في العلاقة بين الكلام القديم والكلام الجديد – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله في العلاقة بين الكلام القديم والكلام الجديد

المحتويات

المسألة الثانية: مسألة كلام الله

المسألة الجامعة:

المسألة الثانية: مسألة كلام الله.

أما المسألة القديمة الثانية فهي مسألة كلام الله والخلق بكن. وأما المسألة الجديدة فهي نتيجتها القيمية: كيف نحرر الانسانية كلها وليس المسلمين وحدهم من التحريف القيمي او بلغة الكلام الاسلامي من التحريف الأمري؟ بكلمة واحدة كيف يكون الحق متعاليا فلا يكون مجرد تحكم إرادة الانسان؟ لكن مسألة خلق القرآن أو قدمه مسألة مضاعفة. فهل القرآن كلام الله؟ ثم هل كلام الله مخلوق أم هو قديم؟ والغريب أن القائلين بخلق القرآن (كل الباطنية وجل المعتزلة) لم يستنكفوا من القول بقدم مثل العالم أو بشيئية المعدوم والقائلين بقدم القرآن (كل الظاهرية وجل الاشاعرة) يعتبرون القول بقدم العالم كفرا. ومن ثم فكلا الفريقين لم ينتبه للتناقض البين بين قوليه في العالم والقرآن.

فكلا الفريقين يغالط بالتلاعب على معنيي المصدر. فالتناقض ناتح عن الخلط بين معنيي المصدر في الصرف العربي: فمثلما أن “الخلق” يفيد فعل الخلق ومفعول الخلق فكذلك يفيد الكلام فعل الكلام ومفعول الكلام[1]. ومثلما أنه لا يمكن لعاقل أن يزعم أن العالم من حيث هو مفعول الخلق قديم من دون أن يسلم بتعدد القدماء لا يمكن لعاقل أن يقول إن القرآن من حيث هو مفعول الكلام قديم من دون أن يقول بتعدد القدماء. ومثلما أن اعتبار العالم من حيث هو مفعول فعل الخلق مخلوقا لا يعني أنه من خلق كائن آخر غير الله (كأن ينسب إلى كائن وسيط بين الله والعالم مثل الطبيعة بل الخالق هو الله) فكذلك اعتبار كلام الله من حيث هو مفعول فعل الكلام مخلوقا لا يعني أنه من خلق كائن آخر غير الله (كأن ينسب إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أو إلى جبريل بل المتكلم هو الله).

ويعني نفي تعدد القدماء أن كل ما عدا الله من الموجودات مجعولات ومن ثم فهي مخلوقات: لا يمكن استثناء كلام الله من حيث هو مفعول لا من حيث هو فعل من هذه الحكم. ولما كان القرآن من حيث هو مفعول فعل الكلام (لا من حيث هو فعل الكلام) لا يمكن أن يكون صفة لله فضلا عن يكون عين الله فإنه مخلوق ضرورة لكن كلام الله من حيث هو فعل صفة لله نفسه لا يمكن أن يكون مخلوقا.

وكان على كلا الفريقين أن يقول بأن فعل الخلق وفعل الكلام من الصفات الملازمة للذات الالهية وأن مفعوليهما مخلوقان مثل كل المخلوقات التي هي غير الله وجملتها هي العالم. ومن ثم فالأولان لا يفارقان الذات التي هي ذات صفاتها: الكلام والخلق من حيث هما فعلان. في حين أن الثانيين ينتسبان إلى العالم وهما مثل كل ما فيه مخلوقان: الكلام والخلق من حيث هما مفعولان. والذات الالهية هي ذات الوجود المطلق. وهي ذات فعل الحياة المطلقة. وهي ذات فعل العلم المطلق. وهي ذات فعل القدرة المطلقة. وهي ذات فعل الارادة المطلقة. ولا يعني ذلك أنها متعددة لان وحدة الذات في القرآن ليست وحدة مجردة كما يزعم هيجل بل هي تنوع الفعل المطلق الذي وصفناه بكونه حياة وعلما وقدرة وارادة وكلاما وخلقا إلخ… من الصفات التي وصف الله نفسه بها في قرآنه الكريم[2].

وحدة الذات الالهية ليست مثل وحدة العدد. إنها لا تقتضي نفي صفاتها لئلا تكون متعددة. ذلك أن علاقة الذات بالصفات ليست علاقة ظرف بمظروف حتى تفيد التعدد بل الذات وصفاتها نحوان للوحدة العضوية ذاتها. وذلك هو مفهوم ذات (مؤنث “ذو” من الاسماء الخمسة) أي “صاحبة” الصفات التي هي وجوهها ووظائفها التي تتعين في أفعالها قياما وجوديا وحياة وعلما وقدرة وإرادة: وتلك هي الكمالات التي بالقياس إليها يلاحظ العدم المأمور بكن. أما مفعولات هذه الذات فإنها غير الذات وغير الافعال ومن ثم فهي مخلوقة لأنها ما حصل عن أمر كن للعدم في ضوء الكمالات التي تجعله ملحوظا فيؤمر.

وكلمة كن ذات قيامين:

1- قيام فعل التلفظ بها في المتلفظ بها صفة فعلية له

2- ثم قيام اللفظة “كن” بذاتها بعد أن يكون فعل التلفظ قد أحدثها فصارت ذات قيام ذاتي يخصها.

وذلك قياسا على أي متكلم منا لأننا لا نستطيع تصور الكلام من حيث هو فعل المتكلم إذ يتكلم فيحصل عن كلامه كلمات تقوم بذاتها بعد التلفظ بها لا نستطيع تصوره إلا بهذه الطريقة. فعندما أقول أي كلمة يحصل أمران:

1-التكلم.

2-الكلمة.

وكلاهما عندي حادث لأني أنا نفسي حادث ومثلي أفعالي وثمراتها. فأفعالي وصفاتي مثلي بالأولى. أما بالنسبة إلى الله فإن فعل التلفظ ـ”بكن” قديم وهو كلام الله الخالق. لكن اللفظة “كن” محدثة في كل تلفظ بلا نهاية. وهي مصاحبة للمخلوق المأمور بها عدمه فتكون حادثة بحدوثه. لذلك سمى القرآن كل المخلوقات كلمات الله التي لا يكفي لكتابتها مدادا كل بحار العالم. ولا معنى لوجود لفظة كن بمفردها. فالكلام عند الانسان يمكن أن يقوم منفصلا عن معناه المفاد به لمحدودية قدرته فيحتاج الكلام إلى فعل ينقله من القول إلى العمل.

لكن الله ليس لقدرته حد. لذلك فإن مجرد كلامه عمل فلا يتراخى المأمور بكن عن الأمر بكن. وكان يكون غنيا عن الكلام فيكون مجرد علمه عملا لو كانت الكائنات تنفذ إلى المعاني بغير المدارك. والله غني عن خلق وسيط يخلق ما عدا صفاته قياسا على كلام الانسان في علاقته بفعله[3]. وهذا هو الفهم السيء للكلمة في الافلاطونية المحدثة الفهم الذي عم بعد ذلك على الكلام المسيحي الشرقي ثم انتقل إلى الكلام المسيحي الغربي وتدفق بتوسط التصوف إلى الفكر الاسلامي فأصبح حقيقة محمدية عند ابن عربي ثم انتقل إلى المثالية الالمانية فأصبحت الفلسفة منذئذ كلاما مسيحيا متنكرا في اسلوب فلسفي بعد كساد سوق الثيولوجيا.

ومن ثم فالقرآن وكلام الله عامة من حيث هو صفة فعل التكلم قديم قدم الذات. ومن حيث هو مفعول صفة فعل التكلم فهو محدث مثل كل المفعولات في صلتها بفعلها الذي هو غيرها. وما يصح على فعل الخلق يصح على فعل التكلم. فالعالم أي كل ما عدى الله مخلوق. لكن فعل خلقه ليس مخلوقا لأنه صفة فعل إلهي. وقياسا على ذلك فإن فعل النفخ الموجد للكائنات العاقلة قديم. لكن الكائنات التي حصلت عن فعل النفخ كلها محدثة.

ولا بقاء لها إلا بالحد والقدر الذي وضعه فيها فعل النفخ لكأن ما وضع فيها شحنة خزان طاقة في جهاز صناعي بشرط أن نتصور كل الجهاز لا قيام له إلا بقيام هذه الشحنة وليس هو وعاء لها يقوم من دونها كما في الاجهزة الصناعية. ولهذه الشحنة بقاءان: بقاء دنيوي زائل يتقدم فيه فرعه الكلي الذي هو الشحنة النوعية التي نفخت في آدم بالنسبة إلى النوع البشري يليه فرعه الجزئي الذي هو الشحنة العددية {خلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء} ثم بقاء أخروي ينحصر في الشحن العددية الخالدة.

المسألة الجامعة:

لن نطيل البحث في هذه المسألة الجامعة. فهي أشبه بالخاتمة للمحاولة. فسورة آل عمران تفسر نشوئية التحريفين بفساد رجال الدين الذين يحرفون الكتاب من أجل المصالح الدنيوية فيؤلهون أنفسهم أو أحدهم وسورة البقرة تحدد طبيعة التحريفين في آيتي الكرسي وتبين الرشد: التحريف الوجودي (التوحيد بين ذات الله وذات الانسان) والتحريف القيمي (التوحيد بين ارادة الله أو شرعه وارادة الانسان أو شرعه). والخلاصة أن وحدة المسألتين السابقتين في الفكر المسيحي هي وحدة التحريف الوجودي ووحدة التحريف القيمي اللذين ترجع سورة آل عمران نشأتهما في الواقع إلى فساد رجال الدين الذين يؤسسون للطاغوت الروحي والزماني وترجع سورة البقرة نشأتهما في الفكر الديني إلى تحريف مفهوم الله ومفهوم الانسان وجوديا (طبيعتهما) وقيميا (تشريعهما).

وبذلك يتبين أن التحريف الوجودي يوحد مسألتي الكلام القديم ومسألتي الكلام الحديث في مستوى الحقيقة التي تصبح نسبية إلى عقل الانسان: قضية شروط تعالي الحقيقة على علم الانسان. وعلاجها يهدف إلى تحرير البشرية كلها وليس المسلمين وحدهم بالتصدي للتحريف الوجودي أو بلغة الكلام كيف تكون الحقيقة متعالية على علم الانسان فلا تكون تحكم عقله.

كما يتبين أن التحريف القيمي يوحد نفس المسائل في مستوى الحق الذي يصبح نسبيا إلى ارادة الانسان: قضية شروط تعالي الحق على عمل الانسان وعلاجها يهدف إلى تحرير الانسانية كلها وليس المسلمين وحدهم بالتصدي للتحريف القيمي او بلغة الكلام كيف يكون الحق متعاليا على عمل الانسان فلا يكون تحكم إرادته.

وتأليه الإنسان هو جوهر الطاغوت الناتج عن جوهر التحريف. فالحقيقة والحق صارا ما يحدده عقل الانسان وإرادته مقصورين عليه في حين أن الحقيقة والحق حتى في أذهان العامة هما ما يتعالى على ما يدركه الانسان ويعمله لان الادراك والعلم نفسيهما ومن حيث هما إدراك وعمل هما إدراك وعمل لموضوعهما وإدراك وعمل لقصور الادراك والعلم على استغراق الموضوع مهما كان حقيرا.

فإذا قلنا بالاستغراق في العلم والعمل كان ذلك جحودا لتعالي الحقيقة والحق وإذا نفيناه كان ذلك شهودا للتعالي وإيمانا بالغيب دون نفي قيمة العلم والعمل بالشاهد في حدود الاجتهاد والجهاد الانسانيين. وهذا غير النسبية: فهو من آداب العلم والعمل وليس من نفي الحقيقة. والنسبي فيه هو قدر علم الانسان وعمله وليس موضوع علم الانسان وعمله موضوعها المتعالي عليهما دائما تعاليا هو عين الغيب النظري والعملي.

وحتى نوضح الامر بأكثر ما يكون الوضوح ممكنا. فلنبين سوء التقدير في مجال الحقائق الوجودية من المنظور الجحودي. فلو قال قائل إن الطبيعة هي جملة النظريات حولها لاستسخفه الجميع ولاعتبروه مهلوسا. فقالوا له أنت لا تميز بين اجتهادات البشر لعلم الطبيعة والطبيعة التي هي موضوع محاولاتهم العلمية. وقل ألا يحصل اجماع في هذه المسألة إذا ما استثنينا القائلين بالانطوائية المطلقة الذين يقصرون وجود الطبيعة على ظاهرات الوعي بها. لكن هذا الاجماع يبدو بسرعة قابلا للانقلاب إلى عكسه عندما نتكلم عن الظاهرات الوجودية من منظور ديني. يتصور غالب المتفلسفين أن الحقائق التي يتكلم فيها الدين لا قيام لها وراء كلام الفكر الديني فيها: الحقائق الدينية لا تتعدى ظاهرات الوعي بها.

وهبنا ذهبنا إلى أكثر من ذلك تجريدا حتى يكون القياس أوضح. فلو قال قائل إن قوانين الطبيعة لا ظاهراتها ترد إلى علمنا بها لضحك منه كل البشر فضلا عن العلماء منهم. فهذه حقائق لا يمكن التذرع فيها بحجة اشتراك الجميع في ادراكها. فلا يدرك قوانين الطبيعة إلا كبار العلماء خاصة عندما يتعلق الامر بالمعقد منها والذي لا يدرك إلا بعلم رياضي معقد. لا شك أنه يوجد من يقول إن قوانين الطبيعة ليست إلا ما اخترعه العقل الانساني من عبارات رياضية عنها. لكن أغلب العلماء يعتبرون ما اخترعه العقل الانساني للتعبير عن قوانين الطبيعة محاولات للتعبير عن أمر ذي وجود حقيقي مستقل عن تلك المحاولات التعبيرية.

والحجة على ذلك مضاعفة. فالمحاولات أولا تتطور لصوغ قوانين نفس الظاهرات وهذا التطور ثانيا ليس مجرد تجويد للإدراك فحسب بل هو اكتشاف لأمرين أساسيين في المعرفة البشرية: الخطأ العلمي (ولا معنى لذلك من دون مقايسة العبارة مع المعبر عنه) والتعالي الموضوعي (ولا معنى لذلك من دون التسليم بلا تناهي الموضوع قبالة تناهي محاولات التعبير عنه).

ثم هبنا قبلنا بالقياس على علاقة الابداع الادبي بما يعالجه من ظاهرات وقبلنا بأن الظاهرات التي يعالجها الابداع الادبي ليس لها قيام خارج الابداع الادبي. ألا تكون الظاهرات الادبية من ابداع شيء في الانسان هو غير وجوده التاريخي المادي المشترك بين كل البشر الذين لا يد لهم في الابداع الادبي؟ ألا يكون ذلك دالا على أن ظاهرات الابداع الأدبي بحاجة إما إلى النسبة إلى حياة البشر العادية موضوعا ينظر إليه بعين المبدعين الذين يرون فيه ما لا يراه غيرهم أو إلى عالم متعال لا يراه غيرهم؟

ولنعد الآن إلى علاقة العلم بالطبيعة. أليس العلماء هم الذين يرون القوانين عالما يتوسط بين مداركهم الذاتية والظاهرات الطبيعية بحيث لا تكون القوانين في مداركهم ولا في الظاهرات الطبيعية بل هي في محل ثالث أو في منزلة وجودية ثالثة تختلف عن المنزلتين المتقابلتين: بين منزلة المدركات في المدارك ومنزلة المدركات في موضوعاتها؟ فإذا لم يكن الناس يعيشون داخل أوعائهم بحيث تكون أوعاؤهم في أوعائهم فيكون العالم مقصورا على الوعي فحسب فإنه من الضروري أن توجد هذه المستويات الثلاثة مع جسرين رابطين بين الحدين والوسط: بين مدركاتي في مداركي والقوانين العلمية وبين مدركاتي في موضوعاتها والقوانين العلمية. وبذلك تصبح المستويات خمسة: مداركي وموضوعها ومدركاتي ووصلة بين المدركات والمدارك وصلة بين المدركات والموضوع.

فإذا افترضت نفسي صاحب المستويات الاربعة التي هي غيري والتي يمكنني أن أزعم أنها مضمونات وعيي بقيت أنا. فهل أنا مضمون من مضمونات وعيي فأكون من صنع ذاتي بخيالي كما أتصور المستويات الأربعة الاخرى من المنظور الانطوائي: ألست عندئذ أطبق على نفسي بالضبط وبكامل الدقة كل ما كان علم الكلام يطبقه على مفهوم الله فلا أكون بهذه الأوهام إلا مؤلها نفسي؟ أأكون أصلا لا يدرك تعليلا لوجوده فضلا عن كونه أصلا؟

طلب الجواب عن هذه الاسئلة هو الذي فرض المسألة الدينية على العقل البشري: فلا يمكن لي أن أخرج من ذاتي فضلا عن فهم واقعة خروجي من ذاتي من دون أن أعلل خروجي من ذاتي بغير واقعة خروجي من ذاتي التي هي من جوهر الادراك والعيش مع الجماعة. ولما كان الجواب الديني أو الفلسفي (الذي هو دين طبيعي) شرط التسليم بوجود العالم الطبيعي نفسه من حيث هو حقيقة موضوعيه فإن العالم الخلقي أو الروحي بات متقدم الوجود على العالم الطبيعي أو المادي على الأقل في المعرفة البشرية ومن ثم فلا يمكن أن يكون ما هو شرط كل موضوعية علمية كانت أو فنية غير موضوعي بمعنى أسمى من الموضوعيتين العلمية والأدبية.

لذلك فإدراك حدود الجحود أو الكفران بالطاغوت ينبغي أن يكون متقدما فينومينولوجيا (في الادراك والوعي به) على إدراك الشهود أو الايمان باللاهوت. لكن التقدم الانطولوجي هو العكس تماما. فيقتضي ذلك أن يكون متقدما انطولوجيا كذلك (في القيام الذاتي بصرف النظر عن الادراك والوعي). لو لم يكن الانسان شاهدا في الأصل لامتنع عليه أن يدرك حدود حصر الوجود في الادراك أو الجحود الذي هو أصل كل طاغوت. فيكون التحريف مرضا يصيب النفس البشرية فتجحد الشهود المتقدم لتطغي طغيانا يحول الشهود إلى مجرد ظاهرات وعي فتصبح الأديان معتبرة من أوهام البشرية الميثولوجية. لذلك فسنختم هذا الفصل بشهادتين من نص القرآن الكريم دون مزيد تعليق:

  1. الأول هو تفسير القرآن الكريم نشأة الجحود وعلله منزها عيسى عليه السلام من هذا المرض حيث قال جل وعلا: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك. ومنهم من إن تؤمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما. ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون [4]* إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [5]* وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون [6]* ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونا عبادا لي من دون الله و لكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون [7]* ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون[8]}

وذلك ما كان علينا بيانه C.Q.F.D. فهذه الآيات غنية عن التفسير والشرح. ومن عميت بصيرته لا فائدة من محاولة تفهيمه. والله اعلم وهو الموفق إلى ما فيه الخير والصواب.

[1] وهذا التمييز الصرفي بمجرده يغني عن الحل الزائف الذي لجأ إليه الفكر الاشعري مع الدحض المفحم لنفاة الخلق والقدم ومثبتيهما في نفس الوقت لتحيل أدلتهما التي تتكلم عن شيئين مختلقين تمام الاختلاف وكأنهما شيء واحد. فلا حاجة للتمييز بين الكلام النفسي والكلام اللفظي لان القرآن مثلا كله من أفعال الله بمعناه ولفظه. فلا يمكن نسبة بعده المعنوي إلى الله وبعده اللفظي إلى البشر من حيث هو فعل فيكون الله متكلما بالمعاني من دون الالفاظ. فذلك يضاهي قولنا بأنه خالق لمثل العالم دون أعيانها المادية التي هي العالم الطبيعي الذي ندركه بمداركنا. لكن كلام الله مثل خلق الله وكل صفات الافعال لها مفعولات تعد أثرا لفعلها. فهل آثار افعال الله مثل أفعاله؟ أفعاله غير مخلوقة بل هي صفات فعلية ومفعولاته مخلوقة لأنها كائنات محدثه تنتج عن أفعاله تماما كما هو شأن كل الموجودات في العالم. وهذا الحل يحررنا من تشقيقات علم الكلام القديم ويغنينا عن كل محاولات الرد عليها دون التطرق إلى ما يفرض حلولها للتسليم مثلا بدوران الاشكال حول نفس الامر في حالتي فعل الكلام ومفعول الكلام أو فعل الخلق ومفعول الخلق وكلاهما يقصد بالمصدر كلام أو الخلق. وإذن فالإشكال كله اشكال صرفي علته أن العربية تستعمل المصدر للدلالة على الامرين. فيكون فكر المجادل في المسالة منزلقا من أحد المعنيين إلى الآخر من حيث لا يدري: وتلك هي أغاليط مثبتي المخلوقية والقدم ونفاتها في الحالتين.

[2] حللنا بعض مزاعم هيجل لكننا نعجب من أنه يتجاهل أن أصل الخلاف بين المعتزلة والفرق السنية يدور حول التعطيل. ولو صح ما يقوله هيجل عن الاسلام لكان الاسلام مقصورا على التصور الاعتزالي والباطني.

[3] وتراخي الفعل عن الكلام من أشد الاشياء مذمومية في القرآن الكريم. فهو العلامة الفارقة بين الايمان الصادق والنفاق وبين الفن المبدع والغواية (الشعراء).

[4] التعليل العام بنظرية الجوهيم مع استثناء البعض برمز رد الأمانة.

[5] العلامة المميزة للتحريف وهي النفاق العام رمزا إليه بالإيمان الكاذب أو بما نسميه اليوم ازدواج المعايير حيث تتوقف القيم في الحدود التي أشرنا إليها في التحليل السابق.

[6] تحريف كتاب الله تحريفا ماديا بالزيادة والنقصان.

[7] تبرئة عيسى عليه السلام من التحريف وبيان طبيعة التحريف الوجودي والقيمي برمزي تعليم الكتاب ودراسة الوجود.

[8] وظيفة الاسلام الإصلاحية أو إن شئنا جمعه بين العرض الفينومنولوجي لعلاقة الانسان بالوجود ثم اعادته للعلاقة الانطولوجية التي تجعل الشهود أصلا والجحود نسيانا للأصل ما يجعل الرسالة الخاتمة بالضرورة اصلاحا وتصحيحا للتحريفات السابقة. والآيات من آل عمران 75-80

[9] تعريف الذات الالهية وصفاتها الذاتية والاضافية وتحديد الذات البشرية علما (ولا يحيطون) وعملا (يشفع) من المنظور الالهي ومن المنظور الانساني للحاجة إلى رموز قابلة للفهم تسمح برؤية المعنى جيئة وذهابا بين المنظور الأول والمنظور الثاني.

[10] البداية هي تبين الرشد من الغي تبينا يجعل الايمان حرا بلا اكراه خبرا (هو لا يكون إلا كذلك بذاته) وانشاء (نهي المسلمين عن محاولة الاكراه) وتلك هي وظيفة الرسالة الخاتمة. والنهاية هي الاستمساك بالعروة الوثقى التي هي الرسالة الخاتمة أو القرآن الكريم. والنقلة في مستواها الفنيومينولوجي هي التحرر من الطاغوت أو الكفر به للوصول إلى اللاهوت أو الايمان بالله. أما في مستواها الانطولوجي فأصل التحرر هو تبين الرشد من الغي أي تقدم فطرة الشهود على نسيانها أو الجحود. والآيتان من سورة البقرة 255-256.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي