لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهفلسفة الدين
لو كنت من القائلين بفلسفة الخصوصيات لكان كلامي على مآل الفلسفة الغربية بعد هيجل منتسبا إلى المواقف الدفاعية التي تحاول أن تنفي الفضل عن غيرنا وتعيده إلينا بالأقوال وهي ابلغ طريقة لإثبات أننا لسنا كذلك بالأفعال. فعندي أن الفكر الفلسفي إذا كان بحق فكرا فهو كوني مثل الدين في الواجب.
وأقول في الواجب لأن الأمر الواقع تغلب عليه الخصوصيات الثقافية التي لم يع أصحابها أنها بالنسبة إلى الفكر مجرد أساليب تعين الكلي في الجزئي. لذلك فلا يوجد بين الجماعات البشرية فروق كيفية إلا في الأساليب عبارة غفلة عن ذوق الوجود لكن الحقائق التي يطلبها الفكر واحدة واختلاف إدراكها كمي.
تمايز الحضارات لا يختلف عن تمايز مراحل الحضارة الواحدة في مسار نضوجها لأن كل حضارة في الحقيقة متفاعلة مع مساوقاتها ووارثة لما تقدم عليها وموروثة مما يليها وذلك في علاجها للعلاقتين الأفقية (علاقة البشر بعضهم بالبعض) والعمودية (علاقة البشر بأحياز وجودهم وخاصة الطبيعة).
وعلى كل فهذه رؤية الإسلام كما يتحدد في مرجعيتيه القرآن والسنة بوجهي قولهما في تاريخ البشرية الروحي والسياسي نقدا للتجارب السابقة وبدائل للتجارب المقبلة. ولهذه العلة فالقرآن لا يتكلم على الخصوصيات إلا بهذا لامعنى التاريخي لا البينوي: بمعنى أن تعدد الإنسانية هو مراحل تاريخ نضوجها.
وعندي إذن أن نسبة هيجل إلى بداية غروب المرحلة الحديثة (التي هي مرحلة سلطان أوروبا على العالم) لا تختلف كثيرا عن نسبة ابن خلدون إلى بداية غروب المرحلة الوسيطة (التي هي مرحلة سلطان المسلمين على العالم) وصوغ رؤية جديدة للعالم تجاوزت مرحلة الرؤية الثيولوجية إلى الرؤية الانثروبولوجية.
فالرجلان جعلا بؤرة عملها تحديد طبيعة العلاقة بين الله والإنسان في الرؤى الذهنية وفي الوقائع العينية جمعا بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ وقراءة لمرجعيات الإنسانية الروحية. كلاهما نقل الكلام والفلسفة من ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ إليهما وخاصة إلى ما دونهما في أحداثهما الفعلية.
لكن لا أحد منهما ينطلق من الخصوصية بدليل اسم المقدمة عند ابن خلدون “علم العمران البشري والاجتماع الإنساني” الكونية ذكرت مرتين: بشري وإنساني برؤية مبنية على علاقة الإنسان بالطبيعة لسد الحاجات المادية وبالتاريخ لسد الحاجات الروحية وبما بعدهما النظري والعملي والأصل هوما بعد الأخلاق.
ونفس الامر يقال عن هيجل: ففلسفة الدين كونية وفلسفة التاريخ كونية وكلتاهما مبنية على النظر وفلسفة الطبيعة والعلم وفلسفة الحضارة والأصل عنده يجمع بين ما بعد الطبيعة وما بعد الأخلاق ويمكن أن نسميه مابعد المنطق (الجدل).وهو ما يعلل انطلاقي من هيجل للكلام على الإنسانية ونحن منها في ما ولاه.
وقصدي أن رؤية هيجل أكمل واكثر جدوى تفسيرية لوضعنا الراهن رغم أنه لا ينتسب مباشرة لحضارتنا مثل ابن خلدون. فرؤيته ثمرة مرحلة من تاريخ الإنسانية لم نسهم فيها لا في مستوى الأذهان ولا في مستوى الأعيان إلّا منفعلين بعد محاولة ابن خلدون تجاوز ثقافة الكلام التي جعلتنا منفعلين بالانقلابين.
درست الانقلابين بما يكفي فتكلمت على ما نتج عنهما من فساد نظام التربية ونظام الحكم (الانقلاب السياسي على الدستور القرآني) وخاصة من فساد النظر والعمل (الانقلاب المعرفي على الدستور القرآني) وآن أوان الكلام في منزلتنا ومنزلة أوروبا منطلق كلا المفكرين من بداية فلسفة دورهما الكوني.
وهذا لا يعني أن اميل إلى رؤية هيجل وأفضلها على رؤية ابن خلدون لذواتنا. لكن هيجل يدرجنا في فلسفته بمحاولة قراءة رؤيتنا للدين والتاريخ وهو الامر المعدوم في فكر ابن خلدون إذا ما استثنينا إشارة واحدة لشروع أوروبا في النهضة العلمية وتردي وضع العلوم في الحضارة الإسلامية في عصره.
ولست غافلا عن كون كاريكاتور التأصيل سيعجب من الجمع بيننا وبين أوروبا بسبب تخريف أصحابه حول الحروب الصليبية التي يفهمون بها لحظتنا الراهنة عجب كاريكاتور التأصيل منه بسبب تخريف أصحابه حول القطيعة بين الحداثة (الغرب عامة) والعصور الوسطى (المسلمون عامة).
لكن اللحظة الراهنة واحدة بالنسبة إلينا وإلى أوروبا: كلانا تابع فقد دوره الكوني. فما سميته محميات عربية -وأهله يتصورونه دولا-لا تبعد عنه دول أوروبا وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية: أوروبا فقدت امبراطورياتها وصارت محميات فيها مثلنا قواعد للعملاقين بدعوى كل منهما حمايتها من الثاني.
فمن يصدق أن اسبانيا والبرتغال وبلجيكا وهولاندا يمكن أن تصبحا من جديد امبراطوريات؟
وهل يوجد من يحمل محمل الجد محاولات فرنسا استعادة مستعمراتها الافريقية بأكاذيب التعاون من طراطير تنصبهم لحماية ما بقي لها من مصالح في خاماتها؟
أمريكا والصين سيفقدان أوروبا دورها العالمي نهائيا.
تبعية أوروبا الفعلية -السياسية والعسكرية وخاصة شروط القوة المادية والاستراتيجية-لا تختلف إلا بالكم عن تبعيتنا ولعلنا أقل تبعية في مستويات جوهرية هي ما به نختلف عن أوروبا ديموغرافيا وإمكانات الأرض والموقع الجغرافي (الطاقة والممرات والنمو الديموغرافي وتسارع التدارك العلمي والتقني).
وعدم أخذ هذه الحقائق في الاعتبار هو السر في غباء أصحاب كاريكاتور التحديث: يتكلمون على عدو لم يعد موجودا خدمة للعدو الموجود الذي يريد أن يقنع أوروبا أن الخطر عليهم منا وليس منه. ما يهدد أوروبا هو ما يهددنا نحن كذلك: امريكا وإسرائيل أو المسيحية الصهيونية استراتيجيا وروسيا تكتيكيا.
ومن يبالغ في التركيز على العداوة بين الإسلام وأوروبا هو اليمين الأوروبي وأغبياؤنا الذين أفسدوا شروط المستقبل بطرق العلاج الماضية دون فهم للحظة التاريخية الكونية والمصير المشترك لما يحيط بالأبيض المتوسط الذي هو قلب حضارتي العالم منذ ثلاثة آلاف سنة فقد تنقرضان بانقراض المشترك بينهما.
عدو هذه الحضارة المشترك أخطر مما بينهما من عداوة ماضية: وهذا العدو لا علاقة له لا بالمسيحية ولا بالإسلام ولا يمكن أن يسمى عدوانه حربا صليبية فهو مغول الغرب الذي يستعد لمنافسة امريكا ومغول الشرق الذي يستعد لمقاومته وأدواتهما إيران وإسرائيل: والرهان تبعيتنا نحن وأوروبا.
ويوجد سؤال تكاد كل الشفاه أن تنبس به: ما علاقة هذا بالكلام على “فلسفة الدين بين جدل المتكلمين ووجدان المؤمنين”؟
العلاقة هي عين العلاقة بين ما انطلق منه ابن خلدون وما انطلق منه هيجل: فما انطلق منه ابن خلدون إخراج للفكر من الانقلابين اللذين أفقدا المسلمين دورهم الكوني.
وما انطلق منه هيجل أصاب فكر الغرب بالانقلابين المقابلين: فحصره ما يتعالى على الدنيا في الوهم ظنا ان العقل هو الواقع وأن الواقع هو العقل أدى إلى ضياع دور أوروبا الكوني فترجمت ثروتها الدينية والفلسفية والعلمية والسياسية إلى التاريخ الطبيعي في الرؤيتين الرأسمالية والاشتراكية.
ابن خلدون اكتشف سر انحطاط الأمة واقترح حلا لاستئناف دورها: والسر هو الانقلابان على الدستور المعرفي نظريا وعمليا والدستور السياسي تربية وحكما ففقدت الأمة سلطانها على التعمير وتوهمت أنه يمكن أن يكون الإنسان أهلا للاستخلاف بالعبادات دون معاملات العلاقتين الأفقية والعمودية.
وكان حل ابن خلدون اعادة تحديد منزلة الإنسان الوجودية فركز على مفهوم الاستخلاف في النظر والعمل والتربية والحكم وفي العلاقة العمودية لتسخير الطبيعة والأفقية لتحقيق الثورتين الروحية والسياسية بمعنى أنه في الحقيقة استمد فلسفة التاريخ من فلسفة الدين قراءة ثورية لمرجعيات الإسلام.
وهيجل عمل العكس تماما: أي إنه توهم أن الإسلام خرج من التاريخ (فلسفة التاريخ الجزء الرابع العالم الجرماني)وأن المسيحية التي هي حضارة أوروبا الإنسانوية ستسيطر على العالم. لكن بعدي فلسته أنهيا سلطان الحداثة والمسيحية بتحريف فكرها: الديني صار مسيحية صهيونية والفلسفي مشاعية بدائية.
فكان مآل الإصلاح الديني والروحي الأوروبي إلى رد الدين إلى خرافات التوراة وآل الإصلاح الفلسفي العلمي الأوروبي إلى رد العلم إلى خرافات صراع الآلهة الميثولوجي ولكن في التاريخ الفعلي للإنسانية. وهذا الردان هما جوهر فكر مغول الغرب: أمريكا وإسرائيل وفكر ما بعد الحداثة.