لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
كيف وصلنا إلى حالة “فساد معاني الإنسانية” فصرنا عالة على الأمم في الحماية وفي الرعاية (ابن خلدون)؟
ما مراحل نكوص الأمة إلى الجاهلتين؟
جاهليتا العرب الحاليتان:
طغت بسبب الأنظمة القبلية التي تدعي الأصالة والإسلام.
طغت بسبب الأنظمة العسكرية التي تدعي التجديد والحداثة.
وقبل مراحل النكوص، فلنحدد القصد بفساد معاني الإنسانية، النظرية الثورية التي وضعها ابن خلدون ونسبها إلى العنف والعسف في التربية وفي الحكم.
والنكوص إلى الجاهليتين هو إدبار المسلمين إلى غاية انحطاطهم الذاتي في الانظمة القبلية وإلى غاية انحطاطهم المستورد في الأنظمة العسكرية.
ولا يغرنكم التحديث الشكلي في العمران والأنظمة المستوردة، فهي كلها إطار قشري لا يفيد أي تغير في الذهنيات التي هي بدوية واستعمارية إلى النخاع.
بل أن البدوية والاستعمارية تبدو رحمة بالقياس إليها: ذلك أن البداوة فيها النخوة والرجولة، والاستعمار فيه احترام الفرد لنفسه ودفاعه عن حريته.
هم ورثوا من البداوة أخلاق أراذلها لا أشرافها، ومن الاستعمار أخلاق عبيده لا سادته. فتربيتهم وحكمهم بمنطق العبيد والأراذل لا الأشراف والسادة.
المرحلة الأولى:
استبداد النخبة السياسية وفسادها يمثل البداية، لأنهم يستعملون قوة الدولة لينتخبوا من باقي النخب أفسد أراذلها لخدمتهم كعبيد.
وهذا هو المبدأ الأول وبه يفسر ابن خلدون النقلة من الحكم الارستوقراطي للعصبية التي مهدت للدولة إلى عصبية الولاء من أجل تفرد المستبد بالحكم.
فالموالي يمثلون أولى مراحل النكوص، فتصبح الدولة قائمة على سادة وعبيد يسيطرون بالتدريج على مقاليد الحكم والإدارة فتصبح الدولة دولة موالي.
وقد حاول هارون الرشيد إيقاف هذا التردي. ونعلم أن ذلك كان سدى لأن الوريث الوحيد الذي كان يمكن أن يسترد منزلة العصبية الاصلية سرعان ما قتل. فحكم من بعده نصف مولى أمه فارسية وأبوه هارون الرشيد. ثم نصف مولى أمه تركية وأبوه هارون الرشيد. ثم انتهت عصبية الأسياد وصار الحكم للحامية.
وتلك هي المرحلة الثانية: الحامية مرتزقة لا تعرف غير العنف والقوة. فأخضعت النخبة العالمة التي تمثل مصدر الشرعية في النظام الإسلامي حينها.
وهي المرحلة الثالثة، فما كان أمرا واقعا جعله العلماء الخاضعون شرعيا وهو أساس النظام الجديد المبني على الانقلابات في الحامية: شرعية المتغلب.
لكن ذلك ما كان ليكون ممكنا لو لم يكن بيد الحكام الفرع الثاني من القوة أو هو بالأحرى أصل القوة الذي تفتكه القوة لجمع بين الحكم والارزاق.
المرحلة الرابعة هي المرحلة التي يستعمل المتغلب الذي أضفيت عليه الشرعية قوته، ليصبح ليس حاكما فحسب، بل رب الأرزاق لأن البلاد تصبح ملكا له.
فلا يكون اصحاب الأعمال أصحابها. بل هم من أهل الجاه الذين يختارهم هو ويوزع عليهم ثروة البلاد بوصفها هو ربها، وهو الذي يعطي ويقدر كأنه الرب.
فإذا تم ذلك وأصبحت كل الثروة بيد المستبد، استبد بالجميع منطق الفساد فيصبح الجميع إما قادرا لأنه في وضع من يرشى، وعاجزا لأنه مضطر للرشوة ليعيش.
المرحلة الرابعة، هي مرحلة الفساد الجنجريني في الجماعة. أو ما يسميه ابن خلدون بمرحلة السخرة العامة: الأغنياء لا يعملون بل يحكمون ويستغلون.
وعندئذ نصل إلى المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة يسميها ابن خلدون بمرحلة الترف، وهو المعنى القرآني في علاقته بمآل الجماعات: أمرنا مترفيها ففسقوا..
وتلك هي المرحلة الخامسة والأخيرة التي يصبح فيها الفن بدلا من أن يكون تعبيرا عن سمو الأرواح من جنس ما تعرضه الفضائيات العربية في رمضان.
فالفن هو الرمز الذي لا يخطئ في الدلالة على الانحطاط أو السمو. فمن يسمع دراميات العرب يعلم أنهم في أسفل سافلين ليس بالبذاءة والسفالة.
والأمر لا يتعلق بالبذاءة والسفالة وفساد الذوق فحسب. بل بفقدان أدنى قدر من الخيال فيما يسمونه الأدب الواقعي الذي يقدم صورة شوهاء منه.
ويتخلل هذه المراحل، النكوص المتدرج في الوجود. أي في الرؤية التي تجعله يدبر بدل أن يقدم، وينحط بدل أن يتقدم، سواء استيحاء من ذاته أو من الغرب.
فالرؤية الوجودية تنحط سياسيا أولا، ثم علميا ثم اقتصاديا ثم فنيا، وكلها تجاوزت كل ما يمكن تصوره من النكوص، لذلك فصورته التامة هي مأجور الدعاة.
لماذا؟
مأجور الدعاة-وهم أكثر بضاعة في سوق الاعلام المأجور-هم من يدنس أقدس شيء في حياة البشر: القيم الروحية لأنهم يبيعون أسمى شيء بأحقر شيء.
بهذه الملاحظة أختم هذه التغريدات التي هي من وحي صورة مقززة: مفتي تونس يكاد يركع ليقبل صدر الباجي قائد السبسي بسبب مهانة الأول وقصر الثاني.
كل كلاب الدعوة الذي ينزلون إلى هذا المستوى هم من أذل معاني الإنسانية، لأنهم هم من تولى هذه التربية تولي الحكام لهذا الحكم علتي النكوص.
فما رأيناه في مصر مع العميل السيسي من تذلل وتطبيل بلغ حد اعتباره نبيا، لا يمكن أن يتصور المرء أنه من الأخلاق حتى في الجاهلية والاستعمار.
وما نراه في مبايعات علماء السعودية -مع استثناءات دون أصابع اليد الواحدة جلهم في السجن-يدرك الحصيف على أن التربية مثل الحكم، خراب في خراب
الكتيب