فلسفة الدين بين جدل المتكلمين ووجدان المؤمنين – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله فلسفة الدين

وطبعا عندما أقول كل الفلسفة الغربية بعد هيجل علم كلام مسيحي متنكر فليس القصد بـ”مسيحي” دين المسيح عليه السلام. فالقرآن صريح في تبرئته من تأليهه {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}.

وإذن فالقصد علم كلام الذي حرف المسيحية ليؤسس الوساطة روحيا والوصاية سياسيا وهو لا يختلف كثيرا عن علم الكلام الإسلامي في ذلك وفي المآل الصريح أو الضمني لتصوف وحدة الوجود كما بينت في الكلام على علوم الملة. وهذا التنكر لا يستثنى منه حتى رافضو الهيجلية مثل كيركجراد وماركس ونيتشة وهيدجر.

وليس بالصدفة أن عرف هيدجر الحداثة بعناصر خمسة كان أهمها ما سماه “تمسيح العالم” في بحثه العالم من حيث هو صورة Die Welt als Bild بمعنى يجعل الإنسان ترجمان الوجود والناطق باسمه تعينا مناسبا لدلالة Dasein ليس بمعناها العام Existence مقابل Essence بل بما يناظر “المسيح” في الهيجلية.

فيكون مدار الكلام في هذه الحالة هو منزلة الإنسان وعلاقته بالله أو بالمطلق الذي يتعالى بمفارقة العالم ولا يتصور حالا فيه ولا في الإنسان وكلا الحلولين تابع لرؤية وحدة الوجود ولإطلاق نظرية المعرفة المطابقة فلا يوجد ما هناك وراء ما هنا بلغة هيجل: محايثة المثال لـ”الواقع”.

ولن اعجب إذا عجب بعض الفلاسفة العرب من قراءة الفلسفة دينيا بدلا من قراءة الدين فلسفيا. في الحقيقة كلاهما مدخل للثاني. وعندي أن الأعم -الدين-أولى بأن يكون مدخلا لقراءة الاخص -الفلسفة-خاصة وهي بتطورها الذاتي آلت إلى هذا المنظور الذي صار صريحا عند هيجل خاصة.

وليس صحيحا أن نيتشه هو قائل إن “الله قد مات” بل اول القائلين بها هو هيجل في فلسفة التاريخ وفي فلسفة الدين. قالها تعبيرا عن يأس الصليبيين بعد هزيمتهم  والتسليم بأن المسيح قد مات لما عادوا خائبين ليخلدوا إلى الارض. وقالها بدلالة نفي ما وراء العالم: هذا Diesseit ليس له Jenseit.

وكل عالم نيتشة الذي لا فرق فيه بين واقع وخيال والذي هو مجال الإنسان المتأله المبدع مثل دودة القز لنسيج خياله وأكاذيبه النافعة معتبرا ذلك فلسفة ضديد المسيح لم يخرج من الفهم الهيجلي “للواقع” الذي فقد وجهه الثاني ولم يبق منه إلا الهنا بعد فقده الهناك سجنا تحيث فيه كل المتعاليات.

وحينئذ لن يوجد فرق بين التعمير والتهديم فكلاهما يولد نفس المتعة متعة الإرادة التي تريد نفسها في لعبة الشعوب باللامعنى في الوجود. وكل ما اعتبر ثورة على الكنيسة (الوساطة) وعلى الدولة (الوصاية) وطد لسلطانهما المافياوي دين عجل حديث بمعدنه وخواره: ايديولوجيا الإخلاد إلى الأرض كدودها.

ما يمدحه هيجل يقدح فيه نيتشة لكن الموقفين وجهان لعلمة واحدة: سجن الإنسان في الهنا مجال المعقول متلازم مع الهروب منه إلى ميثولوجيا اللامعقول بل وإلى وصف معقول الأول عين هامش لامعقول الثاني فيكون المعقول اليائس من الهناك اللامكان الخيالي ليتوبيا الابسورد في الوجوديات الملحدة.

وهو “النيجاتيف” من الدين الذي يبدو ثورة عليه وهو في الحقيقة ما لا علاج له غير الدين بمجرد أن يتخلى الإنسان عن تأليه ذاته وادعاء أن الله مجرد “مخلوق” لخيال الإنسان الذي هو الروح الوحيد وما عداه من خياله تماما كما يقول تصوف الوحدة المطلقة كما عرفه ابن خلدون في المقدمة وشفاء السائل.

وما كان ذلك يكون كذلك لولا إطلاق نظرية المعرفة المطابقة التي توهم الإنسان بأن له علما محيطا يجعله يرد الوجود إلى الإدراك فلا يشك في شكه ما يعتبره تصورات عامية (الدين) في حين أنه أصل كل ما يمكن أن يدور في خلد الإنسان بما في ذلك نفي الدين بإطلاق ما يسميه واقعا حصرا في الدنيوي.

ومن قارن شرح ابن القيم لمنازل السائرين للهروي ردا على شرح التلمساني يدرك الفرق بين الرؤيتين للعلاقة بين الربوبي والإنساني والمناوسة بين الردين اللذين يرفضهما الإسلام: فالتلمساني قولا بالوحدة المطلقة يجعل الهروي قائلا بها وابن القيم يثبت العكس تمييزا بين الذاتين الآلهة والمألوهة.

وقد أبدع ابن تيمية في الرد على ابن عربي وخاصة في شرح “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى” ليحرر الفرق بين الوحدتين الشهودية والوجودية ومن ثم ليبين حقيقة المنزلة التي يوليها الإسلام للإنسان والتي مهما كانت رفيعة لا تصل إلى ما وصل إليه تحريف المسيحية الذي آل إلى النقيض.

فالعولمة تبدو وكأنها قد كرمت الإنسان بأن جعلته سيدا مطلقا ليس له -كما يقول هيجل-ماهناك ومكتفيا بما هنا لكنها في الحقيقة هي سحقه وجعله عبدا لآليات عمياء فاقدة كل معنى إذ صار مثله مثل أي حيوان آخر خاضعا لمنطق الانتخاب الطبيعي والصراع فصار أداة وأصبح غاية ما كان ينبغي أن يكونها.

العولمة هي دين العجل الذهبي الذي يحكم العالم بتوسط الولايات المتحدة وإسرائيل : كنيسته هي شركات الإنتاج التخديري أو ثقافة اللهو بمعنى باسكال في خدمة ميثولوجيا التوراة ودولته هي مافيات البنوك التي تمتص دماء الجوهيم لخدمة أجندات خفية هي عين إيديولوجيا الشعب المختار.

ولذلك فليس من الصدفة أن يصبح رهانها لاستكمال سلطانها هو تغيير كل الرؤى الإسلامية التي باتوا يرونها ضديدا لهم وشرطا في تحقيق حلم حكم العالم كله شرقه وغربه ليس بالحرب على الإسلام وحدها بل وكذلك بالسيطرة على داره محلا لشروط هذه السيطرة المادية ثروة ومكانا والروحية تراثا وزمانا.

أم إن كاريكاتور التحديث الذي بغفلة أو بخبث يروح للإنسوية الكاذبة وكاريكاتور التأصيل الذي لا يمثل الإسلام كما يحدد نفسه في مرجعياته بل انقلابين حصلا عليه جعل الامة تعاني من الاستبداد والفساد اللذين أفسدا معاني الإنسانية بسلب حريتي الإنسان الروحية والسياسية.

دافعي الأساسي في هذه المحاولة هو فهم الشروط الضرورية والكافية لتمكين شباب الأمة الثائر بجنسيه من تجاوز الحرب النفسية عليه لئلا ينجر وراء كاريكاتور التحديث ومليشيات القلم الحداثي المزعوم أو وراء كاريكاتور التأصيل ومليشيات أمراء الحرب ويشرع في استئناف ثورتي الإسلام بحق.

فلسنا وحدنا من يحتاج إلى الاستئناف الإسلامي. إنه فرصة الإنسانية كلها حتى تتحرر من دين العجل وإيديولوجية الشعب المختار وتأسيس شروط الاخوة البشرية (النساء 1) والمساواة التي لا تعترف بفروق العرق والطبقة والجنس للتعارف بدل التناكر ولا تفاضل فيها إلا بالتقوى.

ولست غافلا على أن هذه المعاني تستعمل في شكل شعارات لنقائضها بإطلاق: ذلك أن ايديولوجية العولمة والحداثة تبدو قائلة بنفس هذه القيم. لكن سادة العولمة بكنائسهم الجديدة (الإنتاج الثقافي التبليهي) وبقوة مافياتها وارهابها يستعملونها براقع لجبروت أسلحة الدمار الشامل لفرض إرادتهم.

وما يسمونه قانونا دوليا هو في الحقيقة قناع يخفي ما تفرضه الدول التي لا تحتكم إلا إلى القوة في إدارة العالم كله بما يتنافى تماما مع العدل والحق. ولسنا وحدنا الذين نعيش هذه التحريفات التي مسماها مناقض لاسمها كلما تعلق الامر بتطبيق القانون لغير صالح هذه القوى في تقاسمها للعالم.

ونحن امة الإسلام أكثر شعوب العالم معاناة لعلتين: أولا لأننا بأحيازنا الخمسة نمثل قلب العالم مكانا وزمانا وشرطا ماديا وشرطا روحيا يجعل سادة العالم يعتبرون استئنافنا لدورنا عائقا لبقائهم سادة العالم ولذلك فتفتيت مكاننا وتشتيت زماننا يضعفنا ماديا وروحيا فييسر سيطرتهم على العالم.

والعلة الثانية هي أن الإسلام دين عزة وكرامة للمسلمين وللإنسانية عامة ما يجعل أصحاب العجل يعتبرونه مسفها لرؤاهم ومحررا للإنسان من الوسطاء روحيا بشكليهما الكنسيين القديم والحديث ومن الأوصياء سياسيا بشكليهما القديم (الحق الإلهي في الحكم بالدين) والحديث (الحق الطبيعي في الحكم بالقوة).

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي