لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله في العلاقة بين الكلام القديم والكلام الجديد
الفصل الأول
المحتويات
تمهيد
المقدمة
المسألة الاولى: ورمزها خلق آدم
تمهيد
المقدمة
تتفرع مسألة العلاقة بين علم الكلام في شكله الوسيط وما يسمى بعلم الكلام الجديد في أدبيات الفكر الديني الاسلامي الحالي من منظور فلسفة الدين إلى مسألتين أهميتهما أنهما لا تقتصران على علاج أدواء الحضارة العربية الاسلامية فحسب بل هما تدوران حول أهم قضية في الثيولوجيا المسيحية التي تسيطر على فلسفة الدين المعاصرة والتي توالى الدخول إليها من الثيولوجيا إلى الانثروبولوجيا. والمعلوم أن أهم مميز بين المنظور المسيحي والمنظور الاسلامي أن الاول يقبل التوحيد بينهما والثاني يحظره:
مسألتان مختلفتان ومتمايزتان في الكلام الإسلامي. لكنهما تعتبران مسألة واحدة في الثيولوجيا المسيحية. وسنحاول تجنب متاهات تأويل كل الغربية الفلسفة الحديثة التي هي مجرد ترجمة مفردات خطاب الثيولوجيا وإشكالياتها بمفردات خطاب الأنثروبولوجيا وإشكالياتها كما هو شأن الفكر الديني المسيحي. وسيتبين في المحاولة أن فكر ما يسمى بالكلام الجديد ليس هو إلا ثمرة الفكر الذي لا يميز بين تحديث منظور الاسلام وتمسيحه. فكلا الموقفين يكتفيان بتكرار نفس المسائل والحلول في الكلامين بمجرد وضع الانسان في الخانة التي كان يشغلها الله في ا لكلام المسيحي القديم.
(ورغم أني لا أقول بأي من الكلامين كما بينت في عديد المحاولات فسأجاري اصحابهما لأعالج المسألة من منظور آخر). سأعالج هاتين المسألتين من فلسفة الدين رافضا الحكم المسبق الساعي إلى التنكر لقضايا ما يسمى بعلم الكلام القديم ولاستبدالها بما يسمى بعلم الكلام الجديد الذي لا اعتبره جديدا فضلا عن أن التجديد لا يقع من دون الشرطين التاليين:
1-الأول هو أن عملية تجاوز الكلام الثاني للكلام الأول لا تكون بمجرد القطع والتناسي بل لا بد من بيان كيفية الانتقال ببيان أسلوب العلاج الجديد لما اعتبر الكلام القديم قد فشل في علاجه.
2-والثاني أنه لا بد من النقلة المفهومية من حال كان عليها الفكر إلى حال أخرى آل إليها بمقتضى ما أدرك من الحال السابقة وما اكتشف فيها من موجهات موجبة أو سالبة توصل إليها.
ذلك أن جل قضايا علم الكلام الاسلامية يمكن إرجاع ما استعصى منها إلى سوء تأويل الرموز القرآنية سوءه الناتج عن العجلة في تحليل خصائص اللسان العربي عامة والأسلوب القرآني خاصة. كما أن جل قضايا الكلام المسمى جديدا مصدرها سوء فهم تمثيل الأزمة الإسلامية لأعماق الأزمة البشرية في عصرنا بحيث إن مصير العالم كله رهين علاج بؤرتي الثورة الاسلامية:
1- بؤرة تحرير البشرية من التحريف وأهم عناصرها نظرية الله الذي حل في الانسان.
2- وبؤرة تحريرها من الطاغوت وأهم عناصرها نظرية تعين هذا الحلول في التاريخ من حيث هو تاريخ الروح.
لذلك فنحن نرى أن ما تصوره هيجل نجاحا في عملية الإصلاح المسيحي ليس إلا إطلاقا للتحريف والطاغوت اللذين هما وجها العولمة الحالية وجهاها الأساسيان. وما يعتبره فشلا في عملية الإصلاح الإسلامي هو الذي سيستأنف التاريخ الكوني ليحرره فعلا وليس فقط قولا من التحريف والطاغوت. وتلك هي مهمة ما يمكن أن يسمى كلاما جديدا بحق رغم كونه عين الكلام القرآني. ولكي نثبت فرضيتنا هذه سنكتفي بعلاج قضيتين عويصتين فيما يسمى بالكلام الجديد نقدم عليهما قضيتين أكثر منهما عواصة فيما يسمى بالكلام القديم:
1- كانت ثانيتهما سبب المحنة الثانية في تاريخ حضارتنا محنة أحكام الاستبداد بالسلطتين باسم العقل في الجدل الكلامي للمفاضلة بين التأويلات قصدت: قضية خلق القرآن أو قدمه.
2- وكانت أولاهما سبب المحنة الأولى التي أوجدت الاستبدادين عند المسلمين باسم النقل الذي نفي باسمه دور الانسان في التاريخ من خلال سلبه حقه في التشريع والتنفيذ السياسيين وهما عين نقل القيم الدينية من ما بعد التاريخ إلى التاريخ قصدت: قضية القضاء والقدر لتبرير توريث الخلافة.
فأصبحت الدولة باسم النقل “أو-و” باسم العقل ثانيا ثم باسمهما معا جهازا جهنميا يواصل الدولة الساسانية والبيزنطية اللتين ثار عليهما الاسلام لجمعهما بين سلطة روحية تتحكم في حرية الفكر والاجتهاد وسلطة زمانية تتحكم في حرية الارادة والجهاد.
فأما مسألتا الكلام الجديد اللتان نؤخرهما فهما:
1- أثر منزلة الاسلام من تاريخ الأديان في منظورنا الديني الحالي.
2- وأثر منزلة الحضارة الاسلامية من التاريخ الحضاري البشري في منظورنا التاريخي الحالي.
وبين لكل من يحسن تحليل المعاني أن مسألتي الكلام القديم (قضية خلق القرآن وقضية الجبر والاختيار) هما أصل مسألتي الكلام الجديد رغم ما يبدو من تباعد بين الأمرين تباعد يجعل إدراك الأواصر العميقة بينهما من الحدوس التي يوفق الله بعض خلقه هبة من رب رحيم. فمنزلة الإنسان الوجودية فاعلا حرا أو منفعلا مضطرا وطبيعة كلام الله قديما أو مخلوقا هما اللتان بمناسبتهما في تاريخنا الفكري والسياسي وقعت المحنتان:
محنة تأسيس الاستبداد نقلا من منطلق علاج مسألة القضاء والقدر أي مسألة اختيارية الانسان أو جبريته.
ومحنة تأسيسه عقلا (بالمعنى الاعتزال للعقل) من منطلق علاج مسألة قدم القرآن أو خلقه.
لكن مسألة منزلة الانسان في صلتها بالقضاء والقدر (قضية كلام قديم) ليست مقصورة على الوجه الذي يبدو خاصا بتاريخ المسلمين بل هي تحدد منظور الإسلام الديني بإطلاق في علاقته بالأديان الأخرى جميعا وخاصة بالمسيحية لأنها سلبا تحدد تنافيه مع تحريف العقيدة أو مع سلطان الباطل الوجودي بتأليه الانسان كيانا تأليها تكون الحقيقة بمقتضاه نسبية إليه من خلال التجسد الخَلقي أو الكوني (كلام جديد).
ومسألة كلام الله (كلام قديم) ليست مقصورة على الوجه الذي يبدو خاصا بتاريخ المسلمين بل هي تحدد منظور الاسلام لعلاقة الحق بالتاريخ وتحدد بالتالي تنافيه مع تحريف الشريعة أو مع سلطان الباطل القيمي بتأليه الانسان معيارا تأليها يكون الحق بمقتضاه نسبيا إليه من خلال التجسد الخُلقي أو الأمري (سلطان الظلم: قضية كلام جديد)[1] .
