فكر ابن تيمية الاصلاحي، ابعاده الفلسفية – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله فكر ابن تيمية الاصلاحي

المقالة الأولى: مآزق الفكر العربي الإسلامي وتدرجه في فعل التنظير

تمهيد:

نذكر في المقالة الأولى بأن الفكرين الديني والفلسفي كانا بعد محاولة الغزالي قد اتحدا اتحادا إرجاعيا أساسه القول بالعلم الإنساني المحيط بالحقيقة التي يمثل الدين ظاهرها لكونه صورتها العامية والفلسفة باطنها لكونها صورتها الخاصية، فعادا عودة صريحة إلى السنتين المحرفتين اللتين سيطرتا منذ العهد الهلنستي. فقد تمكنت هاتان السنتان من تحقيق السيطرة على الفكر العربي الإسلامي رغم نقد الغزالي بل وبفضله – إذ الغزالي نفسه قبل الحلول الفلسفية في الغاية- وبسبب عملية الترميم التي تحققت فلسفيا في مشروعي:

ابن رشد (إحياء ما بعد الطبيعة إحياءً يجمع بين التحريفين الفلسفي والديني من منطلق الفكر الأرسطي المحرف: الشروح اللفظية لفرضيات ميتافيزيقية بديلا من العلم)

والسهروردي (إحياء ما بعد الطبيعة إحياءً يجمع بين التحريفين الفلسفي والديني من منطلق الفكر الأفلاطوني المحرف: التوهم اليتوبي لفرضيات جدلية بديلا من العلم)

كما تحققت عملية الترميم دينيا في مشروعي:

ابن عربي (إحياء ما بعد التاريخ إحياء يجمع بين التحريفين الديني والفلسفي من منطلق الفكر الإنجيلي: فقه الباطن الشكلي)

والرازي (إحياء ما بعد التاريخ إحياء يجمع بين التحريفين الديني والفلسفي من منطلق الفكر التوراتي: فقه الظاهر الشكلي).

وقد كانت هذه العودة أو النكوص آخر مراحل التطور الفلسفي في تاريخ فكرنا قبل البلوغ إلى النقد الجذري الذي نريد وصفه والذي ننسب إليه إدراك طبيعة التجريد التنظيري وشروطه من خلال نتائج ذهاب النكوص إلى غايات الشكل البدائي من التنظير الموروث عن العلم القديم في مرحلتيه اليونانية والهلنستية. ويمكن أن نعتبر هذا النقد الجذري الذي أدرك طبيعة التجريد النظري ما هي بكونه الإرهاصة الأولى لطرح إشكالية العلاقة بين ابستمولوجية العلوم الطبيعية والمحاولات الجنينية لما سيصبح ابستمولوجية العلوم الإنسانية من خلال السعي إلى تجاوز إشكالية المقابلة بين العلوم العقلية والعلوم النقلية.

فتحدد بذلك الإشكال العويص الذي تعالجه تحسسات الفكرين النقديين التيمي والخلدوني الفكرين اللذين صارا معبرين عن بداية هذا التجاوز. لكن فهم الدور الذي أداه فكر ابن تيميه قياسا على الدور الذي أداه فكر ابن خلدون يشترط التخلص من العوائق التي تحول دون قراءة فكره قراءة فلسفية بمعزل عن المذاهب الدينية التي يراد حصر فكره فيها.

الفصل الأول: العوائق التي تحول دون قراءة فكر ابن تيميه قراءة فلسفية

تنقسم هذه العوائق إلى جنسين كلاهما مضاعف:

الجنس الأول: عوائق ذاتية لفكر ابن تيميه، وهي صنفان:

  1. ما نتج منها عن الطابع المتقطع وغير النسقي الغالب على أعماله لصلتها بالطابع الظرفي والمناسباتي لجل كتاباته وعرضه لإبداعاته كما يتبين ذلك من شكل الفتاوى والرسائل الظرفية حول مسائل خلافية يكون الكلام فيها عن المسائل الفلسفية عرضيا وغالبا ما يكون ذلك من منطلق محددات خارجية لفكر أصحابها مثل سلوكهم وأخلاقهم وعقيدتهم الخ…

  2. الهم العملي الطاغي الذي جعله يقدم منطق سد الذرائع فيؤول العلاج إلى بتر الأعضاء بدلا من تطبيبها ظنا بأن أخلاق ممثلي العلوم العقلية ومواقفهم من الدين نتيجة حتمية لهذه العلوم رغم كونه قد انتبه إلى أن المصدر الأساسي لهذا التحريف هو عدم اكتمال العلم عند المتكلمين باسم الفلسفة والعقل ورغم كونه لا يجهل أن علماء النقل ليسوا كلهم أفاضل أو يخلون من النفاق. وأفضل مثال لطغيان هذا الهم العملي ما نجده في نوع الردود على المنطقيين والميتافيزيقيين والمتصوفة والمتكلمين وأغلبها من الكتابات التي تحتج بالحجج الخارجية التي أشرنا إليها.

الجنس الثاني: عوائق عارضة لفكره وسببها العوائق الذاتية، وهي كذلك صنفان:

  1. استعمال فكر ابن تيميه من بعده في إسلام بعض البلاد الرسمي استعمالا أطلق علاج البتر وسد الذرائع فانتهى إلى عكس المطلوب، إذ هو قد ألغى كل فكر نظري حقيقي دينيا كان أو فلسفيا وأبقى المجال خاليا للفكر المباشر. فغاب الفكر الفلسفي النقدي الذي يحرز المجتمع من أخطار الفكر الوضعي والتكنولوجيا اللذين لا روح لهما. لذلك التقت ذهنيتان آليتان قاصرتان عن الإبداع: الوضعية العلمية الحديثة والنصية الفقهية الوسيطة دون وعي فلسفي يناسب شروط الإبداع الذي لا يمكن أن ينتج في مناخ الآليتين الخاليتين من السؤال الفلسفي.

  2. واستعمال فكره كذلك في إسلام بعض الحركات المعارضة التي اقتصرت على الوجه السلبي من الفكر التيمي مطبقة إياه في علاقتها بمن يقدم نفسه ممثلا للفكر الفلسفي في عصرنا بعنوان العلمانية الوضعية النظرية والعلمانية العملية أو الماركسية ظنا منهم أن الموقف المرفوض من القيم الدينية علته الفكر الفلسفي بإطلاق وليس خيارات فلسفية بعينها. وهذا الاستعمال أخطر من ذاك لكونه أعادنا إلى الفصام الحضاري والحرب الأهلية اللذين أجهزا على نهضتنا الأولى في القرون الوسطى.

وهذه العوائق لا يمكن نفيها أو التهوين مما أدت إليه من نتائج وخيمة على فكرنا لا ينكرها إلا معاند لكونها تعاضدت مع النكوص الفلسفي للحيلولة دون تحقيق شروط المعرفة السوية. لذلك فقصدنا من عرضها عرضا نسقيا هو تخليص فكر ابن تيميه مما يحول دون النفاذ الفلسفي إلى ما في أعماله من بذرات كان يمكن أن تجعله فيلسوفا كبيرا. ففي مصنفاته مشروع ثورة فلسفية لو تحققت لأخرجت الفكر العربي الإسلامي من مآزقه النظرية والعملية التي عطلت ملكة الإبداع العلمي المؤثر في علاقة الإنسان بالظاهرات الطبيعية وبالظاهرات التاريخية. وحاجتنا إلى هذه الثورة اليوم أكبر من حاجتنا إليها في عصره: فبسبب هذه العوائق عامة وهذين الاستعمالين خاصة صارت نهضتنا الثانية معرضة لأخطر مما كانت النهضة الأولى معرضة له وقد يتجاوزنا التاريخ فنصبح مجرد توابع في كل المجالات ما ظللنا توابع في أساس كل إبداع أعني في التنظير الفلسفي والعلمي لكل المجالات طبيعية كانت أو خلقية.

ومعنى ذلك أن ابن تيميه لا يعنينا هنا من حيث هو مصلح شرعي يقتصر على العلاج الوقائي بالبتر الناتج عن تشخيص ناقص لأدواء العمل المباشر في بعديه السياسي والفقهي. ما يهمنا ليس الإصلاح العملي المباشر الذي ينتهي عادة إلى عكس ما قصد به لكونه يعتمد على المنع وسد الذرائع، بل يهمنا الإصلاح غير المباشر أعني الهم النظري الخالص الساعي إلى وضع نظريات جذرية في مسألتي المعرفة الطبيعية والتاريخية والوجود من منطلق يتعالى على التنافي السطحي بين الفكرين الفلسفي والديني. وكنا قد بينا في بعض أعمالنا السابقة[2] أن الكثير من أفكار ابن تيميه لا يفهم إلا في ضوء هذا الهم النظري مثلها مثل أفكار ابن خلدون(رغم تقديم ابن خلدون نموذج المعرفة التحليلي وتقديم ابن تيميه نموذجها التأويلي: وهذه ملاحظة ليس هذا محل تعميقها), مما يجعل القرن الثامن المرحلة الحقيقية التي أدرك فيها الفكر العربي الإسلامي طبيعة فعل التنظير بمعناه الفلسفي الحقيقي أعني إبداع الأنساق المجردة -أو أنساق المقدرات الذهنية بلغتهما- التي يمكن أن تكون الظاهرات الطبيعية أو التاريخية أحد موضوعاتها أو تأويلاتها العينية.

لكننا لا ننكر أن طغيان التشخيص الفقهي الفاسد على أصحاب هذا الإدراك قد انتهى إلى فشل مشروعاتهم لكونه جعلهم يعتبرون الفلسفة بما هي فلسفة علة العيوب الخلقية أو الدينية التي ينسبونها إلى بعض المتكلمين باسمها خلطا بين العلماء من الفلاسفة وممثلي توظيفها الإيديولوجي كما هو الشأن اليوم عند بعض العلمانيين الفصاميين من الوضعيين أو الماركسيين، متناسين ما أشار إليه الغزالي في تمهيد التهافت ومقدماته الأربع [3]. وطبعا فهمنا الأول والأخير هو أن نبحث عن البذرات الأولى للفهم الفلسفي العلمي في علاج قضايا الحضارة العربية الإسلامية البذرات التي تخلصها من الانشغال بالحل الغفل المقصور على المنع والبتر الحل الذي يفسد الممارسة العملية بدلا من علاجها لكونه يجعلها عملا على غير علم، رغم كون هذه البذرات قد بقيت في مستوى الإرهاصة ولم تكتمل.

ولا يمكن أن نزعم أن هذه الإرهاصات قد اكتملت، إذ لو حصل ذلك لما انحطت حضارتنا بل ولتحققت النهضة الحديثة عندنا بدلا من تحققها في الغرب ولكانت محصنة ضد الانحرافات التي شابتها. وينبغي أن نؤكد على أهمية العقل النظري المجرد والخالص الذي لا تزال حضارتنا تشكو من نقص فيه كبير. فأغلب ما يسمى بالفلسفة العربية الإسلامية -الوسيطة أو الحالية- لم يكن ثمرة فعل تنظيري حقيقي بل هو مجرد أنساق مستوردة أصبحت أشكالا لفظية جوفاء لكونها عديمة الصلة بالمادة التي يراد تطبيقها عليها.

ونحن نعتبر الفكر المهموم بالعمل المباشر الذي يظنه البعض مميز حضارتنا الأساسي هو العلة الرئيسية في هذا القصور التنظيري, بل هو عندنا من أكبر العوائق التي حالت دونها وتحقيق شروط الثورة الحديثة في مجال العلوم النظرية أو الطبيعية وعلومها المساعدة وما بعدهما العلمي (حيث يهمل البحث الأساسي الذي ليس له غايات محددة مسبقا) وفي مجال العلوم العملية أو الإنسانية وعلومها المساعدة وما بعدهما العلمي(حيث يتصور العمل المباشر أهم من العمل غير المباشر مما جعل الصحوة الإسلامية تتحول إلى اضطراب سياسي دائم مع إهمال كامل للفكر الذي صار من مشمولات البعثات الغربية والمعاهد المسيحية في البلاد العربية والإسلامية لاقتصار أصحاب الاضطراب السياسي على الإيديولوجيا والفقه)رغم وجود بواكيرهما فيها.

وهكذا فان فرضية محاولتنا الأساسية تقول: إن عمل ابن تيميه فيه الكثير مما يمكن أن يفيد أن صاحبه قد استهدف نفس الغاية التي استهدفها ابن خلدون ولكن بصورة ضمنية ومن منطلق مختلف رغم كون فكره يتبين عندما يصاغ صراحة أعم من فكر ابن خلدون وأتم. فسعيه التجاوزي لو فهم على حقيقته لتبين أنه يشمل كل العلوم نقليها وعقليها ولا يقتصر على علم واحد فضلا عن كونه متحررا من نموذج العلم الأرسطي. ذلك أن المعيار الأساسي الذي يستند إليه فكره كله يؤول إلى محاولة وضع نظرية في العلم والوجود تمكن من تجاوز الفصل بين ضربي العلوم عامة وبيان:

أن كل ما يوصف بالنقلي منها لا يكون علميا إلا إذا توفرت فيه شروط العلمية التي تقتضيها طبيعة صياغة مادته لتكون قابلة للعلاج التحليلي بشرط أن يكون التحليل قد حرر من شكله البدائي الذي يتصوره مستغنيا عن التأويل.

وأن كل ما يوصف بالعقلي منها لا يكون علميا إلا إذا كان صريحا ومن ثم إلا إذا توفرت فيه شروط العلمية التي تقتضيها طبيعة صياغة مادته لتكون قابلة للعلاج التحليلي بنفس الشرط.

فيكون مشروعه هو تحديد شروط العلمية والصياغة التحليلية لكل موضوع علم ممكن عامة وصلة هذه الصياغة بما لا بد منه من التأويل تأسيسا لمبادئ العلم وتطبيقا لنظرياته على موضوعه. وتلك هي الإشكالية الفلسفية الأساسية التي يمكن أن نجمع تحتها البذرات أو الفتوحات التي ننسبها إليه والتي بقيت محولة ابن خلدون دونها بكثير لبقائها حبيسة النموذج الأرسطي على الأقل بمفهوم المطابقة.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي