فلسفة الدين بين جدل المتكلمين ووجدان المؤمنين – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله فلسفة الدين

ما معنى “بين جدل المتكلمين ووجدان المؤمنين”؟

هل هذا يعني أني أنفي إيمان المتكلمين؟

أبدا: لست فقيها لكي أتكلم في عقائد الناس وأقاضيهم.  أحاول فهم الفرق بين موقفين من الدين: كتجربة وجدانية كونية كل تجارب الإنسان الأخرى فروع منها واعتباره مجرد فرع من تجربة معرفية تعلو عليه.

والقصد من التجربة الوجدانية  الكونية أصلا لكل تجارب الإنسان الاخرى يجعل المعرفة نفسها فرعا منها وليست أساسا لها: إنها من التجربة الوجدانية الكونية التي هي جوهر العلاقة المباشرة بين الإنسان ومثاله الأعلى أو الله في ما سماه القرآن الميثاق ليكون الإنسان صلة المتناهي باللامتناهي.

والكلام بدلا من أن ينير هذه العلاقة عمى عليها فحال دون الإنسان وفهم الدين ليعيش التجربة الوجدانية ليدرك وظيفة الجسر بين العالمين. وهذه التعمية هي جوهر مآل الكلام إلى تصوف وحدة الوجود كما في فلسفة هيجل ودراسته أدلة وجود الله بوصفها اثبات الروح لذاته مردودا إلى المسيح رمز الإنسان.

والنتيجة التي تتراءى في كل محاولات الكلام هي دهرية الميتافيزيقا الفلسفية مسقطة بوعي أو بغير وعي على روحانية ما بعد الاخلاق الدينية. وأهمية فلسفة هيجل وماركس وصلتهما بوحدة الوجود المسيحية سواء كانت صريحة كما عند هيجل أو ضمنية كما عند ماركس تتمثل في تنكر الدهرية في الإنسانوية.

فهيجل في خاتمة دروسه في فلسفة الدين يختم فلسفته كما بدأها في فينومينولوجيا الروح بدهرنة الروحي واعتباره متعينا في أرواح الشعوب التي هي مراحل توعي الروح الإنساني بذاته جمعا بين كيانه الموضوعي في الاعيان وكيانه الذاتي في الأذهان ليتطابق الذهني والعيني تطابقا بين العقل والواقع.

وذلك هو جوهر وحدة الوجود التي نقلها هيجل من كونها وحدة متجوهرة الذاتية من أعراضها أو من أحوالها بلغة سبينوزا إلى كونها متذوتة الموضوعي منها هو عينا الذاتي والذاتي هو عين الموضوعي في ما يسميه التجاوز الجدلي للمقابلة بين الذاتي والموضوعي ومن ثم يزول الفرق بين العالم وما ورائه.

ولا يختلف هذا الموقف في شيء عن موقف ابن عربي الذي يعبر عنه بلغة رمزية في إحدى رسائله بالقول إن العالم هو عين الله. وطبعا فهو لا يقصد عضو البصر بل كونه عينا بمعنى أن الله متعين وحال في العام وليس ليه وجود مفارق للعالم وأن ما يجري في الطبيعة والتاريخ لا فرق فيه بين موجود ومنشود.

ذلك هو معنى وحدة الوجود التي تنتهي إلى أن ما في الإنسان من اشرئباب لما يتعالى على العالم من خيالات الإنسان وأن “الواقع” -وثن الحداثيين العرب خاصة-مجانس للضرورة الطبيعية وليس فيه إلا صراع القوى التي تصبح من ثم عين إرادة الله ولا مفر من العمل بمقتضاها فيتساوى الكل وتزول القيم أصلا.

وطبعا فهذا أيضا دين لكنه دين العجل الذهبي ذي الخوار: سلطان المال وسلطان إيديولوجيا القوة. وقد بينت في سابق البحوث أن سلطان المال يتعين في رمز الفعل أو العملة وسلطان الإيديولوجيا يتعين في فعل الرمز أو الكلمة. الدهرية هي دين العجل الذهبي ذي الخوار الذي يستعبد البشر بالعملة والكلمة.

وسلطان العملة يمثل سلطان القوة الاقتصادية (سيطرة على شروط سد حاجات الإنسانية المادية غذاء وعلاجا ورفاهية مادية) وسلطان الكلمة يمثل سلطان القوة الثقافية (سيطرة على شروط سد حاجات الإنسان الروحية علوما وفنونا وإعلاما): وهذا كاف لمن يقتصر على وجود لا يتجاوز الإخلاد إلى الارض.

ولذلك كان تأويل المدرستين اللتين ورثتا فلسفة هيجل متمثلا في اعتبار الأديان من إنتاج الإنسان المستكمل لما يشعر به من نقص في ذاته بما يبدعه من أوهام وأولها الله نفسه باعتباره صورة كاملة عما “يتمنى” الإنسان أن يكون روحيا (في اليمين) وماديا (في اليسار) الهيجليين.

وفي الحقيقة فما يسيمه بعضهم بعلم الكلام الجديد ليس إلا نسخة باهتة من هذين الموقفين الوارثين لفلسفة هيجل مقصورا على سطحيات ترجماتها في علم الكلام المسيحي الموجب (الوجودية المؤمنة) والسالب (الوجودية الملحدة). وهنا أيضا الكلام جديده كقديمه نسخة منحطة من فلسفة عصره.

لذلك فالأفضل الاكتفاء بالفلسفة وبنظرياتها في الربوبية سواء المستدلة على وجود الرب بالحاجة إلى محرك العالم الطبيعي والمنظم له(الفلسفة الوسيطة ما قبلها)أو الفلسفة الحديثة المستدلة على وجوده بالحاجة إلى مشرع العالم التاريخي والمنظم له(الفلسفة الحديثة وما بعدها) بدل التجربة الروحية.

وهذه المقابلة ينطلق منها القرآن ليعتبر الدهرية نفسها بحاجة إلى تجاوز العالم الطبيعي والتاريخي إلى ما يتعالى عليه حتى وإن توهمته من جنسه وحالا فيه سواء كان النفس الكلية أو العقل الكلي أو أي مبدأ نظام لكأنه مقصور على الامر دون الخلق: الفرق الجوهري بين ما بعد الطبيعة ومابعد الأخلاق.

وهذا الفرق جوهري: لأن الإيمان بأن الله خالق وآمر يعني أن ما بعد الطبيعة ومابعد التاريخ لا يمكن أن يفسرا بقوانينهما وسننهما وكأنهما غير مخلوقين لإرادة وعلم وقدرة  وحياة ووجود كلها معبرة عن خيارات حرة تجعلها على ما هي عليه وليست سابقة الوجود عن تدخل محرك يحركها أو مشروع ينظمها.

فمدار الأمر كله ثنائية المادة والصورة التي فرضت على الفكر الإنساني بمنطق الهيلومورفية إما للتشكيل الوجودي بالمحرك الغاية (أرسطو) أو بالإله الصانع (أفلاطون) أو بالعقل الكلي أو بالنفس الكلية أو بالإله الشارع (ديكارت) أو بالإله المحايث غائية روحية (يمين هيجل) أو مادية (يسار هيجل).

وبذلك يتبين أن ما يسمى بأدلة  وجود الله هي في الحقيقة أدلة نفي وجوده: فإذا قسنا دور الله في الوجود بدور القوى الطبيعية أو التاريخية فلكأننا قلنا إننا لا حاجة لما يتجاوز نوعي التعليل الناتجين عن قياس الله على الإنسان أو على الطبيعة. ولا معنى لما لا تتميز فاعليته عن فاعلية نعلمها.

فبمجرد قيس فاعليته على فاعلية الطبيعة أو الإنسان استغنينا عنه أو كان اللجوء إليه أمرا نافلا يمكن الاستغناء عنه. لو كنا قادرين على تفسير الوجود بفاعلية الطبيعة أو بفاعلية الإنسان لكان الكلام على فاعلية متعالية عليهما من لغو الكلام. الخلق والامر لغزان وجوديان كالحياة والموت.

وبهذا المعنى فهيجل محق: أدلة وجود الله تثبت سعي الروح الإنساني إلى  اثبات ذاته. لكنه غير محق في تمجيد أدلة وجود الله. فهذا السعي ينتهي إلى أن الله كروح لا قيام له إلا في روح الإنسان. فيكون الإنسان هو علة القيام الإلهي وليس العكس. تلك هي علة رفضي للأدلة فقصاراها ما قاله هيجل.

كل الفلسفة الغربية بعد هيجل علم كلام مسيحي متنكر وخاصة ما بعد الحداثي منها: لذلك فالفلسفة تحولت إلى مدارس كلامية أبعد ما تكون عن العلم والإيمان بل هي صارت -على مثال نيتشة-لا تؤمن بغير الكذب النافع معتبرة الحقيقة من أوهام الإنسان ولا وجود إلا للرؤى المناظيرية:Perspectivisme

صحيح أني أقول بالبرسباكتيفيسم في المعرفة لكني أعدلها بالإيمان: أومن بوجود الحقيقة والخير والجمال والجلال والمتعال بوصفها مثل عليا ذات وجود حقيقي لكن الإنسان لا يحيط بها علما وإن كان وجوده مشروطا بالإيمان بها وذلك هو القصد بالتجربة الوجدانية جوهرا للدين في القرآن على الاقل.

والقرآن نفسه يقول بالمناظرية التي بهذا المعنى ويعتبرها شرط التسابق في الخيرات: المثل في التجربة الوجدانية حقائق إيمانية وليست معرفية وهي غاية التسابق المناظيري بين مدارك البشر. ولذلك فكل نفس لها طريق في هذا الاشرئباب للسعي نحو المثال وهو مجال الاجتهاد والجهاد.

فالعلم المطابق الوحيد هو علم الله المحيط. وكل علم إنساني مناظيري بالطبع بمعنى أنه نوع من حظ في ذوق الوجود يحدد درجات التجربة الوجدانية التي تكلمت عليها والتي هي في آن لطف إلهي واجتهاد وجهاد إنساني بهما يقدر إيمانه وتحقيقه للأمانة تعميرا للأرض اختبارا لأهليته الاستخلافية.

وهذا هو معنى السرائر التي لا يعلمها إلا الله والقول بها هو الذي يحد من طغيان الوسطاء على حرية الإنسان الروحية وطغيان الاوصياء على حريته السياسية: وتلك هي علة الارجاء القرآن للفصل بين أهل الملل والنحل في ما يختلفون فيه ما جعل دولة الإسلام توجب على المسلمين حماية كل الأديان.

فلا توجد إلا آيتان في القرآن تحلان الجهاد الهجومي (الطلب) هما دفع الناس بعضهم ببعض لمنع العدوان على المستضعفين ودفعهم لمنع العدوان على الأديان. أما باقي الدعوات للجهاد فهي للدفع  وليس للطلب. فتكون حماية المستضعفين والأديان من جهاد الدفع الكوني بكونية الإسلام وليس الطلب.

وجهاد الدفع الكوني جنيس حق التدخل في القانون الدولي الحديث: يجب على دولة الإسلام أن تحول دون اضطهاد المستضعفين ودون منع حرية العبادة (رمزا إليها بصوامع وبيع ومساجد) حتى خارج حدودها لأن ذلك من مقومات عبادة الله وتحرير البشر من عبادة العباد والله أعلم.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي