لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
– الفصل الثالث –
جواب السؤال الرابع
ما طبيعة تشخيص ابن تيمية لأزمة الحضارة انطلاقا من الغزالي؟
اعتذرنا عن الإسهاب في كلامنا على ابن تيمية. وسكتنا عن الإيجاز في كلامنا على ابن خلدون قبله. لكن الأمرين يبدوان قابلين للفهم من منطلق علاقة فكريهما بما بعدهما:
فابن خلدون ظلم مرة واحدة أعني أنه ظلم بقراءاته. لكنه نجا من استعمال حركات سياسية ذات تأثير فعلي في التاريخ. فلم يتهم بما اتهمت به.
وابن تيمية ظلم مرتـيـن أعني أنه ظلم بقراءاته وبتحميله مسؤولية حركات ذات تأثير فعلي في التاريخ استعملت فكره فشوهته.
لذلك أوجزنا في الأول واضطررنا لشيء من الإطالة في الثاني.
ولنعد بعد هذا التوضيح إلى سؤالنا الرابع.
حددنا في جواب السؤال الثالث معارك ابن تيمية الفكرية بأصنافها الخمسة (أصول الفقه وأصول التصوف وأصول الكلام وأصول الفلسفة وأصل الاصول أو علاقة النص المؤسس بهذه الأصناف المتفرعة عنه تحديدا للعلاقة المتبادلة بين النص المؤسس ومعاني الوجود) مع بيان أهم ما يمكن أن ينسب إليه من إبداعات ثورية مثلت بداية التجاوز الفعلي للفكر القديم (ملخصا في صورته اليونانية) والوسيط (ملخصا في صورته الإسلامية قبله).
ولعله من المفيد أن نعذر مشوهي فكر ابن تيمية وابن خلدون من قرائهما بغير قصد وحتى بقصد. فكل عمل مبدع شديد العمق بالضرورة. ومن ثم فالنفاذ إليه يتطلب توالي المحاولات لتوالي الحفر الباحث عن منبع الماء وذلك بنبط بئر التراث الفكري نبطا تراكميا. وفي هذا المضمار يندرج مسعانا للوصل بين إبداعات الرجل وصلتها بعملاق سابق حدد جوهر الازمة التي تعاني منها الحضارة الإسلامية قصدت حجة الإسلام أبا حامد الغزالي: فتشخيص ابن تيمية الذي نريد الكلام فيه الآن ينطلق من فشل تشخيص أبي حامد أو بصورة أدق من فشل العلاج الذي اقترحه (ونفس الأمر يمكن أن يقال عن تشخيص ابن خلدون ولكن ليس منطلق تهافت الفلاسفة بل من منطلق فضائح الباطنية). فلما تقرأ مقدمات تهافت الفلاسفة الأربع تجد أساسين هما جوهر ثورة حجة الإسلام المنسية. وهذان الاساسان ينفيان كل ما قيل عما ينسب إليه من كونه مؤسس الانحطاط الإسلامي وعدو الفلسفة الأول في حين أنه في الحقيقة مؤسس منطلقها الجديد كما تعين عند ابن تيمية في النظر وعند ابن خلدون في العمل:
الأساس الأول:
يتعلق بدافع كتابة تهافت الفلاسفة المباشر والأساسي. فدافعه كان ما لاحظه من سلوك المتجملين بكليشهات الفكر الفلسفي وقشوره وخاصة من موقفهم من الدين والأخلاق بحجة مفادها أن الدين والأخلاق لو كانا حقيقيين لكان الفلاسفة أولى الناس بمعرفتهما لما عرفوا به من علم وحصافة. وحتى يتظاهر هؤلاء المتجملون بالتفلسف والعلم العقلي لبابتهم يقفون هذا الموقف المستهتر بالأديان: ولعل هذا الوصف الذي انطلق منه الغزالي أكثر صحة في عصرنا فجل أدعياء الحداثة منطلقهم التقليد البليد لمن لم يفهم القدامة ولا الحداثة إذ جلهم من أرباع المثقفين.
الأساس الثاني:
وليس هنا محل الكلام في هذا. لكن الوضع الحالي يكاد يطابق مطابقة تامة الوضع الذي فرض على الغزالي كتابة التهافت دافعا وغاية خاصة وابن تيمية حاضر في أحداث العالم الإسلامي بحضور الجماعات التي تدعي تمثيل فكره والجماعات التي تدعي التصدي لفكره: وكلتاهما أبعد ما تكون عن النفاذ إلى أساسيات إبداعاته. فلنعد إذن إلى هذه الإبداعات التي تعنينا في هذا التلخيص. فإلى حد الآن كان حل حجة الإسلام حلا لا يمكن أن يرفضه ابن تيمية أي إنه يقبل العلة المحركة والعلة الغائية. لكنه يعتقد أن الحلول التي ذهب إليها الغزالي كانت قاصرة وخاصة فيما تعلق منها بالعلة الغائية لكتابتها: ومعنى ذلك أن التمييز بين العلمي واللاعلمي لم يكن تمييزا ذا تأسيس فلسفي يضاهي التأسيس السابق لعدم التمييز بينهما ما جعل الغزالي يعود إلى نفس الموقف القديم فلم يتجاوز علاجه الاقتصار على ترميمين قاصرين:
ترميم عملي يمكن من علاج ظاهر للصدام بين الموقفين العمليين الفقهي والصوفي بتبني “دوزة” صوفية في إحياء علوم الدين وفي مصنفاته ذات الميل الصوفي.
ترميم نظري يمكن من علاج ظاهر الصدام بين الموقفين النظريين الكلامي والفلسفي بتبني “دوزة” فلسفية تدخل المنطق في علم الكلام وحتى في الفقه.
ولما كان المنطق والتصوف على ما كانا عليه يضمران الميتافيزيقا القائلة بنظرية الحقيقة المطابقة في الحقيقة النظرية التي تجعل العقل الإنساني مدعيا “العلم بالأشياء على ما هي عليه” فهما إذن يفترضان أن الإنسان مقياس كل شيء وهما في الغاية يتأسسان ضمنيا على موقف سفسطائي في النظر وزنديقي في العمل:
1-أي جعل الإنسان مقياس كل شيء إطلاقا لأحكامه في النظر (الضرورة الطبيعية)
2-وجعله مقياسا يطلق تقويمه في العمل (النفعية الطبيعية أو سلطان الأقوى).
وبذلك بات التشخيص التيمي متمما لتشخيص حجة الإسلام من حيث المنطلقات مع تجذير للحلول علته إدراك الترابط الوثيق بين نظرية الحقيقة والوجود والمنطق والأخلاق الفلسفيين. فاعتبار الطبائع أصل الشرائع بدل العكس يلغي الدين من أصله وتصبح فلسفة الأخلاق والتاريخ راجعة إلى النظرة التي تستند إليها جمهورية أفلاطون وملة الفارابي. فالعلم تقنية إنسانية والعمل ذرائع انسانية إذا اقتصرا على الطبائع أي على ما لا يتعالى عنها ردا إياهما إلى القانونين المستعملين في الفلسفة والكلام وفي التصوف والفقه أعني:
قياس الشاهد على الغائب نفيا للغيب وزعما بشفافية الوجود وإطلاق العقل مصدرا وحيدا للمعرفة مغنيا عما عداه.
تأويل ما يخالف بع النقل العقل نفيا لتعالي الوحي وإطلاق لأحكام معرفة تزعم علما بالأشياء على ما هي عليه لكأنه العلم المطلق.
وبذلك يصبح المشكل المضاعف:
1- كيف نؤسس النظر بصورة تحقق إمكان العلم وتعالي الإيمان: وذلك هو أهم مجال أبدع فيه ابن تيمية ما بعد علم جديد يمكن من التحرر من الميتافيزيقا التقليدية كما سنرى.
2-كيف نؤسس العمل بصورة تحقق إمكان القانون وتعالي الأخلاق: وذلك هو المجال الثاني المؤسس على المجال الأول لأن الحد من إطلاق العلم النظري شرط ضروري للحرية.
وإذن فهذان التعاليان هما شرطا تأسيس الحرية والشرائع ومن ثم فهما تجاوز الاقتصار على عالم الربوبية والضرورة والبلوغ إلى عالم الألوهية والحرية. وذلك ما سنحاول بيانه في المراحل الموالية.
الكتيب