لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
– الفصل الثاني –
اعتذار:
(كنا نتصور أن الجمع بين الأسئلة ممكن وأنه سيمكن من الحد من طول التلخيص. لكن الأمر تبين ممتنعا لدسامة المادة ما كان سيجعل كل جواب مضاعف طويلا ايضا. لذلك فضلنا الاقتصار على السؤال الثالث بمفرده: خاصة والقراء لا يحبذون المطولات. وقد نعود إلى الجمع في الأسئلة الموالية إن أمكن. ولهذه العلة لم نشر إلى العدد الجملي لما ستؤول إليه محاولة التلخيص)
السؤال الثالث
ما طبيعة الإشكالية الواحدة في معارك ابن تيمية الفكرية
تمهيد:
نميز في معارك ابن تيمية بين نوعين. فنسمي النوع الأول معارك فعلية تلك المعارك التي شارك فيها ابن تيمية بفعله وليس بفكره وكتاباته. وهي طبعا من ثمرات فكره وكتاباته. وأهمها جهاده واجتهاده الموقفي والفعلي في تحديد انحيازاته التاريخية. ويكفي أن نقول عنها إنها إذا قيست بما نعيش اليوم تقبل الوصف بكونها ميالة لصف الثوار منها لصف الثورة المضادة داخليا ولصف الأمة منها لصف أعدائها في عصره. وهؤلاء الأعداء يكاد صفهم لم يتغير: الباطنية والطائفية في الداخل وبقايا الصليبية الأوروبية وبربرية مغول الغرب (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقا والروسي حاليا). ولا فائدة من أكثر من هذه الإشارات.
ولنأت إلى معارك ابن تيمية الفكرية التي هي معارك تجاوز فيها الوجه الجدلي الناتج عن الخصام الإيديولوجي إلى ما بعده التأسيسي فعالجها علاجا نظريا فلسفيا. فهذه المعارك تقبل الرد إلى ما ترد إليه أهم مباحث الفكر الإسلامي النظرية (علمان) والعملية (علمان) والمؤسسة لهما (علم واحد معقد جدا) عند تصنيفها تصنيفا عقليا جامعا مانعا إذا اقتصرنا على مناطق المعرفة ولم ننظر في موضوعاتها الجزئية التي تتبع هذه المجالات سواء تعلقت بالطبيعة أو بالشريعة أو بأدواتهما المنهجية لذاتها مثل علوم اللغة والتاريخ للثانية وعلوم الرياضيات والمنطق للأولى:
1-معارك المباحث الفقهية (العلم العملي الأول):
في نظرية اللسان المحررة من خرافة المقابلة بين الحقيقة والمجاز بالمعنى الكلامي وكيف يمكن الاستغناء عنها بنظرية جديدة في اللغة تجعل دلالات اللغة استعمالية ولعل الموقف الأصح أنها كلها مجازية بمعنى أنها دلالة الدليل اللساني تحكمية يحددها الاستعمال والعادة وليست حقيقة الأشياء المسماة بأسماء بعينها.
في نظرية التطبيق الفقهي لمصدري التشريع (القرآن والسنة) ولنوعي التعامل معهما (الاجماع والاجتهاد) دون التقيد بتقاليد المذاهب التي صارت بديلا من المصدرين والتعاملين ومن بقاء النصين المرجعين حيين دائما ومصدرا مباشرا لئلا يتحول الاجتهاد السابق من سابقة تطبيقية إلى تشريع من جنس التشريع الأصلي.
2-معارك المباحث الصوفية (العلم العملي الثاني):
ولا ينبغي حصرها في مواقفه من متصوفة عصره وخاصة من متحيل دمشق شارح مدارج السالكين للهروي بمنطلق وحدة الوجود (التلمساني) الذي رد عليه تلميذه بدحض شرحه أو من ابن عربي وغيره. فما يعنينا هو ما يمكن رده بمصطلح ابن خلدون في شفاء السائل إلى التمييز بين المجاهدتين المشروعتين عقلا ونقلا أعني مجاهدتي التقوى والاستقامة وبيان أوهام ودعاوى الكشف القصدي الذي ينتهي إلى ما يخفي نقيضيهما أعني التقية بدل التقوى والنفاق بدل الاستقامة. فيصبح التصوف المنحرف في غايته ما يسمى بالتصوف الفلسفي القائل بوحدة الوجود والنافي للغيب بوهم العلم اللدني المتجاوز لعلم الأنبياء والمؤسس للكنسية الصوفية ولعبادة الوسطاء أحياء كانوا أو أمواتا.
وهم يحاولون تأسيس ذلك على تأويل ما أتى الله به من سلطان لقصة الرجل الصالح الذي أصبح يسمى الخضر. والمعلوم أن مواقف الرجل الصالح الثلاث التي تظن ثمرة لعلم لدني ليست إلا فراسة وتجربة. ولا شيء فيها يثبت علما متجاوزا للوحي بل بالعكس هي تبين حاجة صاحب الوحي للمعرفة العادية (لذلك نجد القرآن يقرن دائما بين الكتاب والحكم والنبوة). فحالة قتل الابن المفترض عاقا لوالديه فراسة من قبل الرجل الصالح. والحالتان الأخريان: ثقب المركب وترميم الجدار معرفة سابقة بما يجري في ذلك البلد كان ذهن موسى عليه السلام خاليا منها. وإذن فالأمر لا يتعلق بعلم لدني إلا في وهم أصحاب أسطورة الخضر. إنما القصد المحتمل هو أن النبي بحاجة إلى “الحكم” بمقتضى العلم العادي المشترك بين البشر لسياسة الدنيا.
3-معارك المباحث الكلامية (العلم النظري الأول):
وهذه هي التي يغلب اللغو واللغط حولها. فالكثير يناقش ابن تيمية معتبرا إياه متكلما بالمعنى التقليدي للكلمة. وقد يكون لردوده على المتكلمين بمنطقهم ما يوحي بأنه واحد منهم وإن كان أقوى حجة. فلجوؤه لإفحام الخصوم بمنطقهم قد يوهم أصحاب العجلة في الحكم إلى أنه متكلم. لكنه في الحقيقة ينفي شروط إمكان الكلام الفلسفي أو العقلي ولا يقول إلا بالكلام التاريخي النصي: تاريخي بمعنى أحداث النبوات والتجارب الحاصلة فعلا والنصي بمعنى القرآن والسنة وحتى الكتابين السابقين اللذين يقرهما ابن تيمية فيما يقرهمها عليه القرآن الكريم أعني في كل ما لم يصححهما فيه استنادا إلى مبدأ التصديق والهيمنة.
وثورته فضلا عن تجاوزه المتكلين في فنهم رغم كونه ينكر عليه العلمية والمتانة المنطقية ورغم كونه من أعلم مؤرخي الفكر الكلامي ربما على الإطلاق فإنه لا يعتد به ويهتم خاصة بنوع جديد من علم الكلام التاريخي النصي وبما يتصل به من بدايات أو إرهاصات الأدوات المنطقية التي تعالجه أعني تاريخ النص وفيلولوجاه شرطي التأويل ليس بالمعنى الكلامي وليس بمعنى التطبيق على تاريخ الأحداث والنصوص. والشواهد في ذلك كثيرة بصورة عرضية في جل مصنفاته ويكفي شاهدين مخصصين للرد على رمزين دالين في الساحة الكلامية:
أحدهما في الرد على ممثل المذهب الأكثر تمثيلا للتشيع في عصره أي المطهري في منهاج السنة: الجزء الأساس من الكلام الشيعي إضافة إلى المأخوذ عن البهشمية هو الكلام في منهاج الإمامة.
والثاني في الرد على ممثل المذهب الأكثر تمثيلا للتسنن في عصره أي الرازي في الدرء ردا على معيار التأويل وفي التلبيس ردا على أساس التقديس الذي يقبل الرد إلى ما يشبه إلهيات السلب.
وسنرى في الجواب عن السؤال الخامس المتعلق بمنهجي النقد التاريخي والنقد العلمي الأكاديمي كيف أن ابن تيمية يتجاوز الحجاج بمنطق علم الكلام رغم إفحامهما به إلى النقاش المعرفي الموضوعي بالاستناد إلى النقد التاريخي للأحداث والنصوص والنقد العلمي لطرق التعامل معهما من قبل الذين يحاورهم ليدحض حججهم ليس بالتشقيق اللفظي والمهارب البيزنطية الكلامية بل بوقائع التاريخ ومعطيات الظاهرة التي يدور عليها الكلام سواء كانت حدثا أو نصا أو علاقة بينهما فضلا عن النفاذ الحدسي العجيب للمعاني التي لدقتها لا ينالها إلا قلة من العقول المتميزة.
4-معارك المباحث الفلسفية (العلم النظري الثاني):
وهذه المعارك لم تكن مباشرة أبدا. فهي إما ضمن الفنين السابقين (الكلام والتصوف) أو ضمن فن المنطق وأساسه الميتافزيقي. ومعنى ذلك أن ابن تيمية كان شديد الدراية بالطابع المابعدي للفلسفة أعني أنه لا يعتبرها علما بل ما بعد علم إما دخيلا في علوم الملة مثل التصوف والكلام أو في علوم النظر بأصنافها الثلاثة (إلهيات ورياضيات وطبيعيات) وعلوم العمل بأصنافها الثلاثة (السياسيات والأخلاقيات والاقتصاديات).
ويتبين ذلك خاصة من كلامه في المنطق. فهو لا يناقشه منطقيا فحسب بل وكذلك بمقتضى ما يترتب عليه في رؤية الوجود والعالم ومن ثم بمقتضى ما يؤسسه ويؤسس ما يجعله مؤديا إلى ما يترتب عليه. مثال ذلك أنه يبين أن المنطق بأساسه الميتافيزيقي الموروث عن أفلاطون وأرسطو يؤدي حتما إلى جعل الإنسان مقياس كل شيء. ذلك أن ظن علم الإنسان بالوجود على ما هو عليه ومن ثم مطابقا له مطلق المطابقة يجعل العلم مقياس الوجود بدلا العكس.
وإذن فمعيار المطابقة والظن أن الإنسان يعلم الأشياء على ما هي عليه-وكلاهما لا يصح إلى على علم مطلق كعلم الله مثلا- يلغيان ما به يتجاوز الوجود العلم معرفيا (والشاهد الغيب دينيا) بسبب جعل الإنسان مقياس الوجود. ويسمي ابن خلدون ذلك رد الوجود إلى الإدراك: وهذا الموقف هو بداية تأسيس مفهوم النقد بالمعنى الحديث لمن يفهم هذا المفهوم. لذلك اعتبر ابن تيمية علم ا لمنطق بميتافيزيقاه التي كان عليها لا يمكن أن يترك مجالا للعلم الحقيقي ولا للأخلاق الحقيقية: فهو يطلق النسبي ويحول دون شرط الفعل الحر وذلك معنى قصده في قوله إن المنطق يؤسس السفسطة في النظريات (الإنسان مقياس) والزندقة في العمليات (لا مجال لما يتجاوز الضرورة ومن ثم فلا حرية تؤسس للفعل الخلقي).
وتلك هي علة إعادة تأسيس المنطق على ميتافيزيقا جديدة تمكن من تأسيس العلم النظري بالتحرر من السفسطة والعلم العملي بالتحرر من الزندقة أي دون أن تجعل الإنسان مقياس كل شي. وطبعا فالسخفاء من المتكلمين في ابن تيمية يقتصرون على كليشي : “من تمنطق فقد تزندق” ليبرزوا ثوريتهم وحداثتهم المكذوبة ويغفلون كل هذا التحليل التيمي العميق لأنهم عاجزون فهمه حتى لو أقدموا على القراءة المتأنية والصبر: لم يتواصوا بالحق ولم يتواصوا بالصبر.
5- مباحث العلم المؤسس لصنفي العلوم بفرعيهما:
أما معارك المباحث في العلم الجامع فتتعلق بالأصل الواحد لكل هذه المباحث أعني ما يجعل هذه المباحث تكون مقومة لحضارة معينة في لحظة من لحظات تكوينيتها. وهذه المباحث الجامعة من حيث الطبيعة واحدة في كل الحضارات. لكنها متعددة تعدد المضمونات العينية والمراحل التاريخية. وحتى يفهم القارئ دقة هذا المفهوم فلنضرب مثال اللغة. فكل البشر ناطقون. ومن ثم فاللغة ظاهرة كونية. لكن كل لغة تعين من الظاهرة الكونية اللغوية: وكونية اللغة تجعل كل اللغات مشتركة في ما به سميت لغة ومختلفة بمادتها وبكيفية التناظر بين مادتها وما تعبر عنه من التجارب التي هي محكومة بالمضامين والمراحل.
وهذا ينطبق على “القصة المؤسسة للحضارة أو النص المقدس”. فكل الحضارات لها نص مقدس أو قصة مؤسسة. وكل الحضارات لا تفهم ذاتها ولا وجودها إلا من خلال نوع العلاقة التي بين هذا النص والتجارب التي تعيشها والظاهرات والوقائع التي تحاول التعامل معها. وفي حالتنا نحن فالأمر يتعلق بالقرآن الكريم وبتفسيره الأول أو السنة الشريفة: فكل ما أسلفنا في الفنون الأربعة الاثنين العمليين (الفقه والتصوف) والاثنين النظريين (الكلام والفلسفة) كلها محاولات لفهم معنى الوجود بهما ولفهمهما بمعنى الوجود.
ومن ثم فالمعارك السابقة جميعها تستمد معناها أي طبيعة الإشكال فيها و”مصفوفة” الحلول الممكنة من هذه العلاقة ذات الاتجاهين لكأن النص والتجارب الحضارية تراء مضاعف بين مرآتين أو سطحين صقيلين أحيانا ومشوبين بما يكدرهما في غالب الأحيان. لذلك فالمعارك المتعلقة بهذا العنصر الخامس المؤسس هي معارك الصقل للمرآتين متبادلتي التعاكس. ولعل أفصل صاقل وصائغ في تاريخنا كان هذا الرجل العظيم الذي انبهرت به بعد ما أوصلني إليه جواب ابن خلدون على أحد سؤاليه: النقل الصحيح بوضع علم ما بعد التاريخ المتحرر من الخرافة والتنجيم اللذين كانا سائدين وأجاب هو على السؤال الأعمق أعني العقل الصريح كما سنرى لاحقا بوضع ما بعد المنطق المتحرر من ميتافيزيقا تجعل الإنسان مقياس الأشياء.
الكتيب