فيكون الرابط بين الكلامين القديم والجديد هو ما يمكن أن نطلق عليه مناط التحريف الوجودي أو تأليه الانسان بنفي ما يتعالى عليه من حيث المنزلة الوجودية والتحريف الخلقي بنفي ما يتعالى عليه قيما. والمعلوم أن الامرين (كلمة الله ومنزلة الانسان) موضوع واحد في الفكر المسيحي لكنهما أمران مختلفان في الفكر الاسلامي[2]. فعلاج أولاهما مرتبط بعلاج الاستبداد الزماني أو اغتصاب السلطة التنفيذية في مجال كل القيم الذوقية والرزقية والنظرية والعملية والوجودية. وعلاج ثانيتهما مرتبط بعلاج الاستبداد الروحاني أو اغتصاب السلطة التشريعية في مجال نفس القيم. فتكون المسائل الفرعية أربعا الأوليان من الكلام القديم والأخيرتان من الكلام الجديد:
1- منزلة الانسان الوجودية
2- ثم كلام الله
3- ثم التحريف أو سلطان الباطل الوجودي
4- ثم الطاغوت أو سلطان الباطل الخلقي. وكلاهما ضديد الحق بمعنى الحقيقة وبمعنى الحقوق
1- فآية الكرسي تعالج مسألتي الكلام القديم من المنظور الاسلامي وهي مسألة واحدة من المنظور المسيحي.
2-وآية تبين الرشد من الغي تعالج مسألتي الكلام الجديد أو التحريف والطاغوت. لكن مسألتي الكلام الموسوم بالكلام الجديد (مسألة التحريف الخَلقي أو الوجودي ومسألة التحريف الأمري أو القيمي) غير قابلتين للفصل عن مسألتي الكلام الموسوم بالكلام القديم (مسألة خلق آدم واستخلافه رمزا لمنزلة الانسان الوجودية ومسألة كلام الله حدوثا وقدم). لذلك فنعالج الكلامين معا: في مسألتين بدايتهما قديمة وغايتهما جديدة.
المسألة الاولى: ورمزها خلق آدم
ويرمز إليها رمز خلق آدم واستخلافه منزلة للإنسان. ونتيجتها الأساسية هي قضية شروط تعالي الحقيقة على علم الانسان. ويهدف علاجها إلى تحرير البشرية كلها وليس المسلمين وحدهم بالتصدي إلى التحريف الوجودي أو الخَلقي بلغة الكلام: تأليه الانسان بديلا من منزلة الاستخلاف[3]. ولنشرح هنا دلالات رمز خلق آدم كما يصوغه القرآن الكريم. فكل من يقول إن الانسان مؤلف من جوهرين ينبغي أن يعتبر النفخ الإلهي جزءا من جوهر الإله حل في الانسان وليس رمزا لفعل خلق ما يجعل آدم أسمى المخلوقات ومكرما دون تواصل جوهري بين الفاعل وحصيلة فعله.
والقول بعكس ذلك يجعل صاحب هذا التصور قائلا بحلول بعض الله في آدم. وينتج عن قوله ذلك ضرورة القول بأن جوهر العبادة ينبغي أن يهدف إلى تحقيق الفصل بين الجزء الرفيع من الذات البشرية (نفخ الله أو الروح) والجزء الوضيع منها (التراب المنفوخ فيه أو الجسد). وتصبح المسألة عند النقلة من الكلام القديم إلى الكلام الحديث هي كيف تنازل الله فصار انسانا ليرفع الانسان الذي تأله بفضل ذلك؟
وبالتصور الأول يفهم مقصود كلام المتصوفة الذين يتكلمون عن قتل الجسد وعن فتوة ابليس الذي لم يرفض السجود حسب رأيهم عصيانا بل تمحيضا للسجود لله وحده وبصورة أدق رفضا للسجود لما في الانسان من جزء وضيع ذكره عند المقابلة بين النار والتراب.
وبالتصور الثاني يفهم كل التخريف عن تقديس الانسان في الثقافة الغربية دون ملاحظة أن هذا التقديس مشروط بأن يكون الانسان غربيا وهو تقديس كاذب لأن نظام الحياة فيه يجعله عبدا للعجل الذهبي! كما يفهم طغيانه لإفساد العالم كله من أجل سد حاجاته بل وكمالياته فينتقل من راعي العالم في القرآن إلى مفسده في هذه الايديولوجية التي آل إليها التصور المسيحي وخاصة في فلسفة التاريخ الهيجلية التي هي عين فلسفة الرأسمالية وخاصة ذروتها الهدامة أو العولمة.
وطبعا فهذا كله من سوء التأويل. فالنفخ من الروح ليس نقلا لجزء من جوهر الله واحلاله في التراب بحيث يبقى التراب ترابا ويبقى الإلهي إلاهيا وكأنه سجين التراب فيستدعي التخليص بالرياضة الصوفية (وللمسيح المنجي) بل هو رمز لفعل بث الحياة المبينة التي اختص بها آدم في التراب وإلا لكان خلق الله عيسى من جنس تناسل الطيور الداجنة إذ ينفخ الديك في فرج الدجاجة فساءً!
لكن القرآن يعتبر ما حصل من فعل النفخ تحويلا جوهريا للتراب الآدمي الذي لم يبق ترابا بل أصبح جوهرا ثانيا تماما كما يحصل من عملية تحويل أحد العناصر الطبيعية إلى عنصر آخر فيما نقوم به صناعيا عند التدخل في البنية الذرية للمادة. كما أن تكريم آدم لا يعني أنه صار ربا للكون يفعل فيه ما يريد.
فخلقه ليس متميزا عن خلق غيره من الموجودات إلا بإضافة النفخ إلى كن علامة على تأهيله للاستخلاف بتفضيله على غيره من المخلوقات. ويمكن اعتبار رمز النفخ صحيحا على كل الموجودات دلالة على مقدار ما تحتاج إليه من ملكات. فعند الله لا فرق بين البشر والحجر إلا بقدر ما يطابق كلا المخلوقين ما أعد له. فيكون المتأله من البشر ما ينحط على ما اعد له وتكون الحرية مشروطة بالشر كما يتصور شيلنج. وعندئذ يكون مكرم آدم جزءه الشيطاني الذي هو مصدر العصيان رمز الحرية لا الرحمن الذي هو مصدر الايمان رمز التقوى[4].
لكن القرآن يعتبر هذا التميز بالشر علة مآله إلى حطب جهنم لأن كل الموجودات تأتي الله طوعا أو كرها. فلا يمكن لأي موجود أن يخرج عما أعد له دون أن يعني ذلك أنه ليس حرا في حدود ما يحول دونه وتخطي مفطوريته. فلا يكون الانسان حتى بالانحراف عن فطرته اي بالسقوط فضلا عن السمو! لذلك ربط الله التكريم بالتقوى. فهي شرط الكسب أو جهد التوجه إلى القيم (لها ما كسبت) وعكسها الاكتساب أو ارتخاء الاخلاد إلى الدنيا (وعليها ما اكتسبت).
ليس الخلق كما آل إليه أمر تصوره الذي نتجت عنه هاتان القراءتان المحرفتان بتأثير من الهيولومورفية (=تصوير المواد في النظرة الصناعوية نموذجا تفسيريا لتكون الظاهرات الطبيعية) حيت تكون الصورة من جنس صورة الصناعة تضاف إلى مادة من جنس مادتها بل هو تصوير وجودي إن صحت هذه التسمية ينتح عنه تحول جوهري في المخلوق فيكون الحاصل بعدها جوهرا موحدا لا يمكن أن نميز فيه بين مادة وصورة: لذلك كان البعث الاسلامي للكائن كله بجسده وروحه. ومعنى ذلك أن فعل النفخ- ونحن نؤول رموزا ولا نقول حقائق إذ إن طبيعة الخلق من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله – ليس اضافة صورة إلى مادة أو جوهر إلى جوهر بل هو تحريك إيجادي لتفاعل ذاتي لمادة لا تنفصل فيها الهيئة عن الطينة لأنها هي بدورها مخلوقة بنفس الفعل التحريكي في طور سابق. وفعل التحريك يحولها من تراب إلى آدم مثل ما نفعل عند تحويل أي مادة إلى طاقة. وطبعا فالصلصال الذي نفخ فيه هو بدوره سابق الخلق بعملية اخرى جعلته صلصالا وهكذا دواليك عودة إلى الشي العدم الذي أمره الله بكن فكان.
لذلك فالإنسان جوهر واحد يحيا بجسده ونفسه اللذين يشتركان في الترابية والنفخية ولا يبعث إلا بهما حتى وإن كانا يمران بفترات انفصال مؤقتة كما ينص على ذلك القرآن الكريم نصا صريحا يغني عن كل تأويل: ثم إن النفس نفسها جزء مادي ترابي ونفخي وهي ضرب وجود للذات البشرية الواحدة وليست جزءا منها كما أنها ليست كما يتصور صاحب الورقاء جزءا من الذات الالهية هبطت من المحل الارفع لتحل في الأجساد. أما التمنع والتدلل فهو بقايا من وسواس ابليس رفضا للسجود أمام من صور من تراب!
والاعتراض الممكن الذي هو في نفس الوقت عين علاقة المسألة الاولى (منزلة الانسان رمزا إليها بآدم) بالمسألة الثانية (مسألة كلام الله) هو: كيف يخاطب المعدوم فيؤمر بـ(كن)؟ فلننس-قبل الجواب- المسألة اللاهوتية ولننظر في أفعالنا نحن المتناهين. ألسنا نميز بين الصانع والمبدع سواء كان المجال ماديا أو رمزيا وخاصة في الفنون حيث نميز بين صاحب العمل الفني اليتيم والمقلد في نسخ قابلة للتعدد إلى غير غاية؟ فبم نميز بينهما؟ أليس الصانع يصور مادة بصورة والصورة والمادة كلتاهما عنده متقدمتان على صناعته وعلى مصنوعه فيكون علمه الجمع بين الامرين؟ أما المبدع فهو الذي يتقدم على الصانع فيبدع له الصورة تسليما جدليا بأن المادة لا يبدعها أحد؟ إذا نفينا ذلك سنكون كمن يقول إن الحضارة كلها مثل الطبيعة-تسليما جدليا بأن الطبيعة متكررة ولا تتجدد-ليست قد كانت بعد أن لم تكن بل هي دائمة الوجود على الحال التي هي عليها فلم تتجدد. فلننف كل تطور حضاري إذن ما دمنا ننفي التجدد!
ولنعد الآن إلى الخلق عن عدم. ما نتصور بعضه ممكنا للإنسان المبدع لم لا يكون كله ممكنا للخالق وكل العلوم الآن باتت تهزأ بالنظرية القائلة بقدم العالم (بالعدد وبالنوع) وتسخر من ثبات الجواهر؟ العدم المأمور هو عدم الوجود وهو ليس مادة أولى مستعدة لان تكون كل شيء لكونها حبلى به بل هو عدم محض. ومثله ممكن وقابل للخطاب حتى عند البشر. فلما ينظر المرء في بيته فيرى ما فيها يرى ما ليس فيها من منظور ما يزيدها كمالا دون تحديد: مثال الكمال يقتضي ضرورة العدم الذي يمكن أن يكتمل بالاشرئباب إليه فيكون المشرئب ليس مشرئبا لما يكمل به ذاته بل لما يكمل به ما يماثل ذاته التي تحقق كمالها بخلق نسخة من ذاتها ليس لها قيام إلا بكونها نسخة من الذات. وإذن فالله يرى عدم الموجود دون تعيين فيخلق العالم لتتحلى فيه كمالاته آثارا لصفاته الفعلية أي إنه يرى الوظيفة التي ينبغي أن يوجد لها ما يحققها فيكون الأمر كن موجها للعدم ليصبح موجودا معينا يقوم بتلك الوظيفة.
