فاشل الأدباء،عبدة وثن الواقع لنقد وحي الأنبياء – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله فاشل الأدباء

أواصل الكلام في “فاشل الأدباء عبدة وثن الواقع لنقد وحي الأنبياء” لبيان علاقة ما يسمونه واقعا بالدين هي من جنس نظرية القائلين بالتولد الطبيعي. فهؤلاء أنهى العلماء خرافاتهم بمجرد اثبات التقدم في تقنية المجاهر التي بينت أن هذه الخرافة علتها أن الكائنات الدقيقة لا تراها العين المجردة.

وهدفي أن أبين أن القائلين برد الأديان والإبداع عامة إلى “تأثير” الواقع عقولهم مثل أعين القائلين بالتولد الطبيعي يختلقون تفسيرا عاميا للكلام فيما لا يعلمون أصله. لذلك فسؤالي لم يتعلق بالأديان عامة أو بالقرآن خاصة بل بأي إبداع مهما استصغروه وأن يبينوا كيفية صدوره عن “الواقع”.

وليس معنى هذا أني أعلم كيف يصدر الإبداع الديني عن طريق الوحي لكن عدم العلم لا ينبغي أن يتحول إلى علم سحري يفسر الظاهرات الحيوية بالتولد الطبيعي والظاهرات الإبداعية بتأثير الواقع الذي هو في الحقيقة تطبيق لخرافة التولد الطبيعي على الإبداع قياسا لتطبيقه على الحياة.

المجهر بين أن الحياة لا تصدر إلا عن الحياة ولا يكون ذلك بالتولد الطبيعي بل بمقتضى خصائص الظاهرات الحية دون سواها. وأعتقد أن الإبداع له ما يشبه أصول الظاهرات الحية في الظاهرات الرمزية التي يبدعها من نسميهم مبدعين بحسب أصناف الإبداع وأرقاها الديني لأنه رؤية وجودية كونية.

ولست معنيا بأعيان الصوغ الذي يتغير من حضارة إلى حضارة ومن عصر إلى عصر بل بكليات المصوغ فيها وخاصة في القرآن الذي هو أتم نص ديني عرفته البشرية كما بينت في الكثير من المحاولات وخاصة في الجلي في التفسير الذي تواصله هذه المحاولات.

فكان حكمهم على الإبداع القرآني من حيث هو ما بعد الاخلاق (التي هي أسمى مما بعد الطبيعة) بتطبيقاته التي هي تاريخية بأعيانها التي تعالج نوازل بأعيانها ولم يروا وراء العلاج العيني الأساس النظري المتجاوز لأعيان القضايا. وقد حاول الفقهاء الخروج من هذا المأزق بنظرية المقاصد مثلا.

وهو حل زائف كما بينت في حواري مع الشيخ البوطي حول أزمة أصول الفقه. ذلك أنه حتى القانون الوضعي لا يعرف بمجال انطباق أحكامه بل بطبيعة أحكامه أو بالصفات التي إذا اتصفت بها تكون أحكاما قانونية بصرف النظر عن مجال الانطباق الذي هو لامتناهي العناصر ولا يرد لمقاصد حصرية.

فلنترك إبداع التشريع الديني جانبا ولنتكلم على أي إبداع علمي أو فني. هل يوجد من هو أسخف ممن يستنتج من تجاوز التاريخ لتطبيقات رياضيات اقليدس الحاصلة ماضيا دليلا على أنه استمدها مما يسمونه واقعا؟ وهل يمكن اعتبار فن بيكاسو مستمدا من “الواقع” لأن بيكاسوا كان غارقا في حياته البوهيمية؟

وسأكتفي بالحل الأفلاطوني منطلقا للحل الذي يقترحه الوحي عامة والإسلام خاصة. فعند أفلاطون ما يسمى واقعا له دور في الإبداع العلمي دون شك: لكنه ليس أصلا للإبداع بل مثير يذكر النفس بما فيها من مثل هي التي تحدد قوانين هذه المثيرات الحسية والعقلية والتي هي نسخ ظاهرة ومشوهة من المثل.

والقرآن يعتبر الدين كله مفطورا في الإنسان. والعالم الخارجي والباطني كلاهما مثيرات تحفز بالتفكر روح الإنسان لقراءة هذه الفطرة فيه وللوقوف من ذاته موقفا يقيم ويقوم سلوكاته النظرية والملية في ضوء تذكر ما في فطرته بحيث إن الرسالة لا تأتيه بمضمون جديد بل تذكره بما هو مفطور لديه.

وفي الحالتين الأفلاطونية والقرآنية يكون مصدر الإبداع ليس “الواقع” بل كيان الإنسان الروحي فيكون النبي والفيلسوف مصطفين لان المثل العلمية والدينية مفطورة فيهم ككل البشر لكنها عندهم أكثر صفاء كالمرآة المجلوة. وهو تفسير يجعل الفطرة من طبيعة حيوية مثلها مثل أي وظيفة في كيان الإنسان.

وهذا ليس تفسيرا علميا بل هو تقريب للفهوم باستعارة تقيس الإبداع الديني للرسل على الإبداع العلمي عند أفلاطون (في النظر وفي العمل): والمقياس والمقيس كلاهما لا يرد الإبداع إلى “الواقع” بل إلى خاصية كيانية للإنسان يرمز إليها القرآن بالنفخ من الروح وبتعلم الأسماء ويجمعها مفهوم الخلافة.

لكن هذه الخاصية كلية يشترك فيها كل البشر وكذلك يعتقد أفلاطون على لسان سقراط أن العلم تذكر عند كل البشر. لكن البعض منهم فقط له القدرة الابداع ومساعدة الآخرين بالتوليد (المقارنة بين التذكر المعرفي والإنجاب العضوي): فيكون الأنبياء مثل سقراط بالفهم الأفلاطوني.

ورفع ذلك إلى مستوى الوحي إيماني وليس علميا. ومعنى ذلك أن الوحي قرآنيا ظاهرة كونية ليست مقصورة على البشر بل حتى النحل يوحى إليه وحتى يخاطبه خالقة وشارعه (كما خوطبت السماوات والارضين لتأتيا طوعا أوكرها) وهذه كلها فرضيات حول عقديات متعلقة بالإبداع وأرقاه الوحي وليست علما.

لكنها وإن لم تكن علما فهي أكثر رجحانا من عقيدة رد الإبداع لما يسمى واقعا ردا لا يستطيع تعريف الواقع من دون إدراكاته فيكون تعليل الإبداع بما يسمونه مؤديا للدور والتسلسل: لذلك فهم لا يتكلمون على “الواقع” بل على صورته في نظرية من النظريات أي في نص: ماركس أو فرويد إلخ…

فيكون أول مكذب لذواتهم: هم يحكمون على رؤية القرآن كنص برؤية نص آخر هو نظرية ماركس حول حقيقة الواقع عامة والتاريخ خاصة وهي نص أو نظرية اللاوعي عند فرويد حول حقيقة الواقع عامة (مقابل الرغبة) والواقع النفس خاصة وهي نص. فيكون عملهم محاكمة نص بنص وليس نصا بواقع.

وكلا النصين الماركسي والفرويدي متناقضان: فلو كان كلام ماركس صحيحا لما خالف أي فكر للواقع ولما أمكن التمييز بين العلم واللاعلم لأن الفكر يكون عندئذ كالمرآة لا يستطيع إلا عكس ما يسمونه الواقع. ومن ثم فالماركسية ليس بنت الواقع بل بنت ترجيع رؤية على رؤية لما يسمى واقعا.

ولو كان كلام فرويد على اللاوعي صحيحا لما أمكن له أن يخرج عن سلطانه ليقول فيه ما ليس من إملائه. وفي الحالتين لا يكون ماركس ولا فرويد مستمدين إبداعهما من الواقع بل أبدعا ما به صار “الواقع” قابلا لتصورهما له. وإذا كان ذلك كذلك في إبداع شبه علمي فكيف بالإبداع الديني الأسمى من العلم.

ألست أصادر على المطلوب عندما أصف الدين عامة والدين الخاتم خاصة بكونه إبداعا أسمى من الإبداع العلمي؟ كلا: ذلك أن العلم نفسه ينطلق من إيمان بوجود العالم أولا وبقدرة الإنسان على إدراك شيء منه. وهما شرطا كل بحث علمي يمكن أن يكون موحيا بإبداع علمي ما.

ليس كل إنسان قادرا على رؤية الآيات حتى لو طلبها بل هي لا يراها إلا ذو حظ عظيم. ومن يريهم الله آياته في الآفاق والانفس هم المبدعون لكن بعضهم يقف عند محل نتوء الآيات فيردها إليها وذلك هو بتر المعادلة الوجودية: إهمال التواصل بين القطبين والاقتصار مجالي تعينه في الطبيعة والتاريخ.

لكن وراء الطبيعة والتاريخ لغزي القطبين اللذين يتواصلان مباشرة شرطا في التواصل غير المباشر عن طريق الطبيعة والتاريخ: والمباشر هو الآيات دون ردها إلى اللامباشر في مجالي ظهورها أي الآفاق (الطبيعة) والأنفس (التاريخ). الوحي وأسمها ما يتلقاه الانبياء هو التواصل المباشر في الإبداع.

ومعياره ليس التجربة الحسية بل التجربة الروحية. لا يوجد مبدع بحق في الفن والعلم ليس في روحه شيء من البصيرة التي تجعله يصدق الرسل بمعايير الأخلاق وليس بمعايير الوضعي من المعرفة. وهو معنى تسمية الألمان إلى علوم الإنسان بعلوم الروح Geisteswissenschaften

وفي كل الأحوال نحن أمام لغرين هما في نظر الإسلام من الغيب: مفهوم روح الإنسان ومفهوم الله. هما قطبا المعادلة الوجودية وبينهما وسيطا تواصل الطبيعة والتاريخ لا يمكن أن يفهم من دون افتراض تواصل مباشر بين النسبي الإنساني والمطلق الإلهي بل إن هذه العلاقة هي جوهر كيان الإنسان.

لذلك فكل من يرد الإبداع إلى تأثير ما يسميه الواقع ببتر المعادلة فيكتفي بالوسطين الطبيعي والتاريخي ولا يلغي حينها الله والوحي بل يلغي الإنسان والعلم. فردهما إلى تأثير الواقع يجعل الخطأ مستحيلا لأن الإنسان الذي هو جزء من الواقع يكون مجرد مرآة تعكسه كفاقدي البصيرة من هؤلاء الحمقى.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي