علوم الملة، ما القصد من ضرورة تجاوزها لذاتها؟ – الفصل السابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علوم الملة

أخصص الفصل السابع من “علوم الملة ما القصد من ضرورة تجاوزها لذاتها؟” لمناقشة مفروضات المطابقة بين العلم وموضوعه بزعم علمه على ما هو عليه.

وهي تعود إلى توهم أدوات العبارة عن الإدراك نافذة بإطلاق لموضوعه وليس معبرة عن مضمون الإدراك لا تتعداه فتنفذ لموضوعه إلا بوهم المطابقة.

فيكون وهم المطابقة جامعا بين كل المفروضات التي تؤسسه: قانون الرمز اللساني والرمز التاريخي والرمز المنطقي والرمز الرياضي يعكس قانون الوجود.

القول بالمطابقة اساس هذه الأوهام حول علاقة قوانين الأدوات وقانون الوجود. فتكون في الأخير دالة على جعل قوانين أدوات المعرفة مقياسا للوجود.

وهو ما يسميه ابن خلدون برد الوجود إلى الإدراك وهو ليس ردا للمعرفة من حيث هي حسية بل من حيث هي أفعال ادوات الإدراك والمعبرة عنه في آن.

فالمدارك الحسية فردية لكن أدوات الإدراك الموصلة إلى المعرفة العلمية ليست فردية بل هي جماعية وهي في آن للتواصل بين الناس وبينهم وبين موضوعها.

الناس يتواصلون بها فتكون الحصيلة عملا جماعيا ويتواصلون بها مع الموضوعات فتكون عملا جماعيا حصيلة لتراكم المعلومة والمخبرة: التراث العلمي.

التراث العلمي حصيلة لاستعمال أدوات العلم التي هي علوم أداتية أو مساعدة: هي اللغة والتاريخ والمنطق والرياضيات مع طبيعة العلاقة بالموضوع.

نفاذ لحقيقته بإطلاق فتكون المعرفة نهائية أم هي اقتراب لا متناه من حقيقته دون المطابقة معها مهما اقتربت منه فلا يتجاوز العلم السعي الدائم.

والآن سآخذ الادوات الأربع واحدة بعد أخرى لامتحان دعوى النفاذ إلى حقيقة الشيء التي نؤمن بوجودها الموضوعي ولا نعلمها على ما هي عليه.

وتكون غاية البحث الكلام في نظرية المعرفة المطابقة التي اعتبرها مشروطة بالعلم المحيط ومن ثم فهي مستحيلة على الإنسان لاستحالة الإحاطة عليه.

ونبدأ باللغة: هل يوجد من يدعي أن اللغة أي لغة إنسانية يمكن أن تقول كل ما يريد الإنسان قوله؟

أم إنه لا شيء تحيط به العبارة وخاصة الوجدانيات؟

وقد كانت هذه أقوى حجة استعملها ابن خلدون ضد الشطح الصوفي لأن اللغة لا يمكن أن تكون إلا ما هو مشترك والوجدانيات ليس فيها مشترك فلا تقال.

وأتفه إدراك حسي لو أردنا قول مدركه لما كفت كل كتب العالم أن تحويه فضلا عن كونه يطرأ ويزول في لمح البصر فما أن ندركه حتى يترك مكانه لما يليه.

وهبنا افترضنا ما يدركه البصر مشتركا بسبب إمكان توجيه العيون نفس الوجهة-وهو مستحيل للتزاحم على حيز الناظر-فإن الذوق واللمس مما لا شركة فيه.

وهو مما لا يقال. ومعنى ذلك وهذا هو المهم: حتى ما ندركه تعجز اللغة عن قوله فكيف بما لا ندركه مما نحسه وغالبه يجري دون إدراك واع ولا ناطق.

فأبداننا مهما سترناها بالثياب ولكن تبقى مخترقة كقطعة الجبن بكل ما في المحيط من عوامل مرئية وغير مرئية كما تبين لنا الآن من وسائل التواصل.

فالواحد منها في تبادل دائم مع المحيط لو انقطع لاضمحل وجودنا ولعل التنفس أهم علاماته. الإنسان مثل الجوال يحتاج للشحن حتى يبقى يتواصل فعله.

وجل ذلك مما لا يقال باللغة التي تقتصر على العموميات المشتركة في الجماعة الناطقة بها حول ما يقبل الإشارة إليه بما يمكن من التواصل بخصوصه.

فإذا انتقلنا إلى المنطق المجرد أو المعين فهمنا أنه لا يقول شيئا عن المدركات بل هو يعوضها بمتغيرات يفترضها ذهنيا قابلة للتعويض بقيم معرفية.

لكنه هو في ذاته لا يتعلق بالقيم المعرفية بل بنقلها من المقدمة إلى النتيجة بعد التسليم بأن تعويض المتغيرات بمضامين معرفية معينة مطابقة.

وتحصيل هذه المضامين المزعومة مطابقة رهن أدوات الوصول إلى المعلومة حول الموضوع ولا شيء يثبت أنها تحقق شرط المطابقة فيبقى الامر شرطيا.

من جنس إذا صح تعويض المقدمة بحقيقة الموضوع فيمكن نقلها إلى النتيجة بوصفها حقيقة مبنية عليها. وفيه مسلمتان لا شيء يثبتها لنقول بالمطابقة.

أي:

  1. تعويض المتغير المجرد بالقيمة المعينة صادق

  2. وأن الانتقال المنطقي من المقدمة إلى الى النتيجة مطابق للانتقال الوجودي بين المضمونين

ولا شيء يثبت المسلمتين: فقيمة المتغير مصدرها التجربة وهي محدودة والانتقال المنطقي يخضع لقوانين المنطق ولا دليل على مطابقتها لقوانين الوجود.

فنكون بذلك قد جعلنا التجربة التي هي دائما غير مطابقة حقيقة الشيء والقانون المنطقي قانونا للوجود حتى نقول بالمطابقة رغم عدم تحقق شروطها.

وقد قدمت المنطق على التاريخ لصلته باللغة. وهو ذو صلة بها مثله. لكن صلته بها تنتسب إلى الأدب أكثر من انتسابها إلى العلم مهما دقق المؤرخ.

وفيه شيء مما يصل بين اللغة والمنطق من حيث الوظيفة: فالسياق الخارجي تاريخي بالضرورة واستقراء المضمون الذي يعوض المتغيرات تاريخي بالضرورة.

فيكون التاريخ شرط الوصل بين المنطق المجرد والمنطق المطبق بدوره في السياق الخارجي للدلالة وبدوره في سياق استقراء المضامين لتعويض المتغيرات.

فيكون التاريخ هو هذه الوصلة بين صيرورة المضمون المعرفي وثبات البنى المنطقية التي تجمد صيرورة المضمون لتمسك ببنى ميتة بتثبيت قيم المتغيرات.

لذلك فحتى محاولات حل هذه المعضلة بالجدل لم تفلح في حلها: ذلك أن صيرورة المضمون لا تتوقف وبناه لا متناهية كما وكيفا ومثلها نماذجها المجردة.

وهنا نصل إلى الرياضيات ومثلها الفنون: إنها بنى مجردة لا تتوقف عن صيرورة الابداع لأنها في الحقيقة إبداع لبنى مجردة تساعد في النظر والعمل.

وهي لا تدعي المطابقة مع وجود متقدم عليها بل هي “إيجاد” بنى قد تصلح نماذج لقول التجارب بأدوات تقنية تحول تقديرها إلى أدوات استكشاف الوجود.

ولما كان ذلك لامتناهيا فإن القول بالمطابقة منتف ويعوضه التوازي بين وجودين لامتناهيين:

  1. رمزي خالص

  2. فعلي خالص:

تلامسهما لا يدعي المطابقة.

ونوعا الإبداع متفاعلان. فكلاهما يمكن أن يكون مصدر إيحاء للثاني كتفاعلي مجال فعلهما المفضل: النظر للإبداع الرياضي والعمل للإبداع الأدبي.

فلا يكون العلم والعمل إلا ما اختص به الإنسان لتحقيق شروط استعماره في الأرض إما بالإخلاد إليها أو بقيم الاستخلاف اي بأنواع القيم الـخمسة.

والقيم الخمس هي:

  1. الجلال (التعالي)

  2. والجمال(الذوق)

  3. والخير(القدرة)

  4. والحقيقة (العلم)

  5. والجهة (الحرية): والتعالي أصل القيم وشرطه فروعه

إنها شروطه بترتيب معكوس: فالأصل هو التعالي. والجمال والخير هما غايتاه والحقيقة والحرية هما أداتاه. وهي قيم حرفها فساد النظر والعمل في حضارتنا.

والعلامة الاولى لفساد النظر هي عقم الإبداع الرياضي في حضارتنا منذ عصر الانحطاط والعلامة الثانية هي علم الإبداع الأدبي. انحصرا في المحاكاة.

وبذلك يتبين أن الهدف من هذه المحاولة هو إحياء القدرة الإبداعية في مجالي الرياضيات العالية والأدب الرفيع لأنهم اساس كل إبداع نظري وعملي.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي