” فيكتفون بالقول وغالبا ما يعتذرون عما ترتب على حمقهم بعبارة لم يكن ذلك قصدنا ويعتذرون بعبارة أقبح منها وهي أنهم كانوا يتعلمون لكأن الشعوب يحق لها أن تؤمن على مصيرها من يتعلمون الحجامة في رؤوس اليتامى. وفي هذه المناسبة الثالثة للانتخابات ها نحن نراهم لم “يتعظوا بتجربتهم” أي أنهم يريدون مواصلة التعلم في رؤوس اليتامى بالشعارات الرنانة. وهؤلاء هم جزء مهم من عدد المرشحين الذين ترشحهم يشكك في حيازتهم لشروط الفعل السياسي دون أن يتعلق بأخلاقهم.
    لكن الجزء الثاني منهم وهو الأكبر ينقسم إلى فصيلين متداخلين أحدهما يغلب عليه نزعته الإيديولوجية والثاني يغلب عليه نزعته المافيوزية:
  3. الفصيل الإيديولوجي ويتكون ممن يجهزهم العملاء لمواصلة حكم تونس بحسب أجندة الاستعمار غير المباشر وهم من تبنتهم فرنسا أو أجندة الحرب على الثورة بقيادة إيرانية أو بقيادة إسرائيلية ومن يتبعهما من أنظمة الثورة المضادة العربية. والاجندتان متحالفتان على نهوض أهل هذا الإقليم خاصة والاستئناف الإسلامي عامة.
  4. الفصيل المافيوزي ويتكون ممن تجهزهم المافيات التي لا تعنيها الإيديولوجيا رغم أنها لا تمانع من الاستفادة من الفصيل الأول وغالبا ما تكون مكلفة بالأدوات التي يستعملها الفعل السياسي للتأثير المباشر على المسرح السياسي ومنها الخطط الإرهابية لقلب الوضعيات عند اللزوم مع التهريب بكل أنواعه الذي هو مجال المافيات المفضل للحصول السريع على الثروة وهو علة استقطاب الغفل أو من يتصورون أنفسهم أذكياء ويسعون للإثراء السريع بتخريب كل شيء وتهريب ثروات البلاد وتجويع العباد.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي