علوم الملة، ما القصد من ضرورة تجاوزها لذاتها؟ – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علوم الملة

في الفصل الثاني من ضرورة تجاوز علوم الملة سأعلل فيه اختياري البدء بأصلها أعني التفسير. وعلي أن أبين لم أعتبره أصل علوم الملة وبأي معنى.

لما شرعت في قراءة القرآن فسلفيا بمعنى التعامل معه كما يتعامل العلم مع أي موضوع اختاره ليكون مجال بحث دقيق بنموذج نظري فرضي استنتاجي أولي.

وهو أولي لأن العلم يتقدم دائما بمراجعة النموذج الذي بدا به محتكما إلى قوته التفسيرية وله قبلتان: نتائج النموذج التفسيري غاية ومقدماته بداية.

فانطلقت من مبدأ التعامل مع القرآن مثله مثل أي حقيقة موجودة بهذه الطريقة العلمية قبل استنتاج علوم الملة منه كما حصل تاريخيا: مرجعية عقدية.

ذلك أن العلوم التي أسست على القرآن: التفسير والفروع الأربعة أصول الفقه والفقه وأصل التصوف والتصوف وأصول العقيدة والعقدية واصول الفكر والفكر.

الفروع الثلاثة الاولى بينة للجميع. الأصل الرابع هو المشكل. لو سميته فلسفة لظن أن الفلسفة بمعناها التقليدي من علوم الملة. وهي ليست كذلك.

وما هو من علوم الملة ويعوض الفلسفة هو ما انتهى إليه الموقف النقدي من الفلسفة باعتبارها دخيلة على علوم الملة وهي محاولات وضع نظرية المعرفة.

وقد سميتها هنا اصول الفكر والفكر قياسا على الفروع الثلاثة المتقدمة عليه بأصول الفقه والفقه وأصول التصوف والتصوف وأصول العقدية والعقيدة.

وقد قدمت أصول العلم على موضوعه: صحيح أن الفقه كممارسة متقدم على اصوله كنظرية لكنه لم يصبح “علما” إلا بعد وضع أصوله (بعد كتاب الشافعي).

ومعنى ذلك أن المذهبين المتقدمين عليه لم يكن لهما الاساس النظري الذي لم يتحقق إلا مع الشافعي وبه يبدأ العلم تأصيلا نظريا للممارسة عملية.

وقس عليه بقية الفروع. وما يعني تخصصي هو الفرع الاخير أي نظرية المعرفة التي تحاول تجاوز الفلسفة اليونانية بتأسيس صريح بدأ مع الغزالي.

وبداية الغزالي على احتشامها حددت الوجهة: ما شروط العلمية وما حدودها التي تقبل التحقق منها (جوهر التهافت لمن لا يهمل مقدماته الأربعة الصريحة.

وقد تحققت ثمرة هذه البداية رغم ما يبدو من علاقة متوترة بين صاحب البداية وصاحب الغاية في النقد التيمي ليس للمنطق بل لأسسه الميتافيزيقة.

وطبقت فعليا في مقدمة ابن خلدون التي ينطلق صاحبها من ابستمولوجية جديدة جعلت التاريخ يصبح من العلوم الفلسفية وجعلت العلوم كلها تاريخية.

والعلوم ليست تاريخية بنتائجها بل بكون موضوعها هو نفسه صار تاريخيا لأن كل علم يحدد موضوعه بـ”خلقه” من خلال رؤية تكون دائما حصيلة تاريخية.

فابن خلدون مثلا “خلق” موضوع علم التاريخ لأنه جعله علم نقد الخبر المتعلق بأبعاد العمران كلها بزمانيتين وليس كلاما في تاريخ الأسر الحاكمة.

الزمانية القصيرة وهي تعنى بتعاصر الأحداث في حقب قصيرة والزمانية المديدة وهي تعنى بتواليها في حقب طويلة لأن التغير نوعان: سريع وبطيء.

والتغير البطيء أهم من التغير السريع. فالسريع يهم لحظة من تاريخ معين والبطيء يهم تاريخ الإنسانية كلها أو تاريخ تراكم خبرة توالي الحضارات.

لكأن ابن خلدون أثبت أن فلسفة التاريخ سابقة على علم التاريخ لأنها هي التي تؤصل له فتجعل الانتقال من التحسس المعرفي إلى العلم ممكنا بحق.

وطبعا فبسبب تواضعه لم ينسب ابن خلدون التاريخ المديد لنفسه بل اعتبر المؤرخين الكبار قبله أرخوا للميزات الحقب الطويلة. لكن اكتشافه تجاوزهم.

فهو الأول الذي اعتبر التاريخ المديد شرط التاريخ القصير لأنه هو الذي يمده بدلالة الأشياء: مثال المعلم. دور الحجاج لا يعود لكونه معلما.

توهم الدور ناتجا عن كونه معلم يجعل المعلم في عصر ابن خلدون يتوهم أنه يمكن أن يكون له دور الحجاج. دور الحجاج من عصبيته وليس من علمه.

والعكس كذلك: من كان في عصبية ذات سلطان فعلي يتوهم أنه بعد أن تفقد ذلك السلطان يبقى له ما لها من عزة ودور. فشل على وأبنائه ضد بني أمية.

فسلطانهم كان بسبب القرابة من الرسول وليس بعصبية ما تزال ذات فاعلية. ومن ثم فبنو أمية بعصبية جديدة تغلبوا على من فقد العصبية وبقي له وهمها.

وله مثال آخر أكثر دلالة: فالمدل بنفسه لأنه علامة يتصور أن ذلك يكفي لأن يكون ذا منزلة في السلطان السياسي. وهو خلط بين سلطانين مادي ورمزي.

ولا أحد منا اليوم لا يعجب أن العالم مهما كان عبقرية فلا يمكن أن يتجاوز سلطانه بالتقدير المالي ما يحصل عليه من إبداعه أكثر من جائزة نوبل.

لكن أي لاعب كرة شهير يحصل على أضعافها في عقد واحد. ومثله من يوظف نظرية المبدع في مشروع اقتصادي أو في فلم إذا الإبداع أدبيا: هو المستفيد.

وفي الجملة فإن المبدعين الكبار لا يستفيدون من إبداعهم إذ قد لا تظهر فائدته إلا بعد قرون. لكن تجار توظيف المعرفة قد يستمدون منه رزقا كثيرا.

وهذه الأمور لم يتوصل إليها ابن خلدون إلا بفضل فهمه للدلالة العميقة بين نوعي التاريخ: القصير والمديد: الدلالة أي موضوع العلم بطيئة التغير.

وهذا هو المرض الأساسي الذي تعاني منه علوم الملة: ظنوا الدلالة ثابتة خلطا بين وهم العلم النهائي وما ينبغي أن يكون عليه العلم بتغير الدلالة.

يمكن ان نعتبر الطبيعة ثابتة لكن دلالتها في العلم غير ثابتة. ويمكن أن نعتبر القرآن مثل الطبيعة ثابتا. لكن دلالاته غير ثابتة بل متغيرة دائما.

ودلالات علوم الملة كلها مثبتة ومن ثم فقد جمدت وتحنطت مثل المومياء: تتكلم على الموجود وكأنه ثابت فيما ثبته عليه كلامهم ظنا منهم انه نهائي.

القرآن رسالة خاتمة ومن ثم فيمكن اعتباره مثل الطبيعة حقيقة ثابتة. لكن علمه يعطيه دلالات غير ثابتة تنتج عما يستنتج من فهمه بمقدماته ونتائجه.

ومقدمات علم القرآن-رغم أن القرآن عقيدة دينية-لا ينبغي أن تكون عقدية. ونتائجه علمية ولا ينبغي أن تكون عقدية لأن وظيفتها فهمه وما يستمد منه.

وبهذا المعنى سميت محاولتي قراءة القرآن فلسفيا لدرسه العلمي بما عرفت به القرآن تعريفا مستمدا منه هو: استراتيجية توحيد البشرية بالحريتين.

الأولى: تحرر الفرد الإنساني روحيا من الوسطاء بينه وبين ربه (السلط الروحية كالكنيسة) والثانية الجماعة الإنسانية من حكم يعلو عليها عدا ربها.

وما يعلو على الجماعة ليحكمها عدى ربها هو المستبد إما باسم الحق الإلهي (مثل الشيعة: شرعية الوصية) أو باسم الحق الطبيعي (السنة شرعية المتغلب).

لكن الثورتين ألغيتا لأن القراءات السطحية والأولية حولت القرآن إلى مدونة تؤسس لعلوم زائفة تسد الحاجات الأولية لمجتمع لم يفهم معنى الحريتين.

وما كان ثورة تحرير مضاعف روحي وسياسي تحول إلى مدونة من الأحكام الفقهية والصوفية والكلامية والنقدية المعادية للفكر الحر إلى ما ينقضهما كليا.

وذلك هو ما سميته الانتقال من الدستور (عهد الراشدين) إلى حالة الطوارئ بعد الفتنة الكبرى (منها إلى اليوم): تعطيل الدستور وإلغاء الحريتين.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي