لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص
مقدمة
تكلمنا في القسم الأول عن غاية نضوج الشكل الدستوري في الدولة الإسلامية انطلاقا من الصيغة النهائية لتوزيع السلط ومؤسسات الدولة بين الخلافة والسلطنة كما وردت في مقدمة ابن خلدون بشيء من التصرف التنظيمي الذي يحافظ على روح نصه ويكتفي باستخراج ضمائره وتوضيح مغلقاته بالاعتماد على علم السياسة الحديث.
العلاقة بين عملي ابن خلدون و ابن تيمية
وكان ينبغي أن أنبه القارئ إلى أن عمل ابن خلدون متعاكس الاتجاه المنهجي مع ابن تيمية بخصوص الوصل بين المرجعية الدينية والمرجعية الفلسفية في تحديد مفهوم الدولة ووظائفها.
لكن الرجلين ينتهيان إلى التكامل والتطابق العميق بين نظرتيهما لطبيعة الدولة وشروط قيامها بوظائفها.
وقد سبق فحددنا طبيعة هذه الوظائف بكونها تعود إلى منظومتين من الخدمات :
- أولاهما للحماية (آمنهم من خوف).
- والثانية للرعاية (وأطعمهم من جوع).
واليوم أريد أن أذكر بهذه العلاقة بين الفكرين وأن أبين بصورة عاجلة المنظور الأعمق لنظرية ابن تيمية.
فابن خلدون يستنتج نظرية الدولة من تعريف قرأني للإنسان ومن ترتيب لحاجاته رغم أنه يبدو في الظاهر منطلقا من التعريف الفلسفي الذي كان سائدا :
الحياة والنطق.
لكنه في الحقيقة لا يعرف الإنسان تعريف الفلاسفة له في عصره اي الحيوان الناطق بل يعرفه تعريف القرآن له أي المستعمر في الأرض والمستخلف فيها.
والفرق بين التعريفين جوهري حتى وإن تكاملا.
ذلك أنه يتعلق بالفرق بين الانثروبولوجيا الفلسفية اليونانية والانثروبولوجيا الدينية الإسلامية.
والتكامل بينهما لا ينفي الاختلاف الجوهري في الرؤية الوجودية التي تعلل الثورة الخلدونية التي جعلت التاريخ يصبح جزءا من الفلسفة بعد أن كان مستثنى منها والتي من ثم أسست للعلوم الإنسانية واستقلالها عن التبعية للعلوم الطبيعية في الفلسفة السياسية العربية الموروثة عن اليونان.
والجامع بينهما هو طبيعة العلاقة بين الغاية والأداة وطبيعة التراتب بينهما
وكلتاهما تحدد نظرتين قيميتين مختلفتين:
- فتعريف الفلاسفة للإنسان يعتمد على تقديم الأداة على الغاية: الإنسان حيوان ناطق. والحياة والنطق أداتان من أدوات تحقيق غايات وجود الإنسان. إنها انثروبولوجيا (نظرية الإنسان) طبعانية أداتية.
- وتعريف القرآن للإنسان يعتمد على تقديم الغاية على الأداة : الإنسان مستعمر في الأرض ومستخلف فيها. والاستعمار والاستخلاف هما غايتا وجود الإنسان. إنها انثروبولوجيا (نظرية الإنسان) خلقية غائية.
وما يبين هذا التفضيل الخلدوني اسم علمه فضلا عن مضامينه النظرية.
فقد جمعت مقدمة ابن خلدون بين مفهومي الاستعمار (العمران) والاستخلاف (في البابين الأخيرين من المقدمة باب العمل وباب العلم) اساسا لاكتشافه.
وهو يؤسس عليهما نظرية الدولة التي وصفنا في القسم الأول من هذه المحاولة مع القبول بالتعريف الفلسفي وحصره في دوره الأداتي.
فالحياة والنطق هما أداتا تحقيق الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها :
وتكريم الإنسان هو هذا التلاؤم بين الغاية والأداة بمعنى أن الإنسان مجهز بما يمكنه ويؤهله للاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها عضويا ونفسيا.
لكن القراءة السطحية لابن خلدون تغفل عن الوجه الأول وتتصور نظريته مبنية على الوجه الثاني فلا تدرك علاقة اكتشافه بالانثروبولوجيا القرآنية فضلا عن علاقته بنظرية الدولة التيمية.
ومما يجعل هذا الإدراك عسيرا رغم محاولة صاحب بدائع السلك في طبائع الملك بيان التوازي بين الأساسين النقلي والعقلي للمقدمة هو أن الانثروبولوجيا الدينية الخلدونية شديدة التعقيد وعسيرة الفهم لأنها كانت في قطيعة شبه تامة مع الانثروبولوجيا الفلسفية التي كانت سائدة والموروثة عن الفكر اليوناني.
وقد حاولت في كتابي عن السببية عند الغزالي بيان الفرق الجوهري بين رؤيتي الوجود والعالم كما حاولت بيان العلاقة بين السلفية والأشعرية الأولى في مرحلتيهما المتقدمة والمتأخرة :
- فالتكامل بين ابن حنبل (نظر) والأشعري( عمل) في السلفية الاولى أو الأصلية
- نجده كذلك بين ابن تيمية (فلسفة النظر) وابن خلدون (فلسفة العمل) في السلفية الثانية أو المحدثة.
لكن المحدثين من قراء التراث اكتفوا بما قيل عن الغزالي وأشيع بكونه عدو الفلسفة والتنوير (محاضرة بلوخ التي لم يتجاوزوها واكتفوا بها وبرأي رنان في ابن رشد) فغابت عنهم النقلة الجوهرية التي حدثت في الانثروبولوجيا أي في نظرية الإنسان.
المنظور التيمي الأعمق لمسألة الدولة
وهنا يأتي العلاج الأعمق لمسالة الدولة ونضوجها الدستوري رغم الطابع الخطاطي لتأليف صاحبها.
فابن تيمية كعادته يرمي أفكاره ولا يحررها التحرير النسقي الذي يذهب إلى الغاية كما فعل ابن خلدون.
فقد انطلق مباشرة من تعريف للحكم بمعنييه السياسي والقضائي من القرآن الكريم (النساء 58) مع اضمار نظرية الإنسان المكلف والمساواة بين البشر جميعا من منطلق الأخوة الآدمية (النساء 1) بمعيار عدم التفاضل بغير التقوى (الحجرات 13).
ومن ثم فهو يعكس المسعى الخلدوني :
- ابن خلدون يبني نظرية الدولة على الانثروبولوجيا الدينية (الإنسان مستعمر في الأرض ومستخلف فيها) ويكتفي بوصف الموجود التاريخي بالنسبة إلى ما يترتب على ذلك سياسيا.
- وابن تيمية يضمر نفس الانثروبولوجيا ثم يحدد شروط الدولة المطابقة لهذا التعريف ولا يكتفي بوصف الموجود في ما يترتب على ذلك سياسيا بل هو يذهب إلى ما هو أعمق فيحدد المنشود.
والمنشود يعرفه القرآن الكريم في الآية 38 من الشورى عندما يجعل الحكم بمعنييه السياسي والقضائي أمرا ينسبه إلى الجماعة المؤمنة ويحدد طريقة إدارته وتسييره بالشورى
“وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”
التي تجعل مدار أمر الحكم حول مسألتين :
- أولاهما شارطة لوجود الدولة الملائمة للانثروبولوجيا الدينية كما حددها القرآن الكريم وهي الاستجابة للرب : ومن ثم فالدولة معنية بالرعاية الروحية المقدمة على ما عداها لأنها تحقق غاية الوجود الإنساني المستخلف في الأرض وبها تفتتح الآية.
- والثانية هي موضوع الدولة الأساسي في هذه الانثروبولويجا الدينية كما حدده القرآن الكريم وهي الانفاق من الرزق : ومن ثم فالدولة معنية بالرعاية المادية المؤخرة لأنها تحقق أداة الوجود الإنساني المستعمر في الأرض وبها تختتم الآية.
ولذلك فهو -ابن تيمية- قد بنى نظرية الدولة على مفهوم السياسة الشرعية بالاعتماد على هذه الانثروبولوجيا التي تجعل الدولة قادرة على تحقيق هذين الشرطين بمعياري العدل والأمانة:
- التربية الخلقية وسنامها الاستجابة إلى الرب
- والتربية المادية وسنامها الانفاق من الرزق.
فالسياسة الشرعية تبني مؤسسات الدولة السياسية عامة ومؤسسة القضاء بكل أصنافه خاصة لتحقيق شروط العدل والتحرر من علل الظلم .
وقد عبرت الآية التي ينطلق منها ابن تيمية عن المعيارين اللذين يؤسس عليهما الحكم بين الناس بغاية العدل وشرطها الأمانة في احترامها
الآية الآية 58 من سورة النساء :
“إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا”
وهذه الآية هي التي بنى عليها ابن تيمية نظرية السياسة الشرعية التي ينبغي أن تعتمد عليها نظرية الدولة ونظرية القضاء في الإسلام :
- فأداء الأمانة موضوع الحكم وتعريف علاقة الحاكم بالمحكومين (سياسة) أو بالمحكوم بينهم (قضاء) : مهمة الحكم أمانة في عنق الحاكم أو القاضي.
- والعدل في الحكم موضوع الحكم وتعريف علاقة القاضي بصحة الحكم سواء كان بالمعنى السياسي أو بالمعنى القضائي.
وهذه العناصر الأربعة هي
- الحكم أمانة
- والحاكم مؤتمن
- والحكم عدل في أداء الأمانة
- وأصحاب الأمانة هم إما المحكومون أو المتقاضون.
وفي الحقيقة المحكومون متقاضون لأن المحكومية هي الخضوع للقانون في فصل النزاعات حول الحقوق سواء كانت من مجال القضاء أو من مجال السياسة.
لذلك فإنه يمكن بيسر أن نستنتج من هذه العناصر الأربعة أن الحكم سياسيا كان أو قضائيا مشروط بالمساواة بين المحكومين أو المتقاضين دون تمييز.
وعدم التمييز في أداء الأمانة حكما أو قضاء بالعدل يحدده معيار يبدو وكأنه تمييز لأنه جاء في صيغة مفاضلة تلغي ما عداها من المفاضلات وخاصة أشهرها دلالة على الظلم بين البشر أي العرق والطبقة والجنس.
وهذا المبدأ يتألف من فرعين
- أحدهما يحدد طبيعة العلاقة بين البشر
- والثاني يحدد معيار التفاضل في هذه العلاقة
فالعيش المشترك أو العلاقة بين المحكومين أو المتقاضين ينبغي أن تكون التعارف لا التناكر والتفاضل بينهم في هذه العلاقة هو احترام (وهو التعارف من المعرفة والمعروف) لجعل هدف العيش المشترك التعارف لا التناكر القانون الأسمى :
أي الالتزام بالعدل ورفض الظلم .
وهذا المعيار يسمى التقوى كما عبرت عنه الآية (الحجرات 13) :
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ».
ولما كانت مؤسسات الدولة الدستورية وظيفتها تحقيق الحماية الداخلية والخارجية والرعاية التكوينية والتموينية بأدوات فعل الدول أي بالحكم (القانون) وبالتربية (الاخلاق) فإن هذه المؤسسات ذات دور في تحقيق العدل ومنع الظلم بالمعنيين التعويضي جزءا من الحماية (جبر الضرر) والتوزيعي جزءا من الرعاية (احترام المنازل).
ذلك أن مسألة تحقيق العدل ومنع الظلم ليست مسألة قانونية فحسب بل هي كذلك مسألة تربوية ومن ثم فهي خلقية ودينية للصلة بين الخلقي والديني في المجتمع الإسلامي :
وترمز الآية 38 لذلك بالاستجابة إلى الرب :
“وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”
ومعنى ذلك أن الأخلاق ببعديها
- الموضوعي (العادات والتقاليد في الأعيان)
- والذاتي (الأحكام القيمية في الأذهان)
تمثل الأرضية التي يستند إليها النظام القانوني بمستوييه الدستوري والقضائي لدى المسلمين كالحال في أي جماعة.
يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/