عمامة ابن رشد والتحديث الفلسفي المغشوش

تنبيه مدير الصفحة

هذا نص كتبه استاذنا في نهايات سنته الأخيرة بماليزيا ( الجامعة الإسلامية العالمية) وفيه نبرة غضب سببه ما كان سائدا في الساحة الفكرية العربية من موضات غلب عليها ما يسمى بفكر الرشدية العربية ودعاوى دور العناية بفكر ابن رشد إيجابا في النهضة الغربية وعدم العناية به سلبا في الانحطاط العربي.
نعيد نشره لأن الأحداث بينت أن هذه النخب التي تدعي تأصيل التحديث بتزييف التاريخ الفكري لحضارتنا وللحضارة الغربية في آن لم يكن بوسعها أن تؤدي إلا إلى ما رأيناه مصاحبا لمآل الأنظمة التي سعت للتحديث الكاريكاتوري ونقد التراث الكوميدي بتطبيق فهم سطحي للنظريات البنيوية والأبستمولوجية المزعومة.
والأستاذ كان ولا يزال ميالا للكلاسكيات التي حددت منعرجات التاريخ الفكري في حضارتنا والحضارة الغربية كما يبين في هذا النص الذي نعرضه على القاريء بنوع من الابتعاد عن الأحداث للنظر في ما وراءها من أحاديث.

النص

من أسباب تعثر النهضة العربية والإسلامية التحديث المغشوش الذي يفرضه عليها النافذون من نخبنا ذات المعرفة العامية والصيت النجومي. فهذه النخب قد أدلجت كل شيء وسيسته بحكم خدمتها المباشرة أو بصورة غير مباشرة سواء انتسبت هذه النخب إلى التيار التحديثي أو إلى التيار التأصيلي بصنفيهما التابع للحكم والتابع للمعارضة سواء كانت رفهانة في فنادق الغرب أو جوعانة في سجون ولاته في بلادنا. فقد فقد الفكر الفلسفي عند العلمانيين والفكر الديني عند الأصلانيين خاصيتهما الجوهرية.
لم يبق أي منهما طالبا للحقيقة لذاتها بل بات الجميع يعتبر الحقيقة من الأوهام ( حاشا أن يكون القصد المعنى النيتشوي ) خاصة بعد سواد الدهماوية الدينية التي أعمت بصيرة فقهاء الشرع والدماغوجية الفلسفية التي بلدت أذهان فقهاء الوضع.
وزاد الطين بلة الموضة التي سودت نسبوية ما بعد الحداثة المطلقة التي يكتفي البعض بنقدها المركزية الغربية ليعتبرها محررة للبشرية في حين أنها منطلق العبودية الكونية التي تشكك في الثوابت العقلية لتزرع الخرافات التوراتية كما في اليهودية المتصهينة عند من يسمى بفلاسفة فرنسا الجدد وفي المسيحية المتصهينة الأمريكية.
ما يعنينا في هذه الورقة هو ثمرات التحديث الفلسفي المغشوش الذي أنتج نجوما فكرية فقاعية أفسدت النهضة وقتلت التأصيل معها لكونها كانت تأصيلا وتحديثا مغشوشين.
وليكن مثالنا ما يسمى بالرشدية العربية المحدثة التي سنرمز إليها بعمامة ابن رشد. فبالقياس إلى ابن رشد دون سواه وضع أكثر مشاكل نهضتنا زيفا المشكل الذي فرضه على تاريخ الفكر ما يسمى بالرشديين العرب الذين غرتهم سخافات رنان العنصرية باستثناء ابن رشد مما يزعمه بلادة سامية حصرا في فروعها العربية. فهم يزعمون أن قطع الحضارة العربية مع آثار ابن رشد الفكرية كان علة انحطاطها زعمهم بأن صلة الحضارة الغربية بفكره كانت سبب نهضتها. وكلا الزعمين فيه كثير نظر حتى لا نقول شيئا آخر.

أصلا التعمم بالرشدية

كل مغالطات الرشديين المحدثين نتجت عن هاتين المسلمتين اللتين لا يوجد أدنى دليل على امكانهما فضلا عن الترجيح. فاعتبار اتصال الحضارة الغربية بالفكر الرشدي علة نهضتها كان يكون صحيحا لو صح أن الغرب اعتمد فيها حقا على الفكر الرشدي وليس على فكر من قطع معه منهم وقبل ذلك على من تجاوزه منا تجاوزا كيفيا حتى وإن تقدم عليه بالزمان قصدت ابن سنيا والغزالي أساسا فضلا عمن تلاهما كابن تيمية وابن خلدون. كما أن اعتبار قطيعة الحضارة العربية مع فكره علة انحطاطنا كان يصح لو صح أن الشرق انحط لتخليه عن فكر ابن رشد.
وطبعا فنحن في فحصنا الفرضيتين نسلم جدلا بما يسمى بالفكر الرشدي, إذ حتى هذا فإن طلب اثباته طلب مشروع فلسفيا. لم أجد في تاريخ الفكر الإنساني الحديث ما يمكن أن يعد حقا نظرية رشدية في أي مجال من مجالات الفكر الفلسفي التقليدية سواء كان هذا المجال كونيا أو خصوصيا إذا ما استثينا أمرين هما:
خرافة الفصل المزعوم بين الدين والدولة وبداية تأسيس العلمانية وهي من أكاذيب الرشديين لأن ابن رشد أولا فقيه قبل كل شيء وثانيا لأن حله للعلاقة بينهما له وجهان افتائي صلحي في فصل المقال تابع لحل الغزالي في مناهج الأدلة رغم ما يبدو من رفض لفكر الغزالي. ففي المناهج حله هو إلجام العوام في التأويل واعتبار التأويل المحقق للتطابق بين النقل والعقل ممكن بالنسبة للخاصة. والفرق الوحيد وهو لصالح الغزالي يتمثل في أن الخاصة عنده فلاسفة وهم عند الغزالي متصوفة.
وخرافة الجدل العقدي حول مسائل التنافي بين ما رجحه ابن رشد من تأويلات علم النفس الأرسطي بينها وبين العقائد المسيحية التي باسمها حوكمت أفكاره في الردود الكنسية على ما يسمى بالرشدية اللاتينية. وطبعا فهذا الجدل لا يمكن أن يعد أمرا فلسفيا بل هو مجرد مضغ لقضايا كلامية تهم الثيولوجيا ولا علاقة لها بالعلم الطبيعي ولا الانساني ولا حتى بالإلهيات الفلسفية أعني نظرية الوجود والحقيقة والقيمة.

ولست أعجب من الأهمية التي يوليها فكرنا لمثل هذه الأساطير. فهو كله بأصلانييه وعلمانييه مقصور على الصراع الإيديولوجي الذي يتوهم أن كون كل شيء ذا بعد سياسي وغير قابل للموضوعية المطلقة يعني بالضرورة أن نقصره على السياسي وان نجعل فُضالة الذاتية التي يستحيل التخلص منها مطلوبا ينبغي حصر الفكر فيه.

المسألة الأولى: وصل الحضارة الغربية المزعوم مع الرشدية

لو زعم شخص أن نقد الفلسفة اليونانية في شكلها المنحط الذي لم يتخلص منه العرب إلا في القرن الخامس بفضل نقد الغزالي لما بعد الطبيعة في تهافت الفلاسفة ولما بعد التاريخ في فضائح الباطنية قد ساعد الغرب في اكتشاف موطئ قدم لانطلاقة مبدعة لكان كلامه مسموعا.
أما أن يزعم ذوو الفكر السطحي أن نظرية البرهان وإيديولوجية الميتافيزيقا الشمولية يمثل السعي الرشدي لبعثهما دورا يذكر في الثورة الديكارتية أو اللايبنتسية وخاصة في العلم الحديث فلا حول ولا قوة إلا بالله.
كيف يغيب عن قائلي مثل هذا الكلام أن البرهان يعني أمرين لم يصبح العلم الحديث ممكنا إلا بعد التخلص منهما:
الأول يخص وصل البداية بين صورة البرهان ومادته أعني ( أعني نظرية المقولات لتصنيف الموجود وموضوعات العلم والحد ولتعريف الهويات).
والثاني يخص وصل الغاية بينهما ( أعني نظرية المطابقة بين الضرورة المنطقية في القول العلمي والضرورة الوجودية في موضوعه).

وكل من قرأ كتابي ديكارت في المنهج ( القواعد والمقال) حتى في الترجمات يعلم أن بناء النظرية عنده غني عن هذين المبدئين لكون النظرية ذريعة رياضية لفعل العقل في موضوعه وليست بالضرورة مطابقة للحقيقة الوجودية.
لذلك اعتبر ديكارت العلم بحاجة إلى ضمانة إلهية تؤسس المبدعات النظرية بداية وغاية لعد يقينه في المطابقة التي كانت نظرية المعرفة السابقة تبني عليها وثوقيتها الساذجة.
فالضمانة الإلهية ضرورية عنده بداية حتى لا تكون مبادئ العلم الأول وموضوعه من خداع الشيطان الماكر . وهذا دليل على أنها مبادئ عقدية وليست مبادئ علمية: إذا لم تؤمن بأن ما تدركه ليس خداعا لأنك تؤمن بأن الله ليس شيطانا ماكرا يمتنع عليك أن تقول شيئا حول ما تدرك فضلا عن نسبته إلى شيء حقيقي وراءه هو العالم. فبعد الكوجيتو – الحقيقة الوحيدة الغنية عن الضمانة والمدركة لواحديتها وطابعها الانطوائي Solipsismus!- لا يمكن الخروج من انطواء الذات الوجودي إلى العالم الخارجي من دون مسلمات إيمانية تحتاج إلى ضمانة إلهية.
لذلك فكل المبادئ التي ستبنى على هذه الضمانة للخروج من الذات إلى العالم ولعلمه ستكون عند ديكارت خيارا حرا لله وليست قوانين فوق إرادته. فلا مبادئ العقل ولا حقائق الرياضيات ولا قابليتهما للانطباق على عالم يصعب الخروج إليه من انطواء الكوجيتو على ذاته بقابلة للتسليم فضلا عن الاستعمال من دون ضمانة البداية التي هي عقدية. ذلك أن أدلة ديكارت الثلاثة على وجود الله نفسها تفترضها فلا تكون ذات أثر من دون هذا المبدأ العقدي. من دونها كان ينبغي أن يتوقف ديكارت عند غاية التأمل الثاني.
والضمانة المنهجية الرياضية الحدسية لا المنطقية الصورية ضرورية غاية لتحقيق المطابقة هي شرط تخليص العقل الحكم من تحكم الإرادة لما بين مستطاعيهما من نسبة هي نسبة المتناهي إلى اللامتناهي. وهذا دليل على أنها شروط خلقية وليست تقنيات منهجية. فما يحول دون العقل والحكم المتسرع بتأثير من الإرادة لامتناهية الحرية امعانا في الفحص المنهجي ليس قواعد منهج بمعنى فنيات التعامل مع الموضوع بل هو قواعد طريقة بمعنى خلقيات ضبط سلوك الذات المعرفي.
القواعد الأولى تتوجه من عملية الفكر إلى الموضوع فتكون منهجا بالمعنى المعرفي للكلمة معناها الشبيه بالتقنيات العلاجية لتمنع مادة المعرفة على صورتها.
والقواعد الثانية تتوجه منها إلى الذات فتكون طريقة بالمعنى الخلقي للكلمة معناها الشبيه بمعنى الطريقة الصوفية سلطانا على الإرادة لئلا تفسد على العقل إمعانه النظر بعجلتها.
وليس مدلول الفينومينولوجيا عند هيجل إلا حصيلة التوحيد الجدلي بين التوجهين المبدعين للموضوع والذات معا خلال ابداع العلاقة بينهما العلاقة التي يكون نموها وتطورها عين الوجود الموضوعي للعقل وعين مراحل نضوجه خلال تجاربه النظرية والعملية اي العقلية والخلقية.
والمعلوم أن كل هذه المعاني لا يمكن أن تكون قد دارت بخلد ابن رشد وإلا لما فهمنا سر سعيه لإلغاء محاولات التحرر من انحطاط الفكر اليوناني المتأخر والعودة إلى “تفسير النصوص الفلسفية المقدسة” بنفس أسلوب الشرح اللفظي كلمة كلمة من دون شروط التفسير الشكلية ( العلم بشروط التعامل مع أداة التعبير لكأن الترجمات وحدها تغني عن الأصل) وشروطه المضمونية ( العلم بشروط التعامل مع مضمون التعبير لكأن الزاد العلمي الأرسطي يغني عن التقدم العلمي الذي تلاه وخاصة في الرياضيات وتطبيقاتها الطبيعية والفكلية عند علماء الإسلام: وهي أعمال لو جعلها مادة لفكره يستنبط منها ما به تجاوزت خلفية العلم اليوناني لكان يمكن أن نزعم له بعض الريادة).
أما عقل لايبنتس الرياضي والمنطقي فهو مما لا عين ابن رشد رأت ولا أذنه سمعت ولا خطر على باله في المعلوم من أعماله. فهل يمكن أن يقبل ابن رشد بنظرية ميتافيزيقية يجعل تصورها للعلم الصور الجوهرية:
متدانية إلى ما دون الوحدة النوعية فتنزل إلى الوحدة العددية
ومتسامية إلى ما فوق الوحدة التناسبية فتصعد إلى قانون لايبنتس الثوري؟
هل يمكن أن يكون قد أدرك ما بفضله لم يبن لايبنتس حساب التكامل والتفاضل فحسب بل وكذلك مبدأ انطباق الرياضيات على كل الموجودات بفضل هذه النظرية التي تجاوزت مبدأ عدم تواصل الأجناس المبدأ الذي كان سبب عقم نظرية العلم الفلسفية القديمة والوسيطة المبدأ الذي يتشبث به ابن رشد في نقده للغزالي دون فهم لطبيعة المحاولة الغزالية من أصلها لأنه أهمل تأمل ما جاء في مقدمات التهافت؟

المسألة الثانية: قطع حضارتنا المزعوم مع الرشدية

أما القسم الثاني المتعلق بقطيعة حضارتنا المزعومة مع الفكر الرشدي القطيعة التي يدعي البعض وجودها في الحضارة العربية التي ولت ابن رشد ويعتبرها علة الانحطاط فهي من المهازل. فـمن السخف القول إننا لو اتبعنا الفكر الرشدي لما انحططنا مع علم الجميع أن الذين تقدموا لم يتقدموا إلا بالقطع مع المدرسية عامة والرشدية خاصة.
ثم إنه من اليسير على أي مؤرخ للنصوص أن يثبت أن كل المحاولات الفكرية المنتسبة إلى الاختصاص في المجالين النظري والعملي وحتى الجمالي والوجداني لم تهمل الرد على ابن رشد.
فابن تيمية وابن خلدون والقرطاجني ومدارس التصوف المغربي كل هؤلاء علقوا على أعماله تعليقا صريحا وبين المقاصد ولو اعتبرت هذه التعليقات لتخلص فكرنا من المدرسية التي عمت في الكلام والفلسفة والفقه والتصوف فقتلت كل محاولات التحرر منها بعد ترميمها من مربع القرن السادس والسابع أعني ابن رشد (فيلسوف متفقه) والسهروردي (فيلسوف متصوف) والرازي (متكلم متفلسف) وابن عربي (متصوف متفلسف).
فأي معنى للقول بأنه قد نسي أو أهمل ؟
أم هل إن عدم اتباعه في ما دعا إليه هو المقصود بالاهمال والقطيعة ؟

ثم ماذا لو ادعينا أن ابن رشد لم يكن زاده العلمي بالنظريات الرياضية والطبيعية التي حاولت استيعاب العلم اليوناني وتجاوزه في الكثير من الابداعات دون آخر فلاسفة المشرق العربي (ابن سينا) فحسب بل كان دون زاد أولهم (الكندي). وهذه ملاحظة قد تثير غضب المتعصبين للمقابلة بين المشرق العرفاني والمغرب البرهاني خاصة وهي تصدر عن مغربي يحاول أن يكون حقاني.
لكن الحقيقة أحب إلي من التعصب للتجمعات المناطقية التي ليس لها من معنى إلا مواصلة مناطق التأثير الاستعماري: فالمغرب العربي لفرنسا إلى أن ترثه وريثة انجلترا في الخليج العربي (أمريكا) فنتحد في الشرق الأوسط الكبير! ذلك أنه من المعلوم أن المقابلة بين المشرق والمغرب علتها الاعتداد بالفروق الثقافية التي حصلت خلال مرحلة الاستعمار إذ لا يوجد سواها.
وهي مقابلة حديثة بين مناطق الوطن لا تختلف عن المقابلة التي من جنسها والتي تستند إلى ما تقدم على الإسلام أعني في عصر الحضارات القديمة التي يراد إحياؤها لا من حيث هي جزء من الهوية التي تجاوزتها في تكوينيتها الروحية بل لأداء دور الهوية البديل من الهوية الاسلامية الواحدة رغم أنها كما أسلفنا مجرد مقوم حضاري استوعبه الإسلام في تأليف الوحدة الحضارية التي بنى عليها كونيته : كحضارة ما بين النهرين والحضارة الفينيقية والحضارة الفرعونية والحضارة القرطاجنية الخ ..من الخرافات المؤسسة للهويات القطرية والجهوية قبالة الهوية الإسلامية.
ما يفزعني في هذه الظاهرة ليس ما قد يثير الغضب بين البربر والعرب أو بين المشرق من الوطن و المغرب. ما يزعجني حقا هو الظاهرة الأعم التي لا تثير العجب بين أدعياء البحث والطلب. فالزاد العلمي النظري الخالص والمطبق والعملي الخالص والمطبق من الفلسفة العربية كان خطه البياني متنازلا من الكندي إلى ابن رشد بعكس الزاد الايديولوجي الذي كان متصاعدا منه إليه.
ومعنى ذلك أن الكندي كان أعلم من الفارابي والفارابي من ابن سينا وابن سينا من ابن باجة وابن باجة من ابن طفيل وجميعهم من ابن رشد. وليس من شك في أن علم الخالف بالنصوص أوسع من علم السالف وأكثر لكونه كان متكاثر التشعيب والتعقيب حول الكلام لا حول موضوعه. لكن العلم بما يتعلق به الشأن في النصوص- وهو المعنى الحقيقي للعلم – فذلك هو ما كان متناقص التعميق والتدقيق. وتلك هي الدلالة الأولى للمقصود بغلبة الإيديولوجي. فعندما تصبح المعرفة نصوصا تهمل المنصوص وقوانينه يتأكد المرء من نقلة الحضارة من العلم ذي المضمون الدسم إلى الإيديولوجيا التي تنفث السم.

أدواء نظام التعليم العربي و الإسلامي

ولم يكن ذلك لغباء أو لخاصية عرقية تميز بها فلاسفتنا بل لأن نظام التعليم العربي والإسلامي ( كما لا يزال حاله إلى الآن في جل البلاد العربية والإسلامية ) كان ضحية مرضين أصابا عقلنا في التعليم النظامي وفي الساحة العمومية لتبادل الإفكار:

الداء الأول المضاعف

فالداء الأول مضاعف:
1- فرعه الأول هو فساد علم أصول الدين الذي أصبح إيديولوجية الدفاع عن العقيدة لا طلب الحقيقة الدينية في التاريخ البشري
2-وفرعه الثاني هو فساد علم أصول الفقه الذي أصبح إيديولوجية الدفاع عن مذهب فقهي وليس طلبا للحقيقة الشرعية في العمران البشري.
وبذلك أصبح نظام التعليم كما يريده الآن فقهاء الشرع وفقهاء الوضع على حد سواء مجرد آلة إيديولوجية في يد الدولة لفرض عقيدتها وشريعتها وليس مجالا للتجريب العقلي والتطبيقي لكل ما يمكن للعقل الإنساني أن يتوصل إليه بما في ذلك ما يبلغ الذرى المبدعة مثل كل ابداع فنيا كان أو علميا أو دينيا.
لذلك كان كل فلاسفتنا عصاميين: لا أحد منهم تعلم في المدرسة الرسمية التي لا تعلم إلا العلوم الشرعية الغايات وبعض العلوم العقلية الأدوات في الحدود البسيطة التي تمكن الفقهاء من التشدق ببعض المصطلحات الفقهية التي لا يفقهون دلالتها لكونهم بقصرونها على استعمالاتهما في اختصاصاتهم.

الداء الثاني المضاعف

والداء الثاني مضاعف كذلك:
1-فرعه الأول هو سواد فقهاء الشرع ( ما يسمى بعلماء الدين ) وفقهاء الوضع ( ما يسمى بالمثقفين ) على الساحة الثقافية التي أرجعوها بالضرورة إلى تابع للساحة السياسية ( ولذلك اعتبرناهما فقهاء للشرع أو للوضع ) حتى إن أحد كبار الفقهاء اعتبر كبار المتكلمين في حصته الأسبوعية حول الشريعة والحياة ( كالأشعري والباقلاني والرازي الخ…) رؤساء أحزاب ( وهي نظرة ماركسية مسطحة لتاريخ الكلام تبناها رجال الدين من حيث لا يشعرون معتبرين الفكر الديني مجرد تابع للسياسة وظل للبنية التحتية مثلها )
2-وفرعه الثاني هو فساد الإعلام عامة والإعلام الثقافي الذي تحول في الحقيقة إلى جماعات شللية تمولها ( معاهد ومنشورات وندوات) بعض الجهات عن حسن نية أو بسوء نية ( الله أعلم ) لتفسد صورة النهضة نظير تمويل الحركات الفوضوية التي أفسدت صورة الصحوة في العالم.

فكرنا الوسيط والحديث ضحية التوظيف الإيديولوجي المطلق

وليس هنا محل اثبات ذلك. لكن كل طالب حق منصف يعلم أن الحقيقة التاريخية هي ما ذكرت خاصة وأنه لا أحد يجهل أن الصدق النافي في هذه الحالة فضلا عن الكذب يولد عداء الرشديين والتنويريين من العلمانيين ماركسيين كانوا أم ليبراليين وكل المثقفين الذي يبحثون عن النجومية من خلال الجري وراء الصيحات الفكرية بوصفها موضة لا صلة لها بمجريات الأحداث عندنا حتى وإن كان لها ما يبررها في مجرى الأحداث عند أصحابها.
لا شك أن لهؤالاء ما لهم من سلطان على الساحة الثقافية توزيعا للالقاب وتحديدا للمراتب في الرأي العام “المثقف” وفي مزايا الخدمة للستاتيكو الثقافي العربي المساند للستاتيكو السياسي خاصة إذا علمنا مصدر تمويل المعاهد والمآدب وكلها في الحقيقة للفكر جنائز. لذلك فالفائدة كل الفائدة لمن يريد السلامة هي في الكذب الذي يثبت هذه الأساطير التي تولد الوهم بأننا ننهض في حين أننا في الحقيقة نغرق.
وكنت قد بينت مصدر هذه الخرافة المضاعفة على الغزالي ولابن رشد ما هو في مقال الفلسفة العربية في مائة عام. فهي تعود إلى اسطورة اليسار الأرسطي في العصور الوسطى الأسطورة التي وضعها أرنست بلوخ قياسا على اليسار الهيجلي في القرن التاسع عشر الأسطورة التي استعملها أداة جدلية في صراعه مع الطوماوية المحدثة ( ضد ماكس هرتون ) بوصفه ممثلا ناطقا باسم اليسار الماركسي في الفكر الألماني المعاصر مطلع القرن المنقضي ووصلتنا في نصفه الثاني بمناسبة ألفية الشيخ الرئيس.

خاتمة: وحل الساحة الثقافية العربية

يسيطر على الساحة الثقافية الكثير من المثقفين اللاهثين وراء الموضة الفلسفية وخاصة بعد سلطان فكر الريبية والنسبية المطلقتين اللتين يبشر بهما هذا الفكر. لذلك فهم يجدون كل المبررات للعزوف عن طلب الحقيقة بعد التسليم الساذج بمفروضات التشكيك في كل المسلمات باستثناء مسلمات التشكيك التي هي في الحقيقة شرط التفريغ المعد لأرضية البربرية الإرهابية دينية كانت (في تاريخ الأحداث: الإرهاب المادي أو طاغوت فقهاء الشرع ) أو علمانية هي البربرية الإرهابية الفلسفية ( في تاريخ المعاني: الإرهاب الفكري أو طاغوت فقهاء الوضع ).
وليس عندي أغرب من الجهلوت الذين يحطون من شأن الثقافة العلمية والتكنولوجية المتواضع أصحابها (أي العلماء بحق) ويزعمون مواصلة النقد الهيدجري للميتافيزيقا لكأنه يوجد عندنا علم وتكنولوجيا فضلا عن الشطط فيهما حتى نحاول الحد من سلطانهما باحياء الثقافة التافهة لبعض متعلمي الفلسفة من مجلات التثقيف العامي والخالطين بين التراجم الذاتية والفكر الفلسفي السامي! لن ينصلح لنا حال ما لم نفحص التحديث المغشوش في المجال الفلسفي ونظيرته التي هي الصحوة المغشوشة في المجال الديني.


عمامة ابن رشد والتحديث الفلسفي المغشوش – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي