علوم الملة، ما القصد من ضرورة تجاوزها لذاتها؟ – الفصل السادس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علوم الملة

أخصص الفصل السادس من “علوم الملة: ما القصد من ضرورة تجاوزها لذاتها؟” للكلام على العلوم الأدوات التي تستعملها علوم الملة ومدى قصورها الفعلي.

من المعلوم أن العلوم الادوات أو المساعدة واحدة في كل العلوم سواء كانت علوم الملة أو العلوم عامة: وهي خمسة أصل وأربعة فروع تتلون بلون الأصل.

فأما الأصل فهو نظرية المعرفة أو الرؤية الفلسفية العامة لعلاقة بين المعرفة والوجود ويمكن أن نسميها رؤية العلاقة بين الإدراك الإنساني والوجود.

وهذه الأداة الأصل في كل معرفة بلغت إلى العلمية هي في آن بداية وغاية. فكل مرحلة من مراحل المعرفة الإنسانية تنطلق منها وتنتهي إلى ما يتجاوزها.

وما يتجاوزها بداية مرحلة أرقى وهكذا دواليك. فالأصل بداية وغاية لفروعه علة ومعلولا في آن. والفروع الأربعة هي اللغة والتاريخ والمنطق والرياضيات.

والغالب على علوم الملة اللغة والتاريخ ووهم الإطلاق بالنسبة إلى الأصل لظنهم أن ما يصح على النصوص المرجعية يصح على علوم أصحابها: مطابقة وهمية.

ومن المفروض ألا يؤمن أي عالم من علوم الملة بالمطابقة لأن الدين نفسه يميز بين علم محيط مطابق مقصور على الله وعلم الإنسان لا محيط ولا مطابق.

لكنهم ربما بتأثير من الفكر الفلسفي ظنوا أن العلم مطابق في مرجعيات النصوص الدينية قيسا على القول بالمطابقة الفلسفية في الوجود الطبيعي.

ومن هنا جاءت مغالطة قيس الغائب على الشاهد بمقتضى توهم الانتظام المضطرد في الطبيعة: من أوهام الفلسفة التي قبلت بها علوم الملة في مرحلتيها.

واقصد بمرحلتيها عصرين مضاعفين (ابن خلدون):

  1. هو كلام القدامى بعد نشأته الذرية وقبلها.

  2. نشأة كلام المحدثين وبعد اندراجه في المشائية.

فعلم الكلام أسس لعلوم الملة كلها لأن مراحله هي عين مراحل كل واحد منها بوصفها آلت إلى فلسفة ذرية أولا ثم إلى فلسفة هيلومورفية ثانيا.

فالكلام بعد تحسس النشأة تبني رؤية الفلسفة الذرية ثم تبني رؤية اقتربت من الفلسفة المشائية التي سادت: نظرية المعرفة الفلسفية أصل مناهجه.

وخصومة الكلام والفلسفة تعلقت بمضمون المعرفة وليس بحقيقة العلم شكلا وأدوات منهجية. لم يستفد من نفي القرآن لنظرية المطابقة: علة رفض السلف له.

القرآن يعتبر كل معرفة اجتهادا وليست معرفة محيطة. فالاجتهاد يعرف بمناهجه ووعيه بحدوده ومن ثم فهو في تقدم دائم وبأخلاق التواضع العلمي.

تكون اللغة تسمية لما ندركه من الموضوع والتاريخ لما فهمنا من مجراه والمنطق لما رتبنا من مدركاتنا في الاجتهاد دون دعوى المطابقة مع الموضوع.

ورغم أن ابن خلدون مثلا قد وضع علما العمران ليصل إلى شيء من المطابقة فهو يبين عقبات ذلك وينتهي إلى أنها مستحيلة لأن الوجود لا يرد للإدراك.

فيكون مدار المعرفة العلمية وأصل مدى أدواتها متعلقا بهذا العلم الأول الذي تستند إليه نظرية المعرفة: طبيعة العلاقة بين مدى الإدراك وموضوعه.

فمدار المعرفة العلمية وأصل فاعلية أدواتها هذا العلم الأول الذي تستند إليه نظرية المعرفة: طبيعة العلاقة بين الإدراك وما يُعلم من الموضوع.

وما يعلم من الموضوع هو ما تؤيده التجربة بأدواتها من فرضيات نظرية. ولا شيء يثبت أنه حقيقة الموضوع بل ما ناسب تلك الفرضية بتلك الأدوات.

ولولا ذلك لكانت كل معرفة نهائية ولما تغيرت العلوم أو لتوهمنا أن المعرفة بموضوع معين لها غاية لا مزيد بعدها: لكن البحث العلمي لا يتوقف ابدا.

وهو ما يعني أن ما نتوصل إليه من معرفة بأي موضوع يبقى دائما إضافيا إلى المنظور الذي يبحث فيه وأن البحوث كلها في كل الموضوعات متضامنة.

أي إنه يمكن لبحث في مجال “أ” غير مجال “ب” أن يؤثر فيه فيغير كل شيء فيه وخاصة دور تغير العلوم المساعدة وأدوات الإدراك التجريبي في المعرفة.

أما إذا كانت العلوم مبنية على المطابقة وتوهم اكتمال البحث في مجال العلوم المساعدة فإنها تجمد كما حصل لعلوم الملة كلها وتعوض من مرجعيتها.

وقد ضربت مثال حواري مع البوطي: يعتبر علوم اللسان العربي التي يعلمها وهي كلها متخلفة كافية لأصول الفقه عديم الصلة أصلا بعمل الدول الحديثة.

وأكثر من ذلك فهو لم يكن ذا صلة حقيقية حتى بالدولة الإسلامية التقليدية: فلا يمكن لقانون حرفه الاستبداد وجعله مبررا لتحكماته أن يعتبر قانونا.

ولا معنى لقانون لفاقد للشرعية التي تحدده: في دستور يقول إن الأمر امر الجماعة وهي تسوسه بالشورى صار امر ولي الأمر ويسوسه بفقهاء تحت سلطانه.

وذلك هو ما سميته تعطيل الدستور والحكم وكأن الجماعة في حالة طوارئ: صاحب السلطة التنفيذية وضع تحت سلطانه السلطة التشريعية التي صارت تبريرية.

شرعية أي قانون مستمدة من شرعية الحكم بمقتضى نظام دستوري يحترم أصل السلطة وليست منفصلة عنها فضلا عن تطبيقه بالشروط الخلقية للقضاء العادل.

وهذا هو مجال أصول القانون (الفقه في حالتنا) وليس مجرد الصوغ القانوني للأحكام المستمدة من المرجعية القانونية (القرآن والسنة) فذلك عملية تقنية.

والعملية التقنية لا تضفي الشرعية على القانون بل هي تولده من طبيعة التشريع المرجعي وأخلاقه وهذه هي العملية المعتبرة في تأصيل أي قانون.

ولا فرق في ذلك بين الوضعي والشرعي من القانون: ولو اقتصرنا على ما يوجد في القرآن والسنة واعتبرناه مدونة قانونية لكان حاصل الظاهرية هو الوحيد.

فمن يعتمد القياس ينزل نفسه نظيرا للشارع وخاصة من يعتمد المقاصد تماما كمن يظن الرسوخ في العلم مضاهيا لعلم الله في التأويل (آل عمرا ن 7).

وإذا كان للتشابه مجال مفضل فهو مجال النوازل القضائية والحقوق. فلم يبقى من خيار إلا اعتبار ما ورد من حدود شرعية هو لأخلاق القانون يعمل بها.

ليس هدف الأحكام التشريع بل تحديد أخلاق التشريع موضوع الشورى بمعايير خلقية حددتها الحدود نماذج إذ هو مقوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فإذا لم يكن التواصي بالحق والتواصي بالصبر أساس الشورى لإدارة الجماعة أمرها فكيف يمكن أن يكون اساس التعامل فيما بينها حتى في أتفه الأمور؟

سياسة الجماعة أمرها بالشورى بخلق المؤمن العامل صالحا والمتواصي بالحق والمتواصي بالصبر هو أصل كل تشريع ذي مرجعية دينية أو وضعية.

فالتشريع الوضعي له مرجعية وضعية يؤمن بها المنتسب إليها ويعمل بمقتضاها متواصيا بالحق ومتواصيا بالصبر مسهما فيها فعلا وانفعالا: الديموقراطية.

وتلك هي أولى مسؤوليات المكلف قرآنيا لأن كل مؤمن مشارك في التشريع وإلا لما قال الرسول من رأى منكر فلقومه إلخ. وطبعا التقويم تطور فصار بوسط.

والوسيط مؤسسات تطبق القانون الذي وضعته الجماعة بفضل سياسة الشورى لأمرهم. فحرف الشورى فلم تبق نظام حكم بل نصيحة تابع منافق لمتبوع مستبد.

فالمعطوفات الخمسة الواردة في الآية تبدو وكأنها مجرد معطوفات مبتدئية لا تتضمن خبرا بضمير المقابلة بين فضل الله وعدم استفادة الإنسان منه.

والشروط خمسة:

  1. الاستجابة للرب

  2. رمزها إقامة الصلاة

  3. امرهم

  4. شورى بينهم

  5. ومما رزقناهم ينفقون.

علي شرح الفصل بين 3 و4 وهي تبدو معطوفا واحدا.

وهنا يبرز المستوى الثاني من الإضمار: وتقدير الكلام “وسياسة الأمر تكون بالشورى” فيطرح سؤالان: نسبة الامر إلى الجماعة ونسبة الشورى إليها؟

فيصبح النص: الامر هو أمر الجماعة وشورى سياسته للجماعة. ومن ثم “فأمرهم شورى” جملة فيها مضمران: نسبة الأمر إلى الجماعة ونسبة الشورى إليها.

لو ترجمت الامر أمر الجماعة لكانت تحديد لطبيعة نظام الحكم: ففي المصطلح الدستوري بلغة لاتينية يسمى ذلك “راس بوبليكا” أي نظام حكم جمهوري.

ولو ترجمنا شورى بينهم بالمصطلح السياسي باليونانية لكان ذلك يعني أسلوب الحكم في النظام الجمهوري ديموقراطي: الآية حدد طبيعة الحكم وأسلوبه.

وأحاطت هذا التحديد بعاملين: الاعتراف بفضل الله بداية والتحرر من عبادة الدنيا بالبعد الاجتماعي للاقتصاد غاية أي سلطان المال على أصحابه.

وكلنا يعلم علاقة السياسة بالاقتصاد ويعلم أهمية سياسة الاقتصاد ووظائفه الاجتماعية في القرآن. تلك هي مجالات بحث الفقه التي أهملها التحريف.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي