لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهفلسفة الدين
وبهذا المعنى فأفضل استراتيجية لاستعادة الإسلام دوره الكوني بدءا بالمصالحة بين ضفتي المتوسط هي التركيز على التماثل بين وضعيتي الحضارتين العربية الاسلامية والاوروبية المسيحية لأنهما تشتركان في المصدرين الديني (الابراهيمية)والفلسفي (السقراطية) وضرورة تجاوز مآسي التاريخ الوسيط والحديث.
وفي هذا المضمار فالنخب متخلفة جدا على الشعوب: فذهنيتها ذهنية متكلمين وإن تعلمنت خلافاتها والشعوب تجاوزتهم في ذلك إلى سلوك عفوي لا ينافي أخلاق المؤمنين. فالاختلاط بين الشعوب لا ينكره إلا عديم البصيرة. لا تكاد توجد أسرة ليست مشتركة في جيل أو جيلين نتجا عما بينهما علاقات السلم والحرب.
ومن عاش في اوروبا منا ومن عاش بيننا منهم تقاربت ثقافتهما وتشاركوا في تراث الحياة اليومية كأدوات المائدة وآداب السرير والأعياد والأفراح والاتراح ما يجعل نحو الثقافتين إلى تقارب متزايد وخاصة أن التواصل الثقافي والتبادل الاقتصادي صارا فارضين لتحيد اللسان والوجدان والمخيال في الأجيال.
وإذا ما استثنينا بعض الاحزاب الهامشية من اليمين واليسار الأقصيين في كلتا الضفتين فإن التيار الغالب أميل إلى المصالحة حتى بدون وعي بضرورتها الاستراتيجية في عالم يتقاسمه المغولان الشرقي(أمريكا وأذيالها) والغربي(الصين وأذيالها) ونحن وأوروبا لسنا إلا محميات بالفعل لأمريكا وبالقوة للصين.
تحرير الفلسفة من “كلمنتها” الهيجلية في حضارة أوروبا وتحرير الديني من “كلمنته” في حضارتنا هما الطريق إلى تحرير الإنسانية من حروب الملل والنحل سواء كانت دينية خالصة أو دينية معلمنة كما في الهجيلية والماركسية (الحزب الشيوعي كنسية معلمنة) لتخليص الإنسانية من دين العجل معدنه وخواره.
ما يسمونه ما بعد الحداثة ليس هو إلا الجمع بين كاليكلاس سياسيا والعجل الذهبي دينيا والعبارة التي تظن فلسفة وعي في الحقيقة خرافية تعتبر الثقافات جزرا لا يصل بينها كونية إنسانية متعالية على مقوماته البايولوجية مثله مثل أي حيوان لا يخضع إلا للتاريخ الطبيعي بالصراع على الحاجات المادية.
وكل ما كتبته في كلامي على علوم الملة وعلى الكلام وعلى الشكوك في المقاصد وعلى الدولة وعلى دستور الإسلام السياسي والمعرفي كل ذلك هدفه تغيير استراتيجية المسلمين لتحقيق شروط الاستئناف بما يقتضيه الظرف الكوني الذي تناسبه رؤى الإسلام بصورة لا تكاد تصدق إذا حررنا من الانقلابين.
والانقلابان هما علة حرب الأمة الأهلية الدائمة من الفتنة الكبرى بداية إلى الصغرى غاية وكلتاهما تتعلق بنظرية التربية والحكم في الإسلام: فمن فتنة الوساطة والوصاية بالمعنى الشيعي إلى فتنة الإخلاد إلى الارض بالمعنى العلماني: إما نفي الحريتين في الاولى أو نف المتعاليين في الثانية.
لما قلت إن جهاد الطلب مشروع في حالتي الدفاع عن المستضعفين والحرية الدينية فحسب تعجب أحد القراء وسألني عن هذه الآية { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }.
وهو محق لأن فهم الآية بمنطق الانقلابين يجعل أوصاف من تطالب الآية بمحاربتهم علة الحرب. فيكون الإسلام بهذا المعنى يحارب غير المسلمين لأنهم غير مسلمين وليس للعلتين اللتين ذكرت في الكلام على جهاد الطلب بمنطق حق التدخل في القانون الدولي الحديث.
لا حاجة للاستطراد في التعالم اللغوي. فالجواب الكافي في الآية يبين أن رفض دفع الجزية بالنسبة لغير المسلم هي مساهمته في ميزانية الدولة مثل الزكاة بالنسبة إلى المسلمين. ولا علاقة للأمر بكونهم غير مسلمين بل بمساهمتهم في ميزانية الدولة وتسمى جزية وليست زكاة. فالإسلام لا يكرههم في الدين.
ويمكن الاستدلال بالتاريخ الغربي: هل أبقت حروب الاسترداد في أوروبا على مسلم واحد وحتى على يهودي واحد بعد استرداد الاندلس أم إن هؤلاء جميعا مسحوا كرها أو هجروا إلى دار الإسلام؟
ويهود الأندلس من حماهم؟
ألم يهجروا لبلاد المسلمين مع المسلمين فعوملوا مثلهم إلى يومنا هذا؟
وطبعا لا أنوي الدخول في الكلام بمنطق الدفاع. القرآن موجود والتاريخ موجود وعلى أي باحث نزيه أن يقضي بنفسه في الامر. ما يعنيني أساسا هو أن ما يتهم به المسلمون من عدوانية باسم الدين ليس كله كذب لكنه حدوثه لم يكن بمقتضى الإسلام بل بتجاوزه أحكامه لأن الفتح يمكن أن يتحول إلى استعمار.
وقد حدث فعلا عندما تحولت الدول إلى تقديم طلب المال (أصل الاستعمار) على تحرير الناس من عبادة العباد (أصل الفتح) وهو تحريف وقع فعلا والدليل موقف الراشد الخامس الذي رفض مثل هذا السلوك ما يعني أنه قد وجد. لكن ذلك كان خروجا عن رؤية الإسلام وليس تطبيقا لها كما يدعي نفاة الحقيقة.
ثم إن المسلمين اليوم حتى لو أرادوا أن يخرجوا على أحكام الإسلام فهم أعجز من أن يقدموا على استعمار غيرهم: هم مستعمرون بالفعل من اندونيسيا إلى المغرب وما استقلالهم إلا ظاهر من الأمر لأن كل بلاد المسلمين اليوم محميات لأمريكا بدليل الارتهان في الحماية والرعاية لسلطانها المطلق.
وما يقتل بالضحك سخافة داعش التي تريد غزو روما وأوروبا ظنا أن ما كان ممكنا للرسالة عندما كانت بحق رسالة تحرير للبشرية يمكن أن يحققه من جعلها رسالة استعباد للمسلمين أنفسهم فضلا عن غيرهم من البشر. فلا يمكن للأميين والبدائيين من جنس أمراء الحرب: ليسوا دعاة للإسلام بل مخربيه ومشوهيه.
وأخيرا فإن الإسلام يمكن أن يستعيد دوره الكوني محررا روحيا وسياسيا للمؤمنين به أولا ليكون بأخلاقهم الإسلامية المتحرر من الانقلابين قدوة لغيرهم ممن يعانون من الاستعباد الذي هو جوهر العولمة بوصفها تحقيقا فعليا لما وصفت به الملائكة آدم: فساد في الارض وسفك للدماء.