علوم الملة، ما القصد من ضرورة تجاوزها لذاتها؟ – الفصل التاسع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علوم الملة

الفصل التاسع من “علوم الملة ما القصد من ضرورة تجاوزها لذاتها؟” سيعالج مفارقة يعسر التفطن إليها من دون فهم وظيفة المقدرات الذهنية بصنفيها.

رأينا أن علوم الملة قلبت العلاقة بين العالمين فلم تنته عما نهى عنه القرآن (الغيب) لوم تأتمر بما أمر به (علم الشاهد) وقاست الاول على الثاني.

ثم أولت كل ما لا مثيل له في عالم الشهادة لترده إلى مثيل منه أو لتلغيه فصار العلم تعميما للشاهد الغفل والمعرفة العامية لأعراضه السطحية.

وكانت علومها المساعدة مقصورة على اللغة والتاريخ لا تتعداها قبل أن يصبح أي منهما علميا خلطا بين قواعد تعلم اللغة وعلمها وبين الأثر والتاريخ.

صحيح أنهم استعاروا من الفلسفة الذرية أولا ثم من الفلسفة المشائية ما اعتبروه علما نهائيا يؤسسون عليه ويستعملون مناهجه في الحجاج الكلامي.

ومن مفارقات ذوي العجلة المعرفية توهم نظريات الفلسفة الذرية أو الفلسفة المشائية ومنهجياتهما قابلة لأن تكون مقدمات لعقائد الأديان المنزلة.

فهذه النظريات مبنية على أن النوس-نظير الله في الأديان المنزلة-محايث في العالم الطبيعي لأنه هو نظام قوانينها وهي لا تقول بالحاجة إلى خالق.

لذلك فهم يستعملونها لبيان الحدوث أو المخلوقية التي توجب وجود الخالقية فيكون العالم الحادث دليلا على الله الخالق: قيس الغائب على الشاهد.

المصنوعات تدل على الصانع تعميم للسببية واستثناء ما يسمى بالسبب الأول منها مدعين ضرورة قطع التسلسل في السببية: الاستدلال يصادر على المطلوب.

فالعلم الإنساني غير محيط وغني عن المطابقة مع الموضوع لأنه فن التعامل معه على ما يبدو عليه دون شرط شفافية الوجود ونفاذ العقل المطلقين.

والدين عامة والإسلام خاصة مبني على أن العلم المحيط الذي يعلم الاشياء على ما هي عليه هو علم الله وحده وعلم الإنسان غير محيط وغير مطابق.

وهذا هو مفهوم الغيب الذي يختلف عن مفهوم الغائب. فالغائب نوعان:

  1. غائب نسبي أي ما ليس بعد معلوما مما يقبل العلم

  2. غائب بإطلاق لا يقبل العلم

فحتى لو سلمنا أن النوع الأول يمكن أن يقبل قيسه على الشاهد أي قياس مستقبل العلم على ماضيه فإنه يفترض أن ما نقيس عليه علم مطلق وتام ونهائي.

فنصل إلى مفارقة تنتج عن نفي الإحاطة وعدم قابلية الوجود للرد إلى الإدراك: بدلا من قيس الغائب على الشاهد صار العلم يقيس الشاهد على الغائب.

فالشاهد هو الموجود الخارجي. وابن تيمية ينفي عن علمه صفتي الضرورة والكلية معتبرا إياه جزئيا دائما. فما طبيعة الموضوع الذي يتصف علمه بهما؟

أولا هو موضوع غير موجود في الخارج. وثانيا هو ليس موضوع فعلي بل موضوع مقدر. إنه إبداع خيالي لا قيام له بذاته بل بذهن مبدعه وغائب في الخارج.

هو إذن علم بنى مجردة ليست موجودة في الخارج بل وجودها هو تقديرها في الذهن وهي إذن تقوم في بنى رمزية خالصة تتعين بالتطبيق على موجود خارجي.

الموجود الخارجي هو عالم الشاهد والمقدر الذهني هو عالم الغائب: علم الموضوع الشاهد في الخارج يقاس على علم المقدر الغائب في الخارج. قلب تام.

العلم ليس قيس الغائب على الشاهد بل العكس هو الصحيح: هو قيس الشاهد الموجود في الخارج على الغائب في الوجود الخارجي: والغائب إبداع لبنى رمزية.

هذه دلالة رؤية ابن تيمية في العلم النظري: عكس القياس الكلامي. وقياسا عليه تبين أن ابن خلدون قام بنفس القلب بالنسبة إلى العلم العملي.

ومعنى ذلك أن علم العمران البشري والاجتماع الإنساني ليس تاريخا يعلم الشاهد بل هو نموذج مثالي غائب في الوجود الخارجي يقاس عليه تاريخ الشاهد.

وهو ما حيرني منذ السبعينات. لذلك سميت أول كتاب في فكر ابن خلدون “علم الاجتماع النظري الخلدوني”: فهو ليس علما للاجتماع الشاهد بل لمثاله.

وقد قدمته موضوع “”شهادة التعمق في البحث DRA”المناظر لدكتوراه الحلقة الثالثة لكني تخليت عنه وفضلت كتابة رسالة في دور الرياضيات في علم أرسطو بالفرنسية.

وفيها بينت أن أرسطو كان على عتبة الثورة التيمية لكن ما أعاقه هو تصوره الرياضيات علما لبنى المادة في الموجود وليست إبداعا ذهنيا خالصا.

فلكأنها عنده ناتجة عن التجريد من الوجود الفعلي في الخارج وليست إبداعا فرضيا لبنى مجردة قد تقبل التطبيق على الموجود الخارجي دون مطابقة.

إذا كان الوجود الخارجي لا يقبل العلم الكلي والضروري فما العلاقة بين هذين الصفتين وعلم التقدير الذهني الذي يقبلهما؟ ما العلة في ذلك؟

ولماذا يحتاج علم الوجود الخارجي التجريبي إلى علم المقدر الذهني غير التجريبي؟ تلك هي المسألة التي حيرتني ولم ألمح الطريق إلى حلها إلا مؤخرا.

المسألة هي: ما طبيعة اللقاء بين المعرفي والوجودي (والمعرفي منه)؟

ما الذي يجعل بعض الموجود ينعكس على ذاته وعلى غيره ليدركه ويعبر عنه معرفيا؟

كلنا يعلم أن اليونان طرحوا المشكل وأجابوا عنه جوابين متقابلين إلى حد التناقض: حل أول: لقاء المعرفة وموضوعها الوجودي هو ما بينهما من تماثل.

الحل الثاني: نقيضه لقاؤهما هو ما بينهما من عدم تماثل. لكن لا الحل الأول بين فيم يتمثل التماثل ولا الثاني فيم يتمثل عدمه. بقي المشكل مفتوحا.

فما طبيعة الآيات التي يرينا الله فيها لنعلم حقيقة القرآن الذي هو أيضا من الوجود الخارجي؟ إن الآية هي الرمز الدال على معنى ما هي آية فيه.

آيات الله في الآفاق والأنفس رموز فيها بوصفها موضوعات ذات وجود خارجي. وهي رموز دالة على حقيقة القرآن الذي هو موضوع موجود في الخارج.

فإذا تذكرنا أن الإنسان اعتبر أهلا للاستخلاف لأنه تعلم الأسماء كلها وهي رموز اللقاء بين المعرفة كوجود يعود على الوجود الخارجي شرطا في إدراكه.

المقدرات الذهنية هي التعامل مع الرموز وكأنها مرموزات وإبداع بنى مجردة منها في فرضيات كلها خيالية شرطها اعتبار الرموز نفسها موجودات اسمية.

لذلك يمكن القول إن المقدرات الذهنية لعبة اسماء نبدع لها دلالات خيالية فتكون الرياضيات والآداب من الألعاب الاسمية كاليوتوبيا والميثولوجيا.

والطبيعة والتاريخ وكل ما نعتبره وجودا في الخارج حالات خاصة منها فتلتقي معها في قوانين خفية تجمع بين الآيات وما هي آياته الدالة عليه.

وبذلك بدلا من الانطلاق من التجربة نحو النظرية العلم الحقيقي ينطلق من النظرية التي هي لعبة أسماء إلى التجربة كحالة خاصة من قوانين الأسماء.

وفي هذه الحالة نكون قد تخلينا نهائيا على وهم المعرفة المطابقة لنكتفي باعتبارها تعاملا ناجعا مع الوجود الخارجي بألعابنا الرمزية أو الاسمية.

لا بد هنا من تعريف القصد بالأعجاز العلمي: هو الوهم القائل أصحابه بأن القوانين العلمية المعينة للظاهرات معنية موجود في نص القرآن كقوانين.

فالقرآن هو الذي ينفي الأعجاز العلمي للقرآن لأنه يدعونا للبحث عن القوانين العلمية عامة ولحقيقته هو خاصة في آيات الله في الوجود الخارجي.

وهذا البحث يحتاج إلى أمرين:

  1. المقدرات الذهنية وهي قدرة إنسانية على إبداع عالم اسمي خيالي يتعامل معه وكأنه مسميات بافتراضات بنيوية حرة.

  2. ثم التجربة النسقية بأدوات تقنية تقوي الإدراك الحسي للوجود الخارجي انطلاقا من فرضيات تقيس مجرى الوجود الخارجي على مجرى المقدرات الذهنية.

إدراك الآيات في الوجود الخارجي ليس إدراك لوجود خارجي بل هي بانطباقها عليه تكون القوانين المجردة للوجود الخارجي: قيس الشاهد على الغائب.

ذلك هو ما أذهلني: المنهج العلمي يعكس منهج علم الكلام: لا يقيس الغائب على الشاهد بل يقيس الشاهد (الوجود الخارجي) على الغائب (المقدر الذهني).

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي