علوم الملة، ما القصد من ضرورة تجاوزها لذاتها؟ – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علوم الملة

في الفصل الثالث من “علوم الملة ما القصد من ضرورة تجاوزها لذاتها؟” فلنحرر المقصود بأنها لم تعد صالحة دون أن يكون هذا الحكم دعوة للتنكر لوجودها.

فيم تتمثل عدم الصلوحية وفيم يتمثل تجاوزها دون التفصي منها لأنها من مراحل تكوينية فكرنا الذي لا يكون فكرا حيا إلا بتجاوز ذاته تجاوزا دائما.

فبعد أن بينت كيفية دراسة القرآن علميا بوصفه استراتيجية توحيد الإنسانية بتحريرها مما يحول دون الإنسان وأهلية الاستخلاف أمر إلى العلوم الأخرى.

وهي اربعة علوم:

  1. أصول الفقه والفقه

  2. أصول التصوف والتصوف

  3. أصول العقائد والعقائد (علم الكلام)

  4. أصول نظرية المعرفة والعلم (نقد الفلسفة).

والثلاثة الاولى منها لم تعد صالحا بإطلاق إلا كموضوع لتاريخها العلمي ومحاولة فهم أعطالها وشروط تجاوزها وقد قست ذلك على تجاوز فيزياء أرسطو.

والرابع ما يزال صالحا مطالبا وأهدافا لكنه الطريقة التي حاول بها العلماء وضعها لم تمكنهم من جعلها تصبح علوما لأنها ظلت حبيسة الجدل الكلامي.

والقصد بـ”حبيسة الجدل الكلامي” يفيده فكر ابن تيمية. فالشيخ طرح القضايا الأساسية لنظرية المعرفة التي كانت ردودا ظرفية فلم تصبح فلسفة موجبة.

ورغم أن ابن خلدون حقق قفزة نوعية في محاولة صوغ ثمرة النقد إيجابيا فإنه استفاد منها في عمله لكنه لم يتحرر من الرد المقتضب لتصبح نظرية معرفة.

والأهم من ذلك كله أنه لم يبين علاقتها بما حققه في منجزه العلمي: لم يبين دلالة بيان حدود العقل والتمييز ممكن العلم وغير ممكنه وتجاوز المطابقة.

فلا يكفي القول إن الوجود لا يرد إلى الإدراك وتعليل ذلك بالكلم وليس بالكيف: الوجود أوسع من الإدراك كميا وليس كيفيا لأنه لم يعلله بأمر جوهري.

والأمر الجوهري هو اقتصار العلم الإنساني على عالم الشهادة ومن ثم الاعتراف بالغيب في الوجود أو بما يجعل الإحاطة ممتنعة ببيان حدود العلم.

وذلك هو شرط الانتقال من نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة بين العلم وموضوعه إلى الوظيفة النموذجية للنظرية التي لا تتجاوز صوغ ما يقبل التجربة.

وهذا في الحقيقة جوهر الفرق بين الفلسفة والقديمة والفلسفة الحديثة التي تبنت في النهاية حدا للعلم علته تمييز الدين بين علم الله وعلم الإنسان.

علم الله في كل الأديان محيط وعلم الإنسان في كل الأديان غير محيط وهو معنى الإيمان في مقابل العلم. والفلسفة تكتفي بأمرين يمزانها عن القديمة.

لما لم تعد تقول بالمطابقة تخلت عن جعل علم الإنسان محيطا دون أن تؤمن بوجود علم محيط تنسبه إلى الله كما يقول الدين: سلمت بنسبية علم الإنسان.

وطبعا يوجد فلاسفة يؤمنون بوجود الله ومن ثم بعلمه المطلق والمحيط. لكن ذلك ليس ضروريا في صحة نظرية المعرفة: المهم التسليم بحدود علم الإنسان.

إيمانهم بالله وبعلمه المحيط يجعل معنى العلم النسبي مفهوما. فالنسبي من دون وعي صاحبه برديفه المطلق يكون مطلقا للتضايف بين المعنيين.

لكن ذلك ليس له دلالة ابستمولوجية (معرفية)بل دلالته انطولوجية (وجودية): فالفيلسوف حتى لو كان ملحدا يكفيه أنه فهم امتناع إحاطة علم الإنسان.

وإلحاده علته أنه يمر من نفي الإحاطة على علمه إلى نفيها بإطلاق ونفي الله نفسه غافلا عن كونه قد أطلق علمه لإهمال التضايف بين النسبي والمطلق.

لا يمكن للإنسان أن يدرك عدم إحاطة علمه من دون فهم أن ذلك غياب فضل على علمه وبتعميمها على صفات الإنسان أثبت ديكارت كمالات الله ووجوده.

وانطلاقا من هذه الرؤية الجديدة لعلم الإنسان -وهي قرآنية خاصة وعلامتها الغيب-يمكن التخلص من جمود علوم الملة التي بنيت على نظرية المطابقة.

فجمد العلم وجمد المعلوم لتوهم العالم علمه مطابقا لموضوعه الذي فقد دور النبع الحي فيصبح العلم استعراضا لمحفوظات منفصلة عن دلالات حية

لكن علماءنا لم يبحثوا عن حقيقة القرآن حيث عينها-آيات الله في الآفاق والأنفس-اكتفوا بفنون قلبت المطوب إلى نقيضه بالجرأة على آل عمران 7.

فتكون القيم التي بها تحدد قانونية القانون هي الشريعة لا الأحكام. فهذه أمثلة تحققت فيها قيم قانون العدل المطلق المستحيل بالطبع على الإنسان.

واستثني من كلامي الرسول لأن الله أطلعه على بعض الغيب الذي هو عادة ومحجوب حتى عليه. فيكون بوسعه أن يحكم بالعدل المطلق الممكن لله وحده.

وقوله هو نفسه “نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر “تعني أن الحكم لا ينبغي ان يكون مطلقا لأنه بقدر العلم الذي يؤسسه وهو نسبي: تنسيب الأحكام.

فلا يبقى منها إلا معياره الخلقي لتكون متصفة بالقوانين التي تسعى لتحقيق العدل مع العلم بنسبية ما نبني عليها من علم يحد من إطلاق الأحكام.

فإذا جعلنا الاحكام هي الشريعة بديلا من الأخلاق والعلم اللذين يؤسسان لحكم الإنسان الذي هو نسبي دائما فكأننا اعتبرنا أحكامنا مطلقة كأحكام الله.

حكمنا بالظاهر لا ينبغي أن يكون من جنس الحكم بالسرائر التي لا يعلمها إلا الله: والعلم بالظاهر نسبي دائما ومن ثم فالحكم ينبغي أن يكون مثله.

وهذا يعني أن القرآن لم يقدم الحدود وأحكامها لكي نقيس عليها بل لكي نقيس على الأخلاق التي يتصف بها الحكم ليكون متصفا بصفة القانونية الشرعية.

ويكذب من يدعي أن الأمة سيست بالفقه وأصوله: لابد أن نعلم أن الامر كان دائما كما نراه الآن. إرادة الأقوياء يطلبون من “علم” الفقهاء ما يبرره.

لا أنكر أنه يوجد بعض الاستثناءات التي تثبت القاعدة: كل ما جرى في تاريخنا القانوني مناف للعقل وللدين فالعدل مستحيل مع الاستبداد والفساد.

فالقوانين التي تطبق بإرادة المستبد والفاسد تبقى حتى لو فرضنا وجود قاض شجاع للحكم بمقتضاها حبرا على الورق إلا إذا ناسب ذلك غرض الحاكم.

حكم القاضي قد يكون سليما لكن نسيان نسبية علمه ونسبية حكمه بعلمه وإهمال أن تنفيذ الحكم ليس بيده يجعل القضاء مهزلة كحاله الان في كل بلادنا.

واعتبر ذلك أكبر الجرائم إذا مررت هذه الاحكام باسم الله. فالله ليس ظالما وأعطانا شروط القانون العادل وأولها أن يكون الأمر بيد الأمة المؤمنة.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي