لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
– الفصل الرابع –
أصبح الآن بوسعنا أن نجمع الأسئلة بصورة تمكن من الإيجاز بعد أن أطلنا القول في المسألتين الثالثة والرابعة. سنجمع ثلاث مسائل مترابطة هي الخامسة والسادسة والسابعة تحت عنوان واحد هو منهجية التشخيص والعلاج عند ابن تيمية للتعامل مع أزمتي العلوم العملية (اصول الفقه واصول التصوف) والعلوم النظرية (أصول الكلام واصول الفلسفة) وطبعا أصل الأصول أزمته هي علة الأزمتين الأخريين. وطبعا فليس قصدنا الكلام في فكره كلام علماء الدين. فهذا لا ندعيه ولا نهتم به. إنما كلامنا بداية وغاية هو ما يقتضيه الاختصاص الذي ندعيه ونحاول أن نحقق شروطه: كلام فلسفي في النواة الفلسفية لفكر ابن تيمية كما فعلنا مع أرسطو وديكارت وهيجل وابن خلدون والغزالي قبل ذلك. السؤال الخامس ما طبيعة العلاج التيمي: النقد التاريخي والنقد العلمي الجواب: بينا في السؤال الرابع أن ابن تيمية ينفي شروط علم الكلام العقلي وأنه يستعيض عنه بعلم كلام غير مسبوق يمكن تسميته بعلم الكلام التاريخي النصي: أي تاريخ أحداث الدين وتاريخ نصوصه المؤسسة وقراءاتها المتوالية بالعودة إلى الأحداث والنصوص الأصلية. ولهذا المنهج اسم جديد لم يكن موجودا في عصره يجمع بين فنين هما مضمون هذا العلم فن تاريخ الحدث الديني والنص الديني وفن فهمهما. لذلك كان ابن تيمية يجاري المتكلمين في مناقشته لهم بمنطقهم الكلامي المعتاد ثم يعود إلى منطلقه في الغاية ويبين أنه لا علم بالدين أحداثا وأحاديث إلا بالعلمين التاريخي والفيلولوجي والجمع بينهما بمعنى التأويل ليس بالمعنى الكلامي بل بالمعنى الهرمينوطيقي المتعلق: 1-بدلالة الحدث والحديث بأداتيهما التاريخية واللسانية في صلتهما بما يمكن أن نسميه 2-نظرية الإنسان المدرك لذاته في علاقتها بمتعاليات تضفي المعنى عن الوجود ومنزلته فيه. ويمكن رد حججه الحاسمة ضد علم الكلام العقلي إلى حجة وحيدة رد مسائل الكلام كلها إلى مسألة وحدية هي مسألة الصفات. فباقي مسائل الكلام توابع لها بوصفها المعضلة الأساسية في مسألة الكلام المركزية أي معرفة الله ذاتا وصفات. وكل معضلات الكلام مصدرها الصفات وطبيعة علاقتها بالذات: تاريخيا وبنيويا (لا يسمح المجال لإثبات هذه القضية). ولما كان ابن تيمية لا يسلم بإمكان علم الكلام العقلي (الالهيات الكلامية) وكان يستعيض عنه بعلم الكلام النقلي أي المتعمد على تاريخ الأحداث والنصوص فإنه يتحدى المتكلمين فيطالبهم بإثبات القدرة على الإبقاء حتى على ما ينزهونه من الصفات دون التشبيه الذي بمقتضى تجنبه يحاولون وضع عقائدهم التي يعتبرها مجانبة للقرآن والسنة في آن. فهم ينفون جل الصفات الواردة في القرآن والحديث من أجل إثبات التقديس والتنزيه معتبرين غيرهم حشويا وقائلا بالظاهر ومجسما. لكن ذلك يوجب طرد التقديس والتنزيه وإطلاقه:إذ إن أساسه قيس الشاهد على الغائب لانتخاب ما يحفظ وما يلغى من الصفات الواردة في القرآن والحديث بأداة التأويل. وبذلك يثبت ابن تيمية كل ما يصف به الله نفسه في القرآن مع شرط “ليس كمثله شيء”. وهم يرفضون الصفات التي يعتبرونها حشوية. والحجة التيمية هي: كل ما يبقي عليه أصحاب التقديس من نفاة الصفات كله لا يقع إلا بآلات في الشاهد. فكيف تقبلونها وتنفون الكلام مثلا بحجة الحاجة إلى الآلة؟ وإذن فإما قبول كل الصفات الواردة في القرآن مع شرط ” ليس كمثله شيء” أو رفضها جميعا لأنها جميعا مشروطة بآلات في الشاهد: لاعقل بلا دماغ وأعصاب مثلما أنه لا لغة بلا جهاز تصويت ولا فرق.. علينا بعد بيان امتناع علم الكلام العقلي أن نحلل القصد بعلم الكلام النقلي أو التاريخي الذي يقدمه ابن تيمية حلا ويمارسه فعلا أي إنه لم يقتصر على اقتراحه. ولا بد هنا لفهم الحل من تحديد مفهوم “النقل” الذي يساء فهمه بصورة لا يكاد يصدقها عاقل: فالنقل عند من لا يفهم معنى مقابلته للعقل مقصور على مضمون الوحي قرآنا كان أو سنة. لكن كلمة “النقل” في تقابلها مع كلمة العقل تعني فلسفيا-الوضعي أو الموجب أو- المعطى الذي ليس صادرا عن العقل سواء كان هذا المعطى من الوحي والتجربة الروحية أو من الوجود والتجربة الحسية. وبهذا المعنى ففكل العلوم الطبيعية مثلا رغم كونها عقلية لها بالضرورة مضمون نقلي هو المعطيات التجريبية وشكل عقلي هو البناء الرياضي لقوانينها. وهذه الخاصية يشترك فيها علم الكلام التاريخي والنصي: له مضمون نقلي وشكل عقلي هو الجوهر علوم أدواته (التاريخ والفيلولوجيا والهرمينوطيقا الاثنروبولوجية التي هي جمع بين الأولين: وسمية إنسانية=سيميوتكس إنسانية=دلالة الرموز الإنسانية) مثلما أن علوم الطبيعة مضمونها النقلي هو المعطيات القابلة للملاحظة وشكلها العقل هو علوم أدواتها (الرياضيات والمنطق والهرمينوطيقا الطبيعية التي هي جمع بين الأولين: سيميوتيكس طبيعية=دلالة الرموز الطبيعية). والنقل عندما نطبقه على علم الكلام بمعناه التاريخي والنصي عند ابن تيمية ينبغي أخذه بهذا المعنى الشامل أي المضمون الحدثي والنصي المباشرين من الدين والمعطيات التي وجه الدين إليها انتباه الإنسان لكي يعلم حقيقة النقل الديني: وقد جمعهما القرآن في كلمتين هما “في أنفسكم” و”في الآفاق” أي ما يتبين به الإنسان حقيقة ما جاء به القرآن. فيكون علم الكلام التاريخي والنصي أو النقلي بهذا المفهوم علما جديدا يعوض الإلهيات الكلامية والفلسفية في وظيفة تأسيس المعرفة بدرجتيها ويمكن تسميته بما بعد التاريخ: 1-معرفة الأنفس والآفاق أو علوم الإنسان (الأنفس) بأدواتها العقلية أي التاريخ واللسان وعلوم الطبيعة (الآفاق) بأدواتها العقلية أي الرياضيات والمنطق وهما الوحيدان اللذان يمثلان العلم عند ابن تيمية بعد تحديد جديد يجعلهما عديمي المضمون الوجودي. 2-معرفة الأحداث (تاريخ الوقائع) والنصوص (تاريخ الحديث عليها) الدينية المتعلقة بدرجة أسمى من الوجود الإنساني تنظيما للعيش المشترك (المعروف والمنكر) وشروط الحكم العادل (السياسة الشرعية) وتحقيق شروط التعاون والتبادل الآمن والتعاوض العادل. وقد جمع ابن خلدون في غاية قرن ابن تيمية هذا الفهم بصورة أكثر علمية من حيث الصوغ الفني أو الاصطلاحي فسمى المستويين باسم علمه المضاعف علم العمران البشري والاجتماع الإنساني: 1-العمران البشري (=تحقيق شروط العيش المشترك السياسية والاقتصادية من حيث العلاقة بالطبيعة مصدرا للقيام والعيش حتى يكون التعاون على سد الحاجات ممكنا) 2-الاجتماع الإنساني (تحقيق شروط العيش المشترك التربوية والثقافية من حيث العلاقة بين الناس أصلا للأنس وتحسين شروط العيش بفضل العلوم والتقنيات التي تساعد على سد الحاجات). وحصيلة هذا الانقلاب الفكري- وهو أمر قل ان تجد من يصدق أنه قد حصل في فكرنا وبصورة صريحة أعجب له شديد العجب ولمروره مرور الكرام دون أن يدري به المتفلسفون الذين تسكرهم زبيبة من نجومنا أصحاب المشاريع الفكرية- هي أن نظام الفكر الذي كان منذ الحقبة اليونانية أساسه ما بعد الطبيعة أصبح أساسه صراحة بعد هذين المفكرين ما بعد التاريخ. وهذه مسالة يصعب شرحها في هذه العجالة رغم شرحنا لها في غير موضع. لكنها هي المميز بين: 1-حقبتي التاريخ القديم والوسيط معا منذ أفلاطون وأرسطو. 2-حقبتي التاريخ الحديث وما بعده معا منذ ابن تيمية وابن خلدون. ولهذه العلة جمعنا بين هؤلاء الأعلام الأربعة في كتاب إصلاح العقل في الفلسفة العربية. فقد اصبحت الميتافيزيقا نفسها بعد ابن تيمية وابن خلدون وإلى الآن جزءا من الميتاتاريخ. فعلم العمران البشري والاجتماع الإنساني هو الذي يفسر لنا توالي الميتافيزيقيات بحسب مراحل نضوجه. وهذا يعد أكبر اكتشاف تيمي خلدوني بل هو الثورة الفلسفية الثانية بعد الثورة اليونانية. وقد غفل جل المثقفين العرب عنها فكان مآل فكرهم ا لتزحلق النجومي على سطح فكر الرجلين مكتفين بالكليشيهات السخفية التي وصفنا بعضها فيما سبق من هذا التلخيص. والآن يسهل أن نجيب بكلمات وجيزة عن السؤالين المواليين أي عن طبيعة الأزمتين أزمتي العلوم العملية والعلوم النظرية. السؤال السادس ما طبيعة أزمة الفنين العمليين: العلاقة بين الفقه والتصوف الأزمة بينة لأنها هي مدار الصراع بين الفقه والتصوف. ما ليس ببين هو تعليلها وبالتالي تعذر فهم السبيل الموصلة إلى طرق علاجها. فهي بلغتهم القديمة صراع ليس بين الفقه والتصوف عند أخذهما كما هما في حقيقتهما بل صراع بين التيارين المسيطرين على الساحة التيارين اللذين يقابلان بين ظاهر الشرع وباطنه مفصولين أحدهما عن الآخر كل منهما يقدم وجها ويترك الثاني ثم يتبادلان التهم فيسمي المتصوفُ الفقيه بكونه صاحب الرسوم قاصدا الشكل من دون مضمون مدعيا أنه يمثل الحقيقة في مقابل الرسوم. ويسمى الفقيهُ المتصوف إما بالمنافق أو بالمستهتر بالشريعة بدعوى تمثيل الحقيقة قاصدا المضمون مقابل الشكل. لكن الاسم المناسب بلغة فلسفية مطابقة لحقيقتهما الدينية وصلا بين وجهي حياة الإنسان ظاهرها وباطنها هو المقابلة بين قانون صوري يهمل المضمون الخلقي وأخلاق مضمونية تهمل الشكل القانوني. فتكون الأزمة هي أزمة البحث عن طبيعة العلاقة بين القانون والأخلاق في جماعة سوية حتى يكون فهم الدين بوصفه سياسة الدنيا مطية للآخرة فهما سليما. ذلك ما حاول ابن تيمة علاجه بصورة غير نسقية بسبب أحداث حياته واصبح عند ابن خلدون المسألة الجوهرية في مصنفه حول العمران البشري والاجتماع الإنساني. السؤال السابع ما طبيعة أزمة الفنين النظريين: العلاقة بين الكلام والفلسفة وهنا كذلك الأزمة بينة لأنها مدار الصراع بين الكلام والفلسفة. وهنا أيضا ما ليس ببين هو تعليلها ومن ثم سبل الوصول إلى مناهج علاجها. فهي باللغة السائدة حينئذ ليست صراعا بين طريقي الوصول إلى الحقيقة بل هي صراع بين انحرافين يجانبان الصواب في طلبها أي بين العقد المقصور على الظاهر والعقد المقصور على الباطن, لكأن الوحي مجرد إيديولوجيا شعبية النبهاء من المتكلمين والفلاسفة يدركون ما وراءها من حقائق وبمقتضاها يتأولون نصوص الدين وأحداثه. والفرق الوحيد بين المتكلمين والفلاسفة هو درجة البعد بين الباطن والظاهر أو مقدار الحاجة إلى التأويل وتصنيف العقول بدرجاتها التي أصبحت مضغة في أدبيات الجابري رحمه الله. ولهذه العلة فإن غاية الكلام العقلي هي الفلسفة التي لا تصحح الكلام من حيث الموقف بل من حيث المنهج والقدرة على تحقيق ما يطلبه الموقف لا غير. فهي توافقه على أن باطن الدين هو العقلي وظاهره إيديولوجيا شعبية: لكأن الأنبياء سياسيون يكذبون على الشعب لسوقه سوق الأنعام. لكن الفلاسفة ينفون عن المتكلمين نفي الباطنية على السنة القدرة على الوصول إلى هذا الباطن، لأن أصحابه ليسوا من أهل البرهان. وهذا العرض يكاد يكون ملخصا لغاية الموقف الفلسفي من الموقف الكلامي كما عرضه ابن رشد في كتابه مناهج الأدلة الذي علق عليه ابن تيمية بخطه والذي يمثل الخيط الواصل وصلا ماديا بينهما فضلا عن كون الرد على المنطقيين كان منطلقه حواراته مع الرشديين في الاسكندرية. والتعليل الذي يبين اكتشاف ابن تيمية لحقيقة الأزمة ومن الانتباه إلى طرق علاجها هو غموض العلاقة بين العلم والإيمان. وبلغة حديثة فهو دون أن يسمى ذلك كذلك قد اكتشف ما يمكن أن نسميه بطبيعة العلاقة بين بعد الابستميك من المعرفة (درجات العقد المعرفي) وبعد الابستمولوجيك منها (الدرجة التي تسمى معرفة موضوعية لأنها تواضعية). فمواضعة العلماء على مصفوفة من القواعد تحدد درجة العقد التي بتحققها في نتائج المعرفة يتحقق ما يمكّن من وصفها بكونها علما لا ينبغي إطلاقها بصورة تجعلها حقيقة مطلقة تقابل بها درجات الإيمان بالمعنى الديني وكأنها منافس لها: ومعنى ذلك أن نفي ابن تيمية لمعيار الحقيقة المطابقة الذي ينتج عن وهم العلم بالاشياء على ما هي عليه جعله يدرك أن الابستمولوجيك ليس إلا درجة من الابتسميك تواضع العلماء على اعتبارها علما موضوعيا يحقق المطابقة بين العلم والمعلوم. وما هي إلا مواضعة إذا أطلقت جعلت الإنسان مقياس كل شيء فتحول العلم إلى سفسطة. لكن المجالين مختلفان تماما: فالتصديق العلمي ذريعي بالأساس والتصديق الإيماني وجودي بالأساس بمعنى أنه هو الذي على وجود الإنسان معناه ولا يكتفي بسد حاجاته المعرفة سواء كان نظرية خالصة أو ساعية إلى تحقيق غاية تطبيقية. فيكون المشكل هو كيفية تحديد المعايير العلمية التي تحقق الغرض منها دون أن تتحول إلى منافس لمعايير الإيمان التي تتعلق بمستوى وجودي أسمى من دونه لا معنى للحياة ذاتها فضلا عن مجالات نشاطها المعرفي وغاياته. وبلغة بسيطة فالمعرفة العلمية مهما بلغت من القيمة لا تتجاوز قيمة العبادة السامية التي هي عرفان بمعنى ما للوجود ولصاحب الجود في خدمة ما خُص به الإنسان من مهام بوصفه مكلفا يسأل عنها في دنياه وفي أخراه. ومن ثم فالأزمة النظرية هي أزمة معان ورتب بين أنشطة الإنسان من حيث هو كائن جوهر وعيه علاقة بالمطلق بما هو حقيقة (معرفة) وبما هو جمال (ذوق) وبما هو خير (أخلاق) وبما هو شارع (حرية) وبما هو مثال أعلى (جلال) وأخيرا بما هو الواجد الذي ليس لحياة الإنسان من معنى من دون الاشرئباب إلى التشبه بصفاته الذاتية الخمس (وجود): الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود وإن بدرجات نسبية ينقصها الإطلاق الذي لها باعتبارها صفات الذات الإلهية. وأخيرا فإني أعلم بكل أسف أن الكثير سيعتبر هذا الكلام عسيرا على الفهم. لكن ما باليد حيلة: يحق لم يشاء أن يتهم من يشاء بما يشاء إذا كان فاقدا للقدرة على النقد الذاتي فيبدأ باتهام نفسه لعلها قد قصرت في التعلم الصبور لفهم دقائق الأمور وتقديرها التقدير الذي يكون علمها به جدير.
الكتيب