ثم أليس الشيء في العربية هو ما يٌشاء (بضم الياء) ومن ثم فهو ليس تعبيرا عن موجود خارج المشيئة قبل هو تشيئته، خاصة إذا فهمنا الكلمة كما هي في الأصل أي مصدر فعل شاء؟ ولما كانت الوظائف تتحدد بالقياس إلى المتعاليات وكانت المتعاليات الأعلى هي صفات الله كان علم الله بذاته ونظره إلى صفاته علة خلقة العالم من العدم حتى يقوم بالوظائف التي تحقق الكمالات الناتجة عن اسقاط الصفات على العدم المأمور بكن (بالمعنى الهندسي للإسقاط). إذا كان نظير ذلك كذلك بالنسبة إلى الانسان فما بالك بالنسبة إلى الخالق؟
وفي كل الاحوال فلسنا نقول إن الامر في حقيقته-لأن ذلك من الغيب الذي لا يعلمه الا الله- هو كما نصف بل نقول إن ما يماثله ليس مستحيلا عقلا وإذن فهو يمكن أن يكون هكذا أو نحوه إذا حاولنا أن نفهم مدلول فعل الخلق. وليس هذا من الكلام القديم لأننا سنرى أن الكلام المزعوم جديدا لايزال دائرا حول نفس القضية في ترجمة انثروبولوجية عندما يحاول أن يفهم الابداع الانساني والتجدد في الكون الطبيعي عامة وفي التاريخ خاصة. والفرق الوحيد هو أن هذه النسخة أقرب إلى الذهن العامي من ذلك الأصل الذي لا ينفذ إليه الجمهور. فلو نفينا في الترجمة الانثروبولوجية خلق الجديد لنفينا التجديد ولو قلنا بالأصل القديم المطلق لادعينا ما ينفيه العلم كله: العالم محدث بحسب كل النظريات الكوسمولوجية لأنه دون سن قابلة للتحديد.
[1] الكلام المسيحي لا يميز بين المسألتين المتميزتين في الكلام الاسلامي لانهما تعودان إلى مسألة واحدة هي مسألة التثليث. لذلك فهم لا يرون نوعي التحريف العقدي والشرعي أو التأليه الوجودي (طبيعة الانسان وينتج عنه نسبة معايير العلم إليه) والتأليه القيمي (تشريع الانسان وينتج عنه نسبة معايير العمل إليه). ونحن نعتذر للقارئ غير المختص لاستعمالنا مصطلحات خرجت من التداول العادي لموت التقاليد التعليمية الفنية في مؤسساتنا الجامعية ذات التحديث الطلائي. وكان يمكن أن يشفع لهذا الجهل بالقديم التمكن من الحديث. لكن العلم بالحديث لا يقل ضحالة عن العلم بالقديم!
[2] وهذا هو أصل الصراع العقدي بفروعه الخمسة بين الاسلام والمسيحية. والغربيون فيها جميعا مسيحيون إلى الأذقان وخاصة من كان منهم علمانيا كما نبين وكما يمكن أن ندعم ذلك بشهادة هيدجر الذي يفهم حضارة الغرب أفضل من أي مسلم مهما كان متشربا للحضارة الغربية (انظر هذه الشهادة في كتابنا الشعر المطلق): 1- منزلة كلام الله 2- ومنزلة الانسان 3- وأثر المنزلة الأولى في المنزلة الثاني أو منزلة المتعاليات في التاريخ 4- وأثر المنزلة الثانية في المنزلة الأولى أو أثر التاريخ في المتعاليات 5- وأخيرا أصل كل هذه المسائل هو الصراع بين التوحيد المسيحي بين كلمة الله والانسان ( وهو جوهر التحريف كما هو بين من سورة آل عمران) والتمييز الاسلامي بينهما. فالإنسان ليس كلمة الله بل بعض المخاطب بها خلال توجهها إلى كل الكائنات.
[3] وفيه احالة إلى خلق عيسى بأسلوب داحض لان القرآن اعتبر خلق عيسى من جنس خلق آدم ودونه اعجازا لانعدام الجنسين في آدم ووجود أحدهما في عيسى. فلا بد أن يكون النفخ في التراب لخلق آدم أكبر أثرا من النفخ في فرج مريم لخلق عيسى. ومعنى ذلك أن الله لو كان أبا لأحد لكان الأولى أن يكون أبا لآدم. ثم إن الحاجة إلى الشفيع من الخطيئة منعدمة من منظور الاسلام لأن الخطيئة جبت بعد أن تاب آدم وعفى الله عنه ثم اجتباه. لذلك فرسالة عيسى جعلوها تحريفا لرسالة آدم: آدم برأ الجنس وأغنى الناس عن الشفيع وعيسى صيروه محرما الجنس على حوارييه ومعيد الحاجة إلى الشفيع.
[4] انظر شيلنج F.W.J. Schelling, Ueber das Wesen der menschlichen Freiheit, Saemmlichen Werke, hg. v. K.F. A. Schelling, Bd. VII, Stuttgart/Augsburg 1960 s. 331-416.
الكتيب