علوم الملة، ما القصد من ضرورة تجاوزها لذاتها؟ – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علوم الملة

هل اعتباري علوم الملة علوما زائفة يعني أني من القائلين بدفن التراث وعدم اعتباره جزءا لا يتجزأ من عملية بناء المستقبل؟

ذلك ما فهمه بعض القراء.

ولا بد هنا من طرح سؤال واضح: هل تجاوز الفيزياء الحديثة فيزياء أرسطو يعني أن علينا أن نلغيها لأنها لم تعد صالحة كفيزياء؟

أم إن لها بقاءا آخر؟

ولنبدأ أولا فنعترف أنه لا يوجد عاقل يقضي بأن فيزياء أرسطو هي الفيزياء الصحيحة وأن الفيزياء الحديثة ليست بشيء فيبقي عليها وعلى أدوات علاجها.

لكن ذلك لا يعني أنها ليست جزءا مقوما من الفكر الفيزيائي في تاريخ العلم ومن ثم فهي لم تعد فيزياء صالحة لكنها تبقى مرحلة مهمة من تاريخ فكرها.

وتاريخ العلم وظيفته أن يبحث في علة كونها لم تكون الفيزياء التي تحقق غرض البحث في الفيزياء بصورة تجعله علما فظلت فيزياء أرسطو دون العلم بحق.

هل يوجد من ينكر فضل ارسطو مع ذلك؟

كل ما في الأمر أن تاريخ العلم نقدي بالجوهر-ككل تاريخ- همه درس الفكر الماضي ومناهجه لفهمه وفهم شروط تجاوزه.

والقصد هو الجواب عن السؤال الجوهري لتاريخ العلم: ما الذي حصل في الفكر الفيزيائي فأعاقه لتجاوز فرضياته الأولى وطرق بحثه فلم يصبح علما؟

وبهذا المعنى فتاريخ العلم جزء مقوم للفكر الابستيمولوجي أي لنظرية المعرفة العلمية إشكالات وحلولا وطرائق وأدوات.

ذلك ما أحاوله مع علوم الملة.

أكون غبيا لو كنت أنكر فضل الشافعي في تأسيس أصول الفقه. وأكون أغبى لو تصورت أن ذلك هو أصول الفقه الذي يحقق وظيفته التي هي عين فلسفة القانون.

وحينها نجد أنفسنا أمام نفس الإشكالية التي رأيناها في فيزياء أرسطو: فإما أن اعاند فأقول أصول الشافعي نهائية ومطلقة أو أبحث عن شروط التجاوز.

صحيح أن فيزياء القرون الوسطى بقيت عقيما لأنها ظلت متشبثة بفيزياء أرسطو حتى إن ابن رشد رفض كل ما عداها وعدها غير علمية فحال دون التجاوز.

ويمكن القول إن ابن رشد (فقه متفلسف) والرازي (متكلم متفلسف) والسهرودي (متصوف متفلسف) وابن عربي (متصوف متكلم) قتلوا إعادة التأسيس الغزالية.

ففي مقدمات التهافت بين أن نقده لا يتوجه للرياضيات والمنطق لأنهما علميان بحق بل يقتصر على الميتافيزيقا وفرضياتها فإنه اعتبره كافرا بـ”العقل”.

ولا يزال أدعياء الحداثة إلى اليوم يقولون إن الغزالي قد قتل الفلسفة و”العقل”. لم يفهموا أنه كان يبحث عن بداية جديدة لإدراكه طرقها المسدودة.

إن “حداثيينا” أكثر تخلفا من “تقليديينا”: يعتبرون فكر المعتزلة وفلسفة ابن رشد عقلانيين بمعنى مطلق بدلا من فهم أن العقل يتجاوز نفسه دائما.

لكني لم أركز في عملي على “الحداثيين” لأن دورهم على خلاف توهمهم لا أثر له يذكر في المعرفة اي معرفة ودورهم لا يتجاوز دور تجار الروبفاكيا.

ويحزنني كلام التقليديين على “علوم الملة” أي واحد منها وهي خمسة أصولية (أصلها التفسير وفروعها الكلام والفلسفة في النظر والفقه والتصوف في العمل).

وقد عبرت عن ذلك بوضوح في حواري مع الشيخ البوطي: يتلكم على أصول الفقه ويجهل أنه لا توجد دولة مسلمة اليوم بما فيها السعودية تعمل به وبالفقه.

صحيح أن الظاهر يخالف ما أقول: لكنه في الحقيقة من جنس دجل “خبراء” البنك الإسلامي. يأخذون البنك عامة ثم يتحيلون بالفتاوى ليبعثوا معان ميتة.

فبناء اقتصاد حديث يحتاج للفصل بين خمسة مقومات:

  1. مستهلك ممكن

  2. فكرة تسد حاجته

  3. تمويل للاستثمار فيها

  4. العمل المحقق

  5. ادارة توحد المشروع.

وهذا التعقيد والبنية العضوية مقومة للدولة الحديثة كجهاز معقد يعمل بتفاعل الإبداع العلمي والاقتصادي بتوسط التقني للإنتاج المادي والرمزي.

وكل ذلك لا وجود له في الرؤية الاقتصادية والعلمية التي يراد حصر العمل البنكي فيما كانت تعرفه من عقود كلها خاصة ليس لها هذا الجهاز المعقد.

فهل ننظم المواصلات والاتصالات الحديثة بنظام الحمام الزاجل والخيول في التواصل والاتصال: هل يوجد عاقل يفضل فيزياء أرسطو على فيزياء نيوتن؟

وهذه الطريقة تعطل النمو وتفسد وظيفة البنك دون أن أنفي أن النظام البنكي بحاجة إلى “دوزة” خلقية تستمد من الرؤية الإسلامية لوظيفة الاقتصاد.

لم أر فيما يسمى بالبنك الإسلامي هذه الدوزة الخلقية بل بالعكس هم حافظوا على أخلاقياته الحالية ثم عطلوه بإفساد الفصل بين الممول والمستثمر.

وما توهموه محررا من الربا صار أكثر ربوية لان جعل العلاقة مباشرة بين المستثمر والممول يلغي دوريهما بما يفرضه عليهما من الجمع بين الوظيفتين.

وهو ما يعني أن هذه الرؤية قاصرة لأنها تتصور الملكية ينبغي بالضرورة أن تكون عينا لا نقدا. وهذا كان صحيحا لما كانت العملة ذات قيمة ذاتية.

فعندما كان للذهب والفضة دور العملة اي رمز مقدار الملكية كانا في نفس الوقت ملكية. فلها دوران. أما العملة الورقية فهي مجرد رمز لتقدير الملكية.

ودورها في تمويل الاستثمار برمزيتها للملكية وليس بذاتها فيكون دورها بقدرتها الرمزية على تمثيلها. فتكون من أدوات الإنتاج عند المستثمر.

فإذا طالبنا من الممول أن يصبح مشاركا للمستثمر بأن بجعله مالكا لأدوات انتاجه يؤجرها له بدلا خلطنا بين الوظيفتين فعطلناهما بصورة غبية.

لم يبق البنك وسيطا بين المدخرين على العموم والمستثمرين على العموم بل أصبح مالكا مشاركا للمستثمر وليس وسيطا بضمانة بين التمويل والاستثمار.

وساطة البنك بين المدخرين على العموم والمستثمرين على العموم لا تعني أنه أصبح شريكا للمستثمرين بل هو ضامن حسن التصرف في الادخار بالضمانات.

جعل المدخرين طرفا في الاستثمار وليسوا مقدمي خدمة بمقابل هو الذي يعطل الادخار والاستثمار لإلزام المدخرين بان يكونوا طرفا فيه ربحا أو خسارة.

وهذا لا يزيل الربوية بل يضاعفها: لأن صاحب المال سيعيد حسابه وسيضاعف قسطه من الربح ويضاعف ما يطلبه من الضمانات مقابل إمكانية فشل المشروع.

وهو ما يزيل أهم عناصر العملة الاقتصادية: ففيها يكون المستثمر مغامرا مغامرة محسوبة وحقه أن يكون مسؤولا ومنتفعا وحده من مغامرته الاستثمارية.

فيكون قد تحمل مسