لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالأسد ونظامه شرط شروط السيادة والريادة
يوجد مشكل ميتافيزيقي يطرح على مستويين:
على مستوى العلية
وعلى مستوى الزمانية.
ويمكن صياغة الاول كالتالي: هل يمكن أن يتقدم المعلول على علته؟
والثاني يمكن صياغته كالتالي: هل الزمان يقبل الرجع فيعود أدراجه من غايته إلى بدايته؟
وكلاهما ما كان ليطرح لولا وجود الحرية الإنسانية.
ذلك أن الأمرين كلاهما محسوم في افعال الإنسان بسبب الطابع المضاعف في فاعلية الكائن الحر. وقبل أن أشرح ذلك فلنميز بين نوعين من العلية ونوعين من الزمانية. فالعلية الحرة تبدأ غائية وتنتهي فاعلية ومن ثم فللعلة وجودان في الأذهان كعلة غائية وفي الأعيان كلعة فاعلية.
ذلك أن علية الحرية بخلاف علية الطبيعة ذات وجودين في الأذهان وفي الاعيان فإنها تشغل المحلين المتقدم والمتأخر بحيث إن نفس الأمر المعلول في الأعيان علة في الأذهان عند الانتقال من النظر إلى العمل وذلك في كل أفعال الإنسان حتى اللاواعي منها وينعكس الأمر عند الانتقال من العمل إلى النظر.
وقد خصص ابن خلدون فصلا للكلام على مقولة “غاية الفكرة بداية العمل” الارسطية دون أن يصلها مثله مثل ارسطو مع العلاقة بين العليتين المضطرة والحرة. ففي العلة الطبيعية المضطرة لا يمكن تصور المعلول قابلا للتقدم على العلة. لكنه في العلية الحرة (خاصة بالإنسان) التقدم ممكن لثنائية الوجود.
فكون العلية في الأذهان مختلفة عنها في الأعيان يجعل الفعل الإنساني حرا لأنه يذهب من المعلول إلى العلة بعملية تحليلية رجوعا من العلة الغائية إلى العلة الفاعلية حتى يتمكن من الانتقال من الوجود الذهني إلى الوجود العيني لما يريد تحقيقه. وبذلك فهو قادر على التحرر من الترتيب الطبيعي.
فهذا التقدم للمعلول على العلة بصورة تجعله علة في الأذهان ومعلولا في الأعيان هو الذي يمكن الإنسان من اكتشاف شروط الإمكان المتعددة والتي تتحرر من وحدانية التعليل الطبيعي الذي كان يمكن أن يحصل لو ترك دون تدخل من الإنسان فيستعيض عنه بالتعليل الإرادي الحر ليحقق الإنسان غايته.
وهذا هو سر كل الإضافات الحضارية للطبيعة. وهذه الإضافات التي تنتج عن العلية التي في الأذهان والتي هي علامة الحرية هي ما أطلقت عليه اسم الشرائع في كلامي على علاقة الطبائع بالشرائع في القرآن: ومعنى ذلك أن كل ما يعمله الإنسان أو الحضارة التي يضيفها إلى الطبيعة شرائع أي تشريع إنسان.
وهذا الازدواج في ترتيب العلية يوجد حتى في أكثر الأفعال الإنسانية عفوية. لكن فاعلتيه تتزايد بتزايد التخلص من العفوية للعمل على علم بمعنى تقدم النظر على العمل باعتباره استراتيجية تصورية سابقة على الاستراتيجية التنفيذية. وهذا هو الفرق الجوهري الذي تتميز به أي حضارة بلغت درجة التنظير.
لذلك كلما سمعت عربيا يشمئز من التنظير ويتهم الفلسفة بأنها “تفلفس” لا فائدة منه بدعوى المهم هو العلم وليس الكلام النظري الذي يقص الشعرة على أربعة -وخاصة فقهاء عقاب الزمان- كلما فهمت علة تخلفنا وتحول أفعالنا كلها إلى ارتجال “المزنوق”. فالفعل غير المسبوق بالنظر ليس فعلا بل رد فعل.
ومن هنا يأتي مشكل الرجع في الزمان. كل تخلف علته الخلط بين الزمان الطبيعي والزمان التاريخي. فالزمان الطبيعي يبدو مثلا وخاليا من قابلية الرجع. لكن الزمان التاريخي مخمس وقابل للرجع. زمانية الطبيعة هو نظام تسليل الواقعات بقانون السببية. وهو إذن خال من ازدواج تسليل الأحداث التاريخية.
صحيح أن الاحداث التاريخية فيها واقعات تبدو من جنس الواقعات الطبيعية خاضعة لتسلسل الواقعات وحيد الترتيب وذلك هو وجودها في الاعيان الطبيعية. لكنها مصحوبة دائما بمستوى الوجود في الاذهان وترجمته الرمزية في الوجود في الأعيان أي إن الأحداث التاريخية متلازمة مع الأحاديث حولها.
والأحداث التاريخية ليست مقصورة على افعال الإنسان بل هي تشمل انفعالات الإنسان بالواقعات الطبيعية التي لها أثر على أفعاله ومن ثم على زمانيته التاريخية حدثا وحديثا. فيكون الزمان التاريخي بما في ذلك علاقة الإنسان بالزمان الطبيعي مؤلفا من مستويين بسبب الازدواج بين الذهني والعيني.
وبذلك يبدو أن الماضي يتقدم فيه الحدث على الحديث فتكون العلية وكأنها طبيعية بمعنى أن ما في الأعيان متقدم على ما في الأذهان لكأن العلة لا يمكن أن تتأخر على المعلول أي إن الحدث متقدم على الحديث الدائر حوله. لكن ذلك ينعكس عندما نتكلم على المستقبل: فالأحاديث متقدمة على الحدث زمانيا.
ولما كان الماضي قد كان قبل حصوله مستقبلا فلابد أن تكون قد سبقته أحاديث حول ما يتوقع منه. فيكون الماضي والمستقبل كلاهما خاضع لتقدم المعلول كعلة غائية على العلة كعلة فاعلية. والتداول على منزلة العلة والمعلول كنوسان دائم هو جوهر الحاضر. فالحاضر هو هذا التناوب لتلازم الوعي والفعل.
وهذا التناوب لا يتوقف وهو ما يجعل الإنسان يكون دائما إما قبل حاضره أو بعده ولا يكاد ينجح أبدا في معاصرة حاضره الذي يشعر بأنه في سيلان أبدي لا يستطيع الإمساك به مهما حاول أن يركز على لحظته. وهذه الظاهرة مقومة للوعي الإنساني بذاته وهي علة حاجته للغرق في المذهلات التي تنسيه ذاته
أختم هذا التأمل قبل الرحيل لحضور ندوة “آفاق التغيير السياسي والاجتماعي في الشرق الاوسط وشمال افريقيا من المنظور الجيوسياسي في جامعة زعيم باسطنبول” بملاحظة أخيرة: كل أمة لم تصل نخبها للوعي بالفرق بين العليتين والزمانيتين وصلته بعلاقة النظر بالعمل فاقدة لشروط السيادة والريادة.
والعلة مضاعفة:
أثر العادة التي تجعل الفعل يحصل من دون الوعي بدقائقه (كما يحصل في السياقة بعد التعود عليها الاعضاء تتحرك دون وعي من السائق).
أثر سلطان الجماعة التي سيطرت عليها العادة فقتل فيها الاختلاف والتنوع وما ينتج عنه من جدل وحوار بمعنى التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
والنتيجة هي الجمود وتحل العادات إلى ما يشبه الطبيعة الثانية وتصبح الجماعة كيان آلي ميت عديمة الشك والبحث والسؤال والاختلاف والتنوع: الكل يحاكي الكل أكلا ونوما ونكاحا وأحكاما مسبقة وتلك هي حال الأنعام التي آل إليها وضع شعوبنا مواشي يرعاها وسطاء يسمون علماء وأوصياء يسمون أمراء.