لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهفساد معاني الانسانية كيف تفقد الوساطة والوصاية الانسان رئاسته بالطبع
توهم الكثير أني أبالغ في كلامي على ما حل بعلوم الملة من التحريف الذي رددته إلى طبيعة العلاقة: 1. بين نوعي العلم الديني (الكلام)والفلسفي (الفلسفة) 2. وبين نوعي العمل القانوني (الفقه)والخلقي (التصوف). وهو وصف لما ينتج عن فصل الأولين بين النظر والعقد وفصل الثانين بين العمل الشرع. فكان هذا الرد إلى علاقة النظر والعقد في العلمين وبين العمل والشرع في العملين هو منطلقي لعلاج هذا الداء المضاعف الذي جعل المعركة في العلم والمعركة في العمل تؤدي إلى فصام بين نوعي صلة الإنسان بالوجود انطلاقا من المقابلة بين نوعي المدارك الخارجية والباطنية عند الإنسان. فكلنا يتلقى معلومات أو معطيات من مصدرين من العالم خارج ذاته بما فيه ذاته التي يتلقاها وكأنها خارجه جزءا من العالم متحيز في المكان والزمان ثم من ذاته وكأنها داخل ذاته ومن أثر العالم في ذاته تقييما لما يتلقاه في ضوء حرية إرادته وحقيقة علمه وخير عمله وجمال ذوقه وجلال وجوده ونقائضها. وهذا التحاضر المضاعف بين الإنسان والعالم ومنه ذاته وبين ذاته ومنها العالم. فالإنسان هو في آن محايث للعالم والعالم محايث له. والتحايث المضاعف هذا بين العالم الإنسان ينتج عنه ضربان من الإدراك مختلفان من منطلق محايثة الإنسان في العالم ومحاثية العالم في الإنسان. والبحث في ما بينهما من صلة هو البحث عما وراء المحايثتين ومنه يأتي الفكر الديني والفكر الفلسفي ليس في التحايثين بل في ما وراء التحايثين طلبا لتفسيرهما إما بردهما إلى محل المحايثة أو بجعلهما مفارقين. وكلا الفهمين يشترك فيهما الفكران الديني والفلسفي تحديدا للماوراء دينيا أو فلسفيا. وبهذا المعنى فالتقابل والصدام بين الكلامي والفلسفي علته الفصام الناتج عن الفصل بين النظر والعقد والتقابل والصدام بين الفقهي والصوفي علته الفصام الناتج عن الفصل بين العمل والشرع. فالنظر والعمل فعلان يبدوان صادرين عن الذات والعقد والشرع انفعالان يبدوان صادرين عما يفترض خارج الذات. فتكون النسبة بين النظر والعقد نسبة بين داخل وخارج أو بين الذهني والعيني. نفس النسبة بين العلم والشرع هي نسبة بين داخل وخارج. وتكون النسبتان علاقة بين الذات والموضوع في الحالتين أو علاقة تفاعل عامة تكون علمية في الأولى وعملية في الثانية وهما جوهر ما بين الإنسان والعالم من صلات. وهذه الصلات هي التي لا تفهم من دون وضع ما وراء يعللها أو يجمع بين الوجودين في الإنسان وفي العالم إما جمعا محايثا لكل منهما أو متعاليا عليهما كليهما. وتلك هي حقيقة المعادلة التي سميتيها المعادلة الوجودية: الله-الطبيعة (الله الإنسان) التاريخ-الإنسان. وإذن فالوصل مضاعف. فما بين قوسين في المعادلة هو العلاقة المباشرة بين الله والإنسان وهي اللغز الألغز في المعادلة ولم تتضح إلا في الاسلام بالحرية الروحية أو بإلغاء الوساطة الروحية بين الإنسان وربه. وما حول القوسين أي الطبيعة والتاريخ هي العلاقة غير المباشرة بين الله والإنسان دون وصاية سياسية. وإذا كانت العلاقة المباشرة وجدانية بإطلاق أي إنها لا يمكن أن يشارك فيها أحد أحدا لأنها من المدرك الباطنية فإن العلاقة الثانية لا تحصل إلا بالمشاركة بين البشر لأنها مجال المدارك الخارجية التي تتجلى عيانا في الطبيعة والتاريخ موضوعا للذات بالنظر والعقد علما وبالعمل والشرع عملا. وهذه المعادلة هي في آن معادلة الوجود عامة ومعادلة مضمون القرآن خاصة وهي عين معادلة كيان الإنسان البدني والروحي. فالطبيعي من الإنسان هو بدنه والتاريخي هو روحه وهما العلاقة غير المباشرة بين الذات وربها والتي تحكمها العلاقة المباشرة بينهما والتي هي الوعي بتحاضر المتناهي واللامتناهي. والوعي بهذا التحاضر هو ما يعنيه ابن خلدون بـ”الإنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” بمعنى أن الإنسان يشعر دائما أنه خليفة الله حتى لو كان ملحدا وكافرا بوجوده. فهو في هذه الحالة يكون في نفس العلاقة مع شيء آخر قد يكون الطبيعة أو حتى ذاته التي يؤلهها فيكون آلها ومألوها. حضور العالم في الإنسان وجود في الأذهان بعضه محسوس في الأعيان ومنه كيانه العضوي وحضور الإنسان في العالم وجود في الأعيان بعضه في محدوس في الأذهان ومنه كيانه الروحي والحضورات متلازمان: والفقيه يعني بحضور الإنسان في العالم والمتصوف بحضور العالم في الإنسان. وعلة الفصام المنتج للصدام بينهما هو قراءتهما للقرآن قراءة تفصل بين التحاضرين المتضايفين. فلا معنى للقانون (نظام العلاقات بين البشر حول صلتهما بالعالم في الاعيان) من دون أخلاق (نظام العلاقات بين البشر حول صلة العالم بهم في الأذهان) وكلاهما محرف للقرآن الذي ينظم علاقة العلاقتين. فالعلاقتان تتصلان بالعلاقة غير المباشرة أعني بالطبيعة والتاريخ اعترافا بهما (الفقيه) أو نفيا لهما (المتصوف) وكلاهما لا يتعلقان بالإنسان وعلاقات البشر بعضهم بالبعض إلى بخضوعهما إلى العلاقة المباشرة بين الله والإنسان: ما يسميه ابن خلدون بالوازع الذاتي في مقابل الوازع الأجنبي. لا أنكر أن هذه الدقائق واللطائف تعتبر بلغة الغزالي قصا تربيعيا للشعرة الواحدة لكن الأمر هو كذلك أو هو يبدو كذلك لمن يحاول أن يفهم التشاجن بين نوعي الإدراك الإنساني: فما يصل إلى الذات من معطيات حول ذاتها من باطنها وحول العالم من خارجها وهي من الخارج ومن الباطن تلق مطلق الذاتية. ولا يكون الإيمان ولا العلم صادقين إلا متى كانا ذاتيين بمعنى إلا إذا كان الإنسان حرا روحيا مستغنيا عن الوسطاء الروحيين (الغاء الإسلام للكنسية ورفض الاحتجاج بهم يوم الدين) ولا يكون الإنسان مستغنيا عن الوسطاء إذا لم يكن حرا سياسيا بسبب خضوع الجماعة للأوصياء فارضي الوساطة. فيكون الداء الذي أفسد دستوري القرآن المتعلقين بالتربية بلا وساطة والحكم بلا وصاية علته الوصاية التي تفرض بالعنف المادي والوساطة التي تفرض بالعنف الرمزي خضوع الإنسان إلى ما يحول دونه والتلقي المباشر لما يصدر عن كيانه وعن العالم وعن العلاقة بينهما في تحاضرهما بمداركه الذاتية. وما قلته عن العلاقة بين الفقيه والمتصوف في العمل فصلا عن القانون والأخلاق يقال مثله عن العلاقة بين المتكلم والفيلسوف في العلم فصلا بين الإيمان والعلم. والعلة واحدة. فالوصاية التي تفرض الوساطة بالعنف المادي والوساطة التي تشرعن الوصاية بالعنف الرمزي هما علة الفصام والصراع. فالمقابلة الوهمية بين ما يسمونه نقلا وما يسمونه عقلا من علامات عدم الفهم. فلا علم من دون مضمون نقلي أي مستمد من معطيات الموضوع حتى لو كانت فرضية ولا علم من دون شكل عقلي أي مستمد من تصورات ذاتية حتى لو كانت فرضية. فالديني والفلسفي كلاهما نقلي موضوعا وعقلي شكلا. والفرق بين النقلين هو أن الديني يقدم المضمون الحدسي المتعلق بالمدارك الباطنية أو الروحية خاصة والفلسفي يقدم المضمون الحسي المتعلق بالمدارك الخارجية أو المادية خاصة. لكن التضايف بين نوعي المدارك والتحاضر بين الذات والموضوع وبين الإنسان والعالم يبين ضرورة تضايفهما. لذلك فتقديم المدارك الباطنية في المعرفة الدينية ينتهي إلى الخروج إلى المدارك الخارجية وتقديم المدارك الخارجية في المعرفة الفلسفية ينتهي إلى الدخول إلى المدارك الداخلية. فيكون الديني والفلسفي كلاهما غاية الثاني. فمن يبدأ بالخارج ينتهي بالولوج ومن يبدأ بالداخلي ينتهي بالخروج. علاقتهما تشبه علاقة موبيوس الرياضية في الطوبولوجيا: نفس الحركة على الحزام الواصل بين عجلتين متحركتين تخرج وتدخل في ما بينهما من حركة واصلة. وكل تحريف للقرآن علته عدم فهم هذه العلاقة الطوبولوجية بين ما في الأذهان والإدراك الحدسي داخليا وفي في الاعيان والإدراك الحسي خارجيا. وهذا التمثيل بحزام موبيوس الطوبولوجي تمثيل رياضي بسيط جدا لأن العلاقة بين ما في الأذهان وما في الاعيان هي جوهر حقيقة الإنسان وعلاقته بوجهي الكيان البدني والروحي وسر الاسرار التي اعتقد أن المعجز في القرآن هو هذه المعادلة التي هي بنيته وبينة الوعي الإنسان ومعادلة الوجود كله. وتوجد معضلة مضاعفة لا بد من علاجها في فصل آخر هو غاية هذه المحاولة: كيف نحرر الفرد الإنساني من الوساطة في التربية وهي تعتمد دائما على مربين أو كيف لا يكون المربي وسيطا روحيا؟ وكيف نحرر الجماعة الإنسانية من الوصاية وهي تعتمد دائما على حكام أو كيف لا يكون الحاكم وصيا ماديا؟