فكر ابن تيمية الاصلاحي، ابعاده الفلسفية – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله فكر ابن تيمية الاصلاحي

– الفصل الثالث – صياغة مآزق الفكر العربي الإسلامي بضربيه الفلسفي والديني ومراحل تدرجه إلى التجريد التنظيري

نحاول الجواب عن السؤال التالي بفروعه المترتبة عليه: ما المراحل التي ينبغي قطعها للبلوغ إلى التعليل الفلسفي أعني إلى التنظير العلمي المجرد للظاهرات التي تجري في الطبيعة والتاريخ؟ وكيف استعملت للتخلص من المقابلة الزائفة بين العقل والنقل وبين الفلسفة والدين لفهم ما يعتمل في مجريات الأمور الطبيعية والتاريخية في الحضارة العربية الإسلامية؟ ولماذا تعتبر اللحظة التيميه الخلدونية لحظة واحدة أولا ولحظة أساسية ثانيا لفهم هذا الأمر الذي نعتبره غاية بالقياس إلى ما تقدم عليه في فكرنا الديني والفلسفي وبداية بالقياس إلى ما تأخر عنه فيهما أو إن شئنا لحظة قادرة على الربط بين النهضتين المتقدمة على عصر الانحطاط والحالية ربطا قد يحررنا من عطالة الانحطاط فيجبر الكسر الذي تعاني منه حضارتنا من خلال الإشارة الدقيقة لموطن الداء الذي ما زال ينخرها فيفقدها القدرة على الإبداع؟

فرضيتنا تتمثل إذن في: اعتبار اللحظة التيميه الخلدونية غاية لتدرج الفكر العربي الإسلامي قبل الانحطاط نحو الفكر النظري الفلسفي الخالص لكونها تمثل لحظة تخلصه من الكلام على الفكر الفلسفي من خارجه وبوصفه مجرد شكل أجنبي. فهي لحظة أصبحت تنظر إلى الكلي الذي يجمع الفكر الديني والفكر الفلسفي استناد إلى مفهوم الدين الكوني والفلسفة الكونية كما حددهما الإسلام في التوحيد بين اعتبار العالم التاريخي أو الروحي والعالم الطبيعي أو المادي. لذلك كان الاقتران بين الكتاب والحكمة أو الحكم أمرا لا يتخلف في القرآن الكريم: “ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة …. بما كنتم تعلمون الكتاب وتدرسون”[5]؟ ولكي نفهم هذا المآل لا بد من الجواب عن السؤال المضاعف التالي:

  • الوجه الأول من السؤال:

كيف آل الفكر الفلسفي بفرعيه إلى مآزقه؟ فمآزق الفكر الفلسفي (فكر المشائية وفكر إخوان الصفا) نتجت جميعها عن المثنوية الوجودية وتجاوزها الخارجي برد الشرائع إلى الطبائع وبلغة عصرنا رد العلوم الإنسانية إلى العلوم الطبيعية: كل ما لا يقبل هذا الرد يلغى وتكون العلوم العملية مجرد يتوبيات حول المدينة الفاضلة بدلا من ان تكون علما للظاهرات الإنسانية [6].

  • الوجه الثاني من السؤال:

كيف آل الفكر الديني بفرعيه إلى مآزقه؟ ومآزق الفكر الديني (الكلام والتصوف) نتجت جميعها عن القول بالمثنوية الوجودية وبتجاوزها الخارجي برد الطبائع إلى الشرائع أو بلغة العصر رد علوم الطبيعة إلى العلوم الإنسانية: كل ما لا يقبل هذا الرد يلغى وتكون العلوم النظرية مجرد يتوبيات حول الطبيعة الفاضلة التي هي من جنس دلائل العدل الإلهي بدلا من ان تكون علما للظاهرات الطبيعية [7]

وكنا قد أشرنا إلى أن ما يدفعنا إلى التركيز على هذه الظاهرة ليس مجرد النبش في الماضي بل هو التناظر العجيب بين وضعية النهضة العربية الإسلامية الوسيطة ووضعية النهضة العربية الإسلامية الحديثة من حيث الوقوع في هذه المآزق [8]. فالمتكلمون باسم الفكر الفلسفي والمتكلمون باسم الفكر الديني في نهضتنا الحالية عادا بنا من جديد إلى الفصام بين الفكرين وإلى الحرب الأهلية بين المتكلمين باسمهما. وقد أدى موقف الفكرين، المنتسب إلى الدين والمنتسب إلى الفلسفة أحدهما من الآخر، إلى أزمة حضارية من طبيعة واحدة.

ففي كلتا الوضعيتين حصل صدام مدمر بين متطرفيهما في الممارسة الفكرية التي فقدت استقلالها عن الممارسة العملية فصارت المعركة السياسية الاجتماعية المتطرفة الهم الأول والأخير وانتهى الفكر العلمي والمعرفة بصورة شبه تامة. وبذلك تردت المسألة النظرية الفلسفية والدينية إلى مجرد توظيف إيديولوجي مما حول النهضتين الوسيطة والحالية إلى فصام حضاري وحرب أهلية دائمة بين تصورين للفكر الديني والفكر الفلسفي كلاهما يلغي الآخر. وكلا الموقفين موجود في السنتين الممثلتين لهذين الفكرين أعني عند من يطلق عليهم اسم علماء “العقل” وعند من يطلق عليهم اسم علماء “النقل”. وهم في الحقيقة ليسوا علماء لا عقلا ولا نقلا بل هم رؤساء مذاهب وأحزاب:

  • أحدهما – وذلك في الفكر النظري والممارسة العلمية على حد سواء- يريد أن يواصل السنة الإنجيلية المحرفة دينيا (ممثلة بتحريف دين موسى ودين عيسى وأثره في علوم العمران خاصة)

  • والثاني يريد أن يواصل السنة اليونانية اللاتينية المحرفة فلسفيا (ممثلة بتحريف فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وأثره في علوم الطبيعة خاصة).

ويحاول كلا الفريقين الوصل الفصامي بينهما في شكل تواز مرضي بين الشرائع والطبائع وبين البعد الروحي والبعد الزماني وبين التصور الديني والتصور الفلسفي وكأن الثورة الإسلامية (الإصلاح المحمدي الناقد للتحريفين التوراتي والإنجيلي) لم تحصل أو كأنها قوسان فتحا عبثا وينبغي أن يغلقا دون تأثير على التاريخ الإنساني [9].

ولم يبق إلا أقلية قليلة لا يكاد يسمع لها أحد تحاول التخلص من التحريفين بتجاوز التقابل بينهما وبتأسيس ابستمولوجية تتجاوز التنافي بين التحليل والتأويل لتجاوزها التقابل بين الطبائع والشرائع وسيطا وبين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان حاليا. وهي إذ تفعل ذلك إنما تفعله تماشيا مع مقتضيات الثورة الإسلامية التي تصلح تحريف الفكرين الديني والفلسفي ختما لعهد الفصل بينهما من خلال نفي التقابل السطحي بين العقل والوحي. فالإسلام إنما جاء للتوحيد بين أسمى الأديان المنزلة غاية الوحي والوجدان وأسمى الأديان الطبيعية غاية العقل والفرقان في الدين الخاتم تحت اسم دين الفطرة حيث يعد الاعتبار (اعتبار الطبيعة واعتبار التاريخ) سبيل العلم وغاية الإيمان: وليس الإسلام إلا إدراك ذلك مما جعله خاتمة الوحي ومنطلق تحميل العقل أمانة الاستخلاف أعني العقل المدرك لحدود الإدراك والممثل الوحيد للعمل الإنساني في صلته الاستخلافية بالمطلق أو بالمستخلف.

وقد حال هذا الصدام-الذي كانت الغلبة فيه للسلب المتبادل الناتج عن التنافي الدائم بين طرفي الموقف الأول في الفكر والوجود- بين حضارتنا وتحقيق رسالة الإسلام في التاريخ الحقيقي مما أبقى القيم الإسلامية مجرد مشروع لم ينجز منه إلا القليل فلم تتحقق الكونية الإسلامية التي تتميز بتشخيصها بدارا لعيوب العولمة الحالية أعني سلبيات الوصل الخارجي بين السنتين المحرفتين وصلا يلغي الإصلاح المحمدي: تحريف السنة التوراتية الإنجيلية ممثلة للوحي أو للدين المنزل الذي يجعل الشرائع متنافية مع الطبائع وتحريف السنة اليونانية اللاتينية ممثلة للعقل أو الدين الطبيعي الذي يجعل الطبائع متنافية مع الشرائع, السنتين اللتين أشاحتا بوجهيهما عن الإصلاح المحمدي.

والمعلوم أن جبر هذا الكسر هو الشرط الضروري لتيسير الوصل بين النهضتين وصلا حيا يجعل الاستئناف لا يقتصر على سطحيات التخبط السياسي المباشر الذي تردت إليه الحركات السياسية الإسلامية بل هو يحاول تأسيس نهضة جذرية في مستوى فعل التجريد التنظيري الذي هو شرط العمل على علم نهضة تجعلنا قادرين على الإسهام في ثورات العقل الإنساني بالاستناد إلى قيم الإسلام وبالأدوات الحقيقية أعني بالعلم والفلسفة اللذين لا يتضمنان ما يجعلهما متنافيين بالذات مع الممارسة الدينية الصحيحة.

فلا يمكن أن يسعى الدين إلى الغايات من دون الأدوات أو أن يقتصر على العلاج العقيم بسد الذرائع وبتر الأعضاء لكون بعض المرضى تكلموا باسمها (الثورة الفلسفية والثورة العلمية وثمراتهما في مجال الثورة الاقتصادية والثورة السياسية والثورة الاجتماعية). ينبغي ألا يقتصر فكرنا على مجرد ثرثرة إفتائية وحيل فقهية كادت تقتل الفكر الديني وتقصر الدين الإسلامي على الشكل البدائي من التعبد الشعبي الجامد فتصبح الشريعة فقها ميتا خلوا من الفكر الفلسفي العميق أعني من مصدر الحيوية الحضارية للامة شرطا في استئناف دورها التاريخي الكوني.

فتاريخ فكرنا يبين أن هذا الخطر قد كاد يقضي في كلتا محاولتي النهضة على التجريد التنظيري أعني دراسة الأمور بالتجريب العقلي الخالص أو التجريد الذي يضعها في حالة الإطلاق المثالي الفرضي. فالتجريد التنظيري هو المحرك الحقيقي لكل إبداع حضاري حقيقي. وهذا الخطر قضى على شرط الإبداع في حالتي النهضة العربية الإسلامية فكان العامل الموحد بين التيارات الفلسفية والدينية التي أفسدت النهضة الأولى وجنيستيها الحاليتين اللتين هما الآن بصدد إفساد النهضة الثانية للجهل بطبيعة هذا الفعل الذي من دونه ليس للعقل القدرة على العلاج العلمي:

  • ففي الأولى:

كانت العلة الرئيسية للتنافي بين المشائية (التي افسدت النظر الفلسفي خاصة)والأفلاطونية (التي أفسدت العمل الفلسفي خاصة كما هو بين من رسائل إخوان الصفا) فلسفيا نظريا ثم بين الكلام (الذي أفسد النظر الديني خاصة) والتصوف (الذي أفسد العمل الديني خاصة) دينيا عمليا ثم بين الفريقين الأولين والفريقين الثانيين هي عدم فهم طبيعة هذا الفعل التنظيري المبدع الذي استعمله كبار فلاسفة اليونان ليصوغوا به الطبائع والشرائع في حدود ما توصل إليه جهازهم الإدراكي عقلا وحسا وتصوره المفكرون العرب حقائق نهائية كما يفعل مفكرونا حاليا عندما يتبنون النظريات دون فهم طبيعية التنظير ماهي ظنا أنها حقائق وليست فرضيات وتبقى فرضيات أو حقائق مؤقته حتى لو أيدتها التجربة. فلم يكن التجريد عندهم أداة علاج بل هو كان هروبا من الأمر المعالج وإهماله لدراسة أمر بديل منه: فيموت الأمران العلاج والظاهرة المعالجة.

  • وفي الثانية:

كانت العلة الرئيسية التنافي بين الوضعية (التي أفسدت النظر الفلسفي خاصة) والماركسية (التي أفسدت العمل الفلسفي خاصة) فلسفيا نظريا وهما مشائية وصفوية محدثتان وبين الكلام (الذي أفسد النظر الديني خاصة) والتصوف (الذي أفسد العلم الديني خاصة) المحدثان دينيا دينيا عمليا ثم بين الفريقين الأولين والفريقين الثانيين نفس العلة: أخذت ثمرات الإدراك الغربي الحديث دون جهاز الإدراك الغربي الحديث وشروطه مما ألغى الظاهرة المدركة وحول النظر إلى قول أجوف. وقد صاحب ذلك في الممارسة العملية بل وفي ساحات القتال التنافي بين حركتين فكريتين أخطر من هذا الموقف الفكري العقيم هما:

  1. ما يمكن ان يوصف بالخروج على السنة أو الفهم الظاهري للفكر السني وسيطا وحديثا.

  2. وما يمكن أن يوصف بالخروج على الشيعة أو الفهم الباطني للفكر الشيعي وسيطا وحديثا.

  • أولا مآزق النظر:

1- من المنطلق الديني وتعود كلها إلى التقابل بين نظرية العلم الإنساني المحيط بالحقيقة (وتلك هي علة اللجوء إلى نظرية التأويل الذي يتوسل لرد النقلي بما هو ظاهر إلى العقلي بما هو باطن عند التعارض) ونظرية العلم الإنساني النسبي غير المحيط بالحقيقة مما يغني عن التأويل بالرد والاكتفاء بالعلم المناسب.

2- من المنطلق الفلسفي وتعود كلها إلى التقابل بين نظرية الوجود التي تؤسس لمسألة الحقائق المؤلفة من كليات وما يترتب عليها من نظرية في المعرفة تقول بالحقيقة المطابقة ونظرية الوجود التي تنفي التأليف من الكليات وما يترتب على هذا النفي من نظرية في المعرفة تقول بالعلم النسبي لكونه مجرد ترميز اسمي للممارسة النظرية والعملية الإنسانية.

  • ثانيا مآزق العمل:

1- من المنطلق الديني وتعود كلها إلى التقابل بين العمل الاجتهادي الذي يقتضي حل الاختيار في المسألة السياسية ونظرية العمل المؤيد الذي يقتضي حل الوصية في المسألة السياسية.

2- من المنطلق الفلسفي وتعود كلها إلى المقابلة بين العمل الإنساني المطابق للواجب (للقول بالتحسين والتقبيح العقليين) والعلم الإنساني النسبي الذي يربط دائما بين الواجب والواقع في التاريخ الفعلي لتحقيق القيم المتعالية عليه.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي