لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهفاشل الأدباء
لست أدري لماذا كل أدعياء الحداثة لا يتوقفون عن المقابلة بين ما يسمونه “واقعا” وما يسمونه نصا عند كلامهم في الدين. والغريب أن يعتبروا ذلك من البديهيات و”الحقائق العلمية” التي لا جدال فيها.
أسألهم عما يقصدون بالواقع وكيف يصلون إليه من خارج النصوص التي يحاكمونها به لن تسمع منهم جوابا.
سأقبل جدليا ما قد يقوي حججهم واعتبر ما يسمونه احتكاما إلى الواقع ما يسميه علماء الطبيعة الاحتكام إلى التجريبية لتقييم فاعلية النظرية. فيكون النص الديني عندهم في منزلة النظرية العلمية في علاقتها بالتجربة العلمية. لكني لم أسمع عالما واحدا يستنتج أن النظرية تنتجها التجربة العلمية.
أن تحتكم النظرية العلمية إلى التجربة التي هي تابعة للنظرية المتعلقة بأدوات الإدراك وهي كما هو معلوم منتج نظري بالأساس لآلات تدقيق الإدراك الحسي حتى يرى ما توقعته النظرية كالمجهر في البايولوجيا والفيزياء وكلها آلات تطبق نظريات من البصريات التي هي فيزياء رياضية.
ومعنى ذلك أن التجربة نفسها من صنع النظرية بتوسط تطبيقات تقنية لنظريات رياضية فيزيائية للضوء والصوت خاصة والتجربة وظيفتها بالاحتكام إليها من منظور نظري تحقق التناسب بين النظرية والتجربة ولا تنتج عن التجربة. فهل هذه العلاقة هي ما يطبقه المتكلمون في النص الديني؟
نظريات العلم تحتكم إلى التجربة التي يحققها العلم ليختار أفضل الحلول لإدراك الوجود الطبيعي وهي تعترف بهذا المعيار وتنفي صدورها عنه فهل الأديان تدعي الاحتكام إلى هذا النوع من التجربة فضلا عن الزعم بأنها تصدر عن الواقع؟
فلنترك الدين جانبا: ولنتكلم على الإبداع الفني في الجماليات.
هل نسمي إبداعا فنيا ما يحاكي وصف الأحداث التاريخية؟
هل وهل الفن محاك أو مبدع لمنجزاته؟
بينا أن العلم حتى هو ليس محاكيا لما يسمونه واقعا بل هو مبدع له أو على الأقل لنسيج قوانينه وراء مظاهره التي يتصورها هؤلاء الحمقى واقعا. وذلك ابين في الإبداع الفني.
صحيح أن هؤلاء الاغبياء الذين يكثرون من الكلام على الواقع يؤمنون بما يسمونه الأدب والواقعي والفن المحاكي لما يتصورونه واقعا ولذلك فهم رمز العقمين العلمي والفني فضلا عن أساسهما وأساس كل فكرهم السطحي أعني تصورهم لصدور الدين عما يسمونه واقعا.
لا أنوي الدفاع عن عقيدة أصل الدين هل هي عقيدة من يتصوره من الله أو من يتصوره من الإنسان. لكني أريد أن أبين أن الموقفين عقديان وليسا علميين ولا معنى لادعاء علم بالواقع ما طبيعته أو علما بالوحي ما طبيعته: فكلاهما عقدي وليس علميا ومن ثم فالمفاضلة بينهم علتها سذاجة حداثيينا.
الإيمان بوجود خارجي يمكن أن يتوقف عند الطبيعة والتاريخ ويمكن أن يتجاوزهما إلى وجود مابعدي سواء اقتصر على قوانينهما كعالم مفارق لمجراهما أو تجاوز هذا العالم المفارق إلى تشخيصه في عالم إلهي يبدع عالم القوانين وعالم الظاهرات التي تنظم بمقتضاها.
وهذا التجاوز ضروري على الأقل كعالم قوانين بالنسبة إلى العلم والفن وحتى العقيدة. وهو إيماني وليس علميا. فالعلم لا يمكن أن ينشأ من دون إيمان بمبدأين: يوجد شيء خارج ذهن الإنسان وذهن الإنسان يدركه ويطلب ما وراءه من قوانينه لفهم انتظامه والتعامل معه على علم بقوانين جريانه.
وهذا المبدآن لا يمكن إثباتهما بالدليل العلمي لأن من لم يتسلمهما لا يمكن أن يشرع في البحث العلمي. ومن العسير أن يسلم عاقل أن ما يقبل العلم ليس بذي قوانين وأن ما له قوانين ليس هو مصدرها بل هي مصدره. فيكون العالم الطبيعي والتاريخي كلاهما تابع لقوانينه الشارطة لانتظامه.
والقوانين الشارطة للانتظام ليست العلل الشارطة للوجود. فيكون كل موجود مشروطا بأمرين:
– شروط انتظامه.
– وشروط وجوده.
وهذان هما معنى المفهوم المزدوج في الفعل الإلهي دينيا أي الخلق لعلة ا لوجود والامر لشريعة الانتظام. وفي الفلسفة هما معنى الإنية للوجود والماهية للانتظام.
والترجمة الخلقية هي مفهوم القضاء والقدر. فالقضاء للوجود والإنية والقدر للانتظام والماهية. وهما جواب ديني بمفهوم الخلق والأمر وفلسفي بمفهوم علة الوجود وقانون الانتظام في كل موضوع يطلب الإنسان علمه. وهو عندما يطلب علمه يطلب علة وجوده وقانون انتظامه.
أعلم أن سخفاء الحداثيين لا يفهمون هذه المعاني أو حتى إذا فهموها جعلوها ناتجة عن وثنهم “الواقع”. ويكفيني سؤال واحد يغلب علة ثرثرتهم في النقد الأدبي: لا يوجد ناقد قادر على استنتاج عمل إبداعي من واقع صاحبه أي من ترجمته الذاتية إلا بعقيلة سحرية تستعمل مفهوم التأثير السحري.
لماذا ضربت هذا المثال من الأدب؟
لأن كل المثرثرين في مدرسة النقد الديني ذوو ثقافة أدبية ولا صلة لهم بالفلسفة والعلم ولا بالإبداع الفني أو الديني وهم يتكلمون في ما عميت قلوبهم عن ذوقه: في التجربة الروحية من دون ذوقها رغم أنها شرط كل إبداع علميا كان أو فنيا أو خاصة دينيا.
ومعنى ذلك أنهم من أدنى مستويات الماركسية والمادية التي لا تفهم معنى المادي فضلا عن معنى المثالي: ذلك رد المادي إلى المثالي أو المثالي إلى المادي من علامات الجهل بالأمرين معا وبطبيعة العلاقة بينهما. فكلاهما مفهوم مجرد وليس عينا ولا يمكن أن يرد أي منهما إلى الآخر.
وإذا سلمنا بوجود شيء يصدق عليه معنى الواقع فهو غيرهما لأنه عين تطابقهما بشرط تقابلهما هذا إذا قبلنا بالمنطق الجدلي الهيجلي. والمعلوم ألا أقبل به واعتبر المادي والروحي أو الطبيعي والتاريخي كلاهما ثمرة لذات غيبية لا تقبل الرد لا إلى المادي ولا إلى الرمزي: وذلك هو نسيج مدركاتنا.
وهذا النسيج مشدود إلى ما بعدين هما ما ينسب إليه الانتظام والوجود في الطبيعة وفي التاريخ وهما قطبا المعادلة الوجودية أي الله والإنسان ولا يمكن الفصل بينهما أو تقديم أحدهما عن الآخر إلا بمعنى إيماني لا علاقة له بالعلم الذي يدعيه من لا علاقة له بالعلم ولا حتى بما اختصوا في أي أدب.
سآخذ مثال من الفلسفة اليونانية: كتاب إقليدس يفسره البعض بتراكم التجارب الحسية رغم أن لا شيء من الحدود البسيطة وقوانينه توليفاتها في النسق التبديهي (الأكسيومية) في كتابه يوجد في العالم الحسي. كلها مقدرات ذهنية بلغة ابن تيمية. وحتى عندما طبقها اقليدس فيزيائيا طبقها على أجرام افلاطون.
واجرام أفلاطون التي بنى بها فيزياءه في الطيماوس ليست موجودات حسية وليست مستمدة من واقع خارجي بل شبه موجودات أسطورية اسس عليها البنية الرياضية للكون. وكل النظريات بعد أفلاطون من هذا الجنس حتى وإن أضافت إليها العلوم الحديثة دور التجربة العلمية الناقصة في نظرية أفلاطون.
وهبنا سلمنا بأن الاديان هي من جنس “ميثولوجية” أفلاطون فهي مثلها لا ترد إلى واقع ولا يحتكم في تعييرها إلى واقع لم تنتجه هي: فالقرآن مثلا حتى لو فرضناه من إنتاج محمد الإنسان وليس من وحي الله قد أبدع مفهومات نظرية ومشاهد درامية لا يمكن رجها وهم الواقع عند أدباء فاشلين يتفلسفون.
كل المباهين بحداثتهم التي تمضغ فضلات تجاوزها الفكر الفلسفي منذ قرون يمكن رد تخريفهم إلى القول إن الإنسان هو رب الوجود وأن واقعه هو الذي أنتج كل إبداعاته رغم أنها كلها مشروطة بما فيه من طبيعي بدينا وروحيا وبأن ما ينتجه بدنه وروحه ليست مجرد محاكاة لما يسمونه الواقع الخارجي.
فحتى نظرية الكائن الخالق علة ذاته Causa sui يقول بها اصحاب وحدة الوجود الطبعانية لم ينسبوها إلى الإنسان بل اعتبروه من الطبيعة المطبوعة وليس من الطابعة بمقولتهم المشهورة: الإنسان ليس دولة في الدولة بل هو من أحوالها أو اعراضها بلغة سبينوزا.
لكن ما الفائدة من الكلام مع من يتصورون الكلام الساذج فكرا فلسفيا يدعون به نقد الفكر الديني دون علم بالطبائع وطبيعة نظرياتها وعلم بالشرائع وطبيعة إبداعاتها. لذلك حاولت بيان المقصود بنوع الإبداع المعرفي في العلم وفي الفن وهما ما يمكن أن يعتبر شاهد الإبداع عامة بما فيه الديني.
ورأيي أن كل الإبداع وحي أو تلق مجهول الطبيعة حتى وإن كانت ترجمته الإنسانية هي أنواع الإبداع الرمزي عامة بصنفيه القيمي للفنون والدلالي للعلوم والاقتصادي والخلقي لتطبيقاتهما في السياسة من حيث هي تربية وحكم يتنظم به الوجود الإنساني ببعديه البايولوجي والروحي.
وسأكتفي بهذا القدر مع ملاحظة أخيرة: لا أحد يستطيع أن يرد اي إبداع في أي مجال إلى ما يسمونه الواقع إلا بمنطق السحرة: التأثير. الرد في العلم هو بيان صدور المردود عن المردود إليها بأدلة علمية قابل لرد ما يتصورونه فرعا إلى ما يتصورونه أصلا.
فإذا كان كل شيء يرد إلى “الواقع” فمعنى ذلك أنه لا جديد في الوجود: هو موجود في الواقع وجودا كمونيا ثم يظهر في عمل المبدع.
حسن. هات السلسلة التي نقلت “الواقع” من وجوده ككمون فيه إلى وجوده كظهور فيه. العامل الإنساني الناقل للواقع من الكمون إلى الظهور ما هو؟
خذ مثال الكمون البايولوجي: التقاء حيوان منوي ببويضة يعطي طفلا. وهذه تجربة قابلة لأن تتحقق لتثبت النظرية بإمكانية التخصيب الصناعي. أطلب من مخرفي الواقع اصلا للدين أن يأخذوا مكونات الواقع المزعوم وليبدعوا شيئا قابلا للتحقق من صدوره عنه ككل المركبات الكيمياوية مثلا.