لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهفكر ابن تيمية الاصلاحي
الخاتمة
وقد فضلنا استكمالا لبيان موقف ابن تيمية من التأويل ان نختم هذه المحاولة بالإشارة إلى نسق المذاهب التأويلية في الفكر العربي الإسلامي لكون جل الدجالين اليوم يتذرعون بالتأويل وبأفكار ما بعد الحداثة للتخلص من الكلي بالمعنى الذي حدده الدين الإسلامي حيث يلتقي الدين المنزل الأسمى والدين الطبيعي الأرفع أعني ما يتوصل إليه اعتبار العالم الطبيعي واعتبار العالم الخلقي من إدراك للكلي الإنساني الذي يعبر عن الشهود, إدراك يتجاوز الأفق الحضاري الخصوصي إلى الكلي الفطري الذي تشترك فيه جميع الكائنات وليس البشر وحدهم. وإذا بالمذاهب التأويلية تنتهي إلى إعادة الدين إلى مفهومه التوراتي الإنجيلي أعني الدين القومي فيصبح الإسلام مجرد خصوصية ثقافية للمسلمين.
لكن بيان التساند المتبادل بين التحليل والتأويل في نظرية العلم الجديدة التي نجد بذراتها المشتتة في أعمال ابن تيميه يجعل الحديث عن المجاز والتأويل بمبتذلات من يبحث عن الزعامة الفكرية من نخب متقحمة ليس لها صلة بمجال الفلسفة والمنطق بالتجني على القيم الإسلامية حديثا أجوف لا فائدة منه عقديا وهو متخلف فلسفيا ومن حيث نظرية اللغة.: وأغلبهم من خريجي آداب أو من فروعها التي يسمونها الحضارة (أركون وحامد أبي زيد والشرفي إلخ.. ممن هم دونهم دراية بالفكر الحديث لتخرجهم من مدارس تقليدية ما تزال تمضغ بيزنطيات علم الكلام الوسيط).
فاستثمار العلاقة بين هاتين المسألتين اللتين آلت إليهما كل مآزق فكرنا الوسيط والحالي استثمارا فلسفيا يقتضي أن نحصي في غاية هذه المحاولة أشكال التأويل التي طغت في فكرنا الفلسفي والكلامي والصوفي وما أغفلته من نظرية اللسان وصلتها بنظرية العلم في اللحظتين اللتين تتألف منهما الفلسفة العربية الوسيطة والحالية.
فكل الرموز لها استعمالات متعددة من التحكم اعتبار بعضها حقيقة وبعضها مجازا. وأقصى ما يمكن قوله هو إن بعض الاستعمالات عرف قبل غيره فعد أولا وبضعه الآخر عرف بعده فعد مشتقا منه وكلاهما يرد إلى تحكم التسمية الأولى وما يشتق منها. فيؤول الأمر إلى تاريخ الاستعمالات وانتخاب العلاقة بين دال معين ودلالة معينة تعبتر دلالته الأولى في الاستعمال وليس في الشرف فتكون حقيقة وغيرها مجازا. لا علاقة للأمر بالمقابلة بين الحقيقة والمجاز، خاصة وتاريخ الاستعمال يمكن أن يكون معلوما وقد يكون مجهولا لكون تطور الاستعمال المعدود أولا ينتج عنه استعمالات أخرى لمسمياتها وجه شبه ما أو علاقة ما مع مسمياته. ويكون ذلك في الأغلب نقلة مما يقبل التمثيل الرسمي مباشرة (أي ما يرسم فعلا أو افتراضا) إلى ما لا يقبله لكونه كثير التجريد أو مما يقبل التمثيل النغمي مباشرة (أي ما يصوت فعلا أو افتراضا) إلى ما لا يقبله لكونه كثير التعقيد وتكون النقلة في كل الأحوال متضمنة القرائن التي تفيد بصورة بينه المقصود في كل حالة بعينها بحسب قوانين تحديد معاني الاستعمالات الخاصة بتلك اللغة طبيعية كانت اللغة أو صناعية: وكل ذلك يجري في الإفادة الرمزية أو في الآليات اللسانية ولا علاقة له بحقيقة في حال ومجاز في حال إلا إذا جوهرنا الآليات اللسانية واعتبرنا ما يجري فيها عاكسا لما يجري في وجود نتصوره ذا مقولات من جنسه وذلك هو أساس الميتافيزيقا التي يريد ابن تيميه أن يخلص الفكر الإنساني منها إما لأنها أسقاط لبنية اللسان على الكيان أو لأنها توهم التطابق بين قوانين الإدراك الإنساني وحقائق الوجود فتكون :
ردا للوجود إلى الإدراك كما قال ابن خلدون للتسليم بأنه الوجود شفاف وبأن العقل نافذ لكل ما فيه ومن ثم فلا شيء يتجاوز الإدراك الإنساني نفيا للغيب.
أو عودة إلى نظرية الإنسان مقياس كل شيء الموجود بما هو موجود والمعدوم بما هو معدوم (التعريف الفني لأساس الخطاب السوفسطائي) بلغة ابن تيمية..
وهذه الآليات التي يمكن أن نطلق عليها اسم آليات التسمية أو خيال التسمية آليات عامة تشمل اللسان الإنساني عامة. وتستعمل منها لغة العلم بعض الحدود الغائية فتطلقها وتسميها منطقا تمييزا للحقيقة عن المجاز بتأسيس ميتافيزيقي بين. فالحدث اللساني التصويتي صلته بمسماه المعتبر أولا حسب ترتيب عادات القوم اللغوية يعتمد على الربط التواردي بين الصوت والصورة وهو ربط يكون عادة من جنس الردود الشرطية فيكون أقرب إلى آليات الكناية لعدم وجود الشبه بين الصوت الذي تؤخذ منه الأسماء والأمور التي تؤخذ منها المسميات والاقتصار على شبه علاقة علية بين المؤثر الذي هو الترابط الشرطي بين القول المسمي والأمر المسمى لتصاحبهما في المكان والزمان تصاحبهما الذي يربط بينهما ربطا شرطيا مثلما نلاحظ ذلك في آليات تعلم اللسان القومي عند الأطفال أو في آليات تعلم اللغات الأجنبية بالنسبة إلى الكبار: وهما المجالان اللذان يكثر ابن تيميه من استمداد الأمثلة منهما في حل معضلات نظرية اللغة والعلم اللذين يعدان عنده من نفس الطبيعة وخاصة من حيث قدرتهما على قول تجربتنا عن الوجود.
لكن عدم العلم بهذه النظرية التي تؤيدها البحوث اللسانية والعلاماتية والمنطقية الحديثة أدى إلى نظرية في التأويل تخلط بين التصورات ولا تحدد الظاهرة تحديدا علميا. ويمكن ختم هذه المقالة بفائدة عامة تساعد على تنظيم فهمنا لهذه الإشكالية في فكرنا العربي الإسلامي لكونها تخلصه من الخلط والفوضى المفهومة يبين أن مفهوم التأويل في الفكر العربي الإسلامي يقبل الحصر بين حدين:
1- أدنى هو التقدير في اللغة وهو نظرية تبحث عن البنية العميقة للتفسير البنية السطحية من خلال استخراج المضمرات فيها.
2-وأقصى هو التحكم الباطني في سعي الفرق الغالية إلى تعويض معاني النص التي وصفوها بكونها ظاهرة بمعتقداتهم التي وصفوها بكونها معانيه الباطنة.
وبين هذين الحدين نجد:
3-التأويل بمعناه الأشعري الذي هو أميل إلى الحد الأدنى.
4-والتأويل بمعناه المعتزلي الذي هو أميل إلى الحد الأقصى.
5-والحل الذي اختاره ابن تيميه لا يتعلق بأي من هذه المعاني الأربعة التي يعتبرها كلها صادرة عن أصل أعمق هو أساسها جميعا أساسها الذي تمثلت ثورته في تحديده ونقده: إنه نظرية اللسان الفلسفية المبنية على الخلط بين خصائص اللغة الصناعية المستندة إلى الميتافيزيقا وخصائص اللسان الطبيعي.
ففي اللغة الفلسفية التي تعتمدها الميتافيزيقا تعد المقابلة بين الحقيقة والمجاز في اللسان مجرد ترجمة لسانية للمقابلة بين:
المقوم والعرضي في نظرية الجوهر الذي يتصوره الفلاسفة مرجعا مفردا للاسم المفرد
وبين التحليل والتأويل في العلم مجرد ترجمة منطقية للخبر والإنشاء في نظرية التصديق الذي يتصوره الفلاسفة مرجعا لمعنى الخبر الحقيقي في مقابل المعنى المجازي (الذي هو عندهم من الإنشاء حتى لو صيغ بصيغ الخبر).
وقد نفى ابن تيميه هذه النظرية الوجودية التي تستمد منها الميتافيزيقا التقليدية والتي يرد إليها كل ثرثرات المتكلمين وتطبيقاتهم المنطقية على وجود لا يدرون طبيعة قوانينه. كما نفى نظرية المعرفة المبنية عليها انطلاقا من مراجعة نظرية اللسان التي ينفي فيها ان يكون للفظ المفرد دلالة لكون الألفاظ عنده لا تفيد إلا مقيدة بالقرائن اللسانية وبأحوال الخطاب. ولما كان الحد عنده مجرد اسم علمي للمحدود وليس عبارة على حقيقة المحدود فانه أيضا لا يفيد إلا بالقرائن اللسانية الصناعية (لا الطبيعية في هذه الحالة).
ومن ثم فكل علم لغة اصطناعية وظيفتها تحليل ظاهرة بمعاملتها معاملة الموضوع الذي يؤول في ضوء معطياته نظرية ما تكون دائما من حيث نسقها المنطقي والتحليلي مقدرات ذهنية خالصة ويفترض فيها المطابقة بين ما يجري في النظرية وما يجري في الظاهرة التي هي موضوعها: لذلك فرضية وليس حقيقة حتى لو أيدت التجربة هذا التطابق المفترض لأن ذلك يبقى دائما مؤقتا ومتناسبا مع التقدم في إدراك الاعراض ومحاولات تأويلها بمقتضى النظرية التي تكون في الغالب نموذجا رياضيا للوقائع التجريبية. ومعنى ذلك أن ابن تيميه يعتبر الفلاسفة قد وقعوا في خطأ مضاعف:
1- فهم لم يفهموا معنى التحليل لظنهم انه يبقى تحليلا خالصا عندما ينطبق على موضوع تجريبي معين ظنا منهم أن المقدرات الذهنية مطابقة بالطبع للموجودات الحقيقية لقولهم الضمني بالتطابق بين قوانين المنطق الذي هو لغة صناعية وقوانين الموضوع التي لا نعلمها مسبقا والتي من وظيفة العلم تجريب عدة نظريات للتعبير عنها تعبيرا هو إلى التأويل أقرب منه إلى التحليل.
2-وهم لم يفهموا معنى التأويل لظنهم أنه مجرد بحث عن التناظر بين نتائج الفكر الفلسفي ممثلا للحقيقة والباطن ونصوص الفكر الديني ممثلة للمجاز والظاهر في حين أن هذا التناظر عديم المعنى لكون التأويل ليس تناظرا تاما بين شكلين بل هو تناظر جزئي بين نظرية فرضية تعتبر بنية مجردة تقبل التطبيق لتفسير عدة أمور غير معلومة مسبقا (إلا في حالة وضعها خصيصا لتفسير موضوع معين) وموضوع معين سواء كان طبيعيا أو وضعيا يبدو قابلا لأن يكون أحد أمثلة تلك النظرية لكون البنية المجردة تبدو متعينة فيه فيكون تأويلا لها.
ويسمي ابن تيميه ذلك اجتهادا أو تطبيقا للنص المجرد على النوازل المعينة في الفقه (مثال وضعي) أو على الحالات المعينة في الطب (مثال طبيعي). لذلك فالشكل العلمي العام عند ابن تيميه يشبه ما يجري في الفقه والطب: نسق من القواعد والمبادئ يبنى بالتدريج من خلال جدل دائم مع ممارسة حية هي النوازل الفقهية أو الظاهرات المرضية.
ويتألف هذا العلم من بنية قبلية بمعنى القبلية الفرضية لا بمعنى القبلية المتعالية هي بنية التأويل الوصفي الذي يحدد شروط التناظر بين النسق المجرد الذي يتألف من القواعد والقوانين والمعطيات العينية التي تتألف منها الممارسة. فإذا ذهبنا من المعطيات إلى النسق كان ذلك تفسيرا للمعطيات بالقواعد وإذا ذهبنا من النسق إلى المعطيات كان ذلك تأويلا للنسق بالمعطيات. والتحليل والتأويل كلاهما لا يزعم العلم المحيط بالموضوع بل هو دائما علم نسبي لا يمكن بأي حال أن يؤدي إلى ما تنتفخ به أوداج كل الأدعياء الذين يفسدون الدين والفلسفة بتطرف مناف بالطبع لكليهما.