فلسفة الدين بين جدل المتكلمين ووجدان المؤمنين – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله فلسفة الدين

علق أحد الأصدقاء على ما أكتبه في الدين عامة والإسلام خاصة والقرآن بصورة أخص متسائلا: كيف توفق بين موقفك السلبي من علم الكلام وما تكتبه حسب رأيي منه دون شك. فأمدني بفرصة بيان الفرق بين ما اكتبه وعلم الكلام الذي اعترف بأني اعتبر ما عرفنا منه ضرره أكثر من نفعه.

ولأبدأ بما يجعلني أقف هذا الموقف السلبي من علم الكلام. ولست الوحيد: لم أعرف فيلسوفا واحدا من فلاسفتنا كان موقفه منه إيجابيا إذ حتى استثناء الفارابي في كلامه على وظيفتيه المكملة للعقائد والشرائع بعد غياب واضعهما والمدافعة عن وضعه فهي تحطه إلى منزلة الإيديولوجيا بلغتنا الحديثة.

وهذا الدفاع الوحيد عن علم الكلام بين فلاسفة الإسلام هو بالذات أول دوافعي لرفضه. فبخلاف جل من يتكلم في الدين لا اعتقد أن العقل هو الذي يؤسس الدين بل الدين هو الذي يؤسس العقل: فأول أساس للعقل هو الإيمان بأن الإنسان عاقل وبأنه مقوم كلي للإنسان  وهذا دليل على أن العقل لا يؤسس ذاته.

فلو اعتمدنا على ما نراه من الإنسان في واقع أمره لنثبت أنه عاقل وأن العقل مقوم كلي للإنسان من حيث أنه إنسان لكنا من أسخف العقول: فما يعم الإنسانية في واقع أمرها أنها غير عاقلة بل مجنونة تعمل كل ما تستطيع لتفسد وتسفك الدماء وتخرب العالم من أجل نزوات جنونية.

وبهذا المعنى فالعقل ببعديه المعرفي والخلقي مثال أعلى ديني وليس حقيقة علمية يمكن الانطلاق منها لإثبات الإيمان بهذا المثال الاعلى. وهو في واقع الحاصل منه يمكن أن ينقلب على ذاته فيكون أداة تهديم بمجرد ان يتصور ذاته قادرة على المعرفة بإطلاق بأخلاق تحد من إخلاد المعتمد عليه إلى الارض.

والقرآن لا يستعمل كلمة العقل حتى بالصيغة المصدرية فضلا عن الجوهر الذي يشار إليه بالاسم عقل بل يكتفي بالمشتقات الفعلية ويعتبره قدرة فهم ما يتلقى عن طريق اللسان ولذلك يربط بين الرسالات وألسنة الاقوام المخاطبة بها وهو إذن مفهوم أعم ومعناه “البيان” بثا وتلقيا.

العقلانية بمعناها الساذج هي القائل أصحابها بنظرية المعرفة المطابقة والتي سخر منها ابن خلدون وقبله ابن تيمية وقبلهما الغزالي. فالغزالي وضع حدا لهذا الوهم بنظرية طور ما وراء العقل وابن تيمية وضع حدا له بنظرية لا تناهي تجويد التصورات وابن خلدون صاغه متهكما بوهم رد الوجود إلى الإدراك.

وهبنا سلمنا أن العقل يدرك الحقائق بصورة تغنيه عما يتجاوزه فهو في هذه الحالة توق لا يتناهى نحو تجاوز ما يسمونه حقائق أعني العالم الطبيعي والعالم التاريخي: فما في الإنسان من اشرئباب يعبر عن وعي “مقدس” يعتبر العالم كله غير كاف لطموحه الوجودي نحو كمال ليس له وجود في العالم.

ولهذه العلة فأي إنسان حي الوجدان لا يمكن أن يخلد إلى الارض حتى لو حاز كل ثروات العالم وأمجاده بل هو دائما مشدود إلى عدم الاكتفاء بسجنيه: بدنه والعالم. ولولا التكليف بمهمة التعمير والاستخلاف لكانت الدنيا بحق أقل من جناح بعوضة: فقيمة الدنيا ومعناها مستمدة مما يتعالى عليها فيها.

وما يتعالى عليها فيها هو بالذات الإنسان في التصور القرآني على الأقل إذ هو عين ما وراء الدنيا في الدنيا أو الجسر الواصل بينها وبين كل ما يتعالى عليها وهو معنى الاستخلاف قرآنيا. وبهذه الصفة اعتبر أهلا للخلافة لأنه مسم ومبين. وهما إن تسامحنا مع الفلسفة وظيفات العقل وليس له غيرهما.

قد صدق مخيال التسمية الألماني عندما اعتبر العقلانية Rationalisme بالاصطلاح الفرنسي عقيدة العقل  Der vernunftglaube بالاصطلاح الالماني. والمحاسبي قدم الوظيفة الخلقية فعلا على الوظيفة المعرفية انفعالا: تنظيم الإنسان لسلوكه وفهم الإنسان لنظام التاريخ والطبيعة هما معنى العقل دينيا.

وفهم نظام الطبيعة والتاريخ لا يمكن أن يستمد من الاستقراء لأن ما يغلب عما ندركه منهما ليس النظام والعقل بل الفوضى واللاعقل: ومن ثم فما نطلبه من نظام وعقل من الطبيعة والتاريخ أساسه إيمان بما وراء ما يغلب على الظاهر منهما ومن ثم فهو من ثمرات الاشرئباب للتعالي عليهما شرطا لعلمهما.

وهذا هو التعليل الفلسفي الذي يجعلني أرفض علم الكلام: الدين غني عن التعليل العقلي لان في ذلك قلبا للعلاقة بينهما. الدين يؤسس العقل عند الجميع المتعلم وغير المتعلم -الشعور بالنظام والغائية والحكمة شعور ديني متقدم على العقل الصناعي وتنظيم تقدم اللغة الطبيعية على اللغة الصناعية.

وهو أمر يبدو لي طبيعيا: فلو كانت الإنسانية محتاجة إلى ظهور المنطق حتى تنظم حياتها وتؤسس حضاراتها لاستحال على البشرية أن تبدأ وجودها التاريخي. وإذن فما يقوم به المتكلم يجعل الشعور الديني بواجب التنظيم والوعي بالنظام مصنوعا وليس مطبوعا. العقل المصنوع أداة تالية عن العقل المطبوع.

والعقل المصنوع من جنس أدوات الإدراك الحسي التي تقوي قدرتها على الرؤية والسمع مثل المجاهر وأدوات الرصد في الفلك. المنطق والرياضيات مثلا مبدعات صناعية لا تختلف عن الأدوات التي هي ترجمتها كالحال في أدوات الرؤية في علاقتها بالبصريات والتنصت بالسمعيات إلخ..

وبهذا المعنى فالدين يمكن أن يدرس بالعقل الصناعي من حيث ظاهرة في العالم الشاهد وليس من حيث ما يتسلمه من عالم غيبي لأن ما يستلمه أو يأمر بتسلمه ليس مما يقبل الإدراك الحسي ولا العقلي الصناعي إذ هو أساسهما: كون الإنسان مبين ومتبين لا تفسير له عدا تفسير دورما فيه بدنه من وظائف عضوية.

لا أحد يستطيع أن يفسر معنى “أنا الآن واع بشيء وبوعيي بذاتي من حيث مدركة لذلك الشيء”: هذه واقعة أعيشها وقد أصلها ببعض خلايا المخ كما أصل وظائف الحاسوب بخلايا ذاكرته لكني لا أستطيع تجاوز هذه المقارنة البائسة بيني وبين الحاسوب بل أزدادا يقينا باستحالة تفسير واقعتي.

ولا يعني ذلك أني أرفض مثل هذه المقارنات بين عمل الإدراك الإنساني تبيينا وتبينا وعمل الحاسوب فهذا يساعد التقدم التقني في تجويد وظائف الحاسوب لكني لا أخاف من يوم يصبح فيه الحاسوب مثل الإنسان مبدعا للحواسيب التي لم يتوقعها الإنسان قبله ويكلفه بها. وتوهمه كتوهم الإنسان خالقا لنفسه.

لكن الحجج الأهم التي تجعلني أرفض الكلام هو ما يستند إليه دعواه الدفاع عن الدين بالحجج العقلية والوصول إلى تحديد العقائد الصحيحة. فهذا نفاق مطلق. ذلك أن من يؤمن بأن القرآن كلام الله لا يمكن أن يدعي أنه أقدر على صوغ العقائد أفضل من القرآن. وحتى لو اقتصر على تعليهما بأوضح منها.

ففي ذلك دعوتان تثبتان النفاق: فأن يحاول ذلك من ليس بمؤمن بالإسلام قد أفهم. لكن من يدعي أنه مؤمن به ويريد أن يقدم ما هو أبلغ من القرآن صوغا وأوضح من تعليم الرسول (السنة) تعليما لا يمكن ألا يكون غير صادق في أحد وجهي دعواه: الانطلاق من الإيمان والدفاع بالعقل. لا يمكن الجمع بينهما.

والجمع بينهما لا يتجاوز فنون الدعوة والتبشير بالنسبة إلى من أتصوره حسن النية في استعمال الحجاج للإقناع وليس للعلم. وهذا هو الفرق بين الكلام وبين ما أحاول القيام به: فتعاملي مع القرآن من جنس تعاملي مع أي موجود في الأعيان أبحث عن نظامه وقوانينه كما تتجلى فيه ولا اغيره ببديل منه.

نسبة العقائد الكلامية بالقياس إلى العقائد الواردة في القرآن لو تصرف الفيزيائي مع الطبيعة تصرفه مع القرآن لكان الفيزيائي يحاول اعتبار نظرياته بدائل من مجرى الطبيعة نفسه وليس علما بها ولصرنا الطبيعة التي صنعها الفيزيائي لا الطبيعة التي درسها. عقائد الكلام بدائل من عقائد القرآن.

ومن ثم فالكلام فلسفة منافقة. فالقول بعلمية الكلام ضميره الاستغناء عن الحاجة إلى الوحي. فإذا كان الغيب قابلا للقيس على الشهادة -حتى لو تحايلوا فسموه غائبا لا غيبا والفرق بين لان الغيب يمكن يصيح شاهدا لكن الغيب بمقتضى حده لا يكون من الشاهد في الدنيا-لم نعد بحاجة إلى الأنبياء.

وما يعجب له المرء هو سخافات القائلين بالاعتزال الجديدة وبالرشدية الجديدة بدعوى العقلانية والحداثة: فلا ابن رشد حديث ولا المعتزلة عقلانية. كلاهما متخلف حتى على أرسطو فضلا عن الإسلام والفكر الحديث. فأرسطو لم يقل أبدا إن الميتافيزيقا علم. وعقلانية المطابقة الساذجة لا تتطابق مع الإسلام.

فالعقلانية الساذجة تقول بالمطابقة ما يعني أن الإنسان يعلم الأشياء على ما هي عليه علما محيطا وهو مستحيل التصور إسلاميا وحتى فلسفيا. فالفلسفة تقدمت لما تحررت من هذا الوهم وأدركت أن علمنا نسبي إلى أبعد الحدود وأن ما للفكر الإنساني من فاعلية سرها الوعي بهذه النسبية شرطا في تقدمه.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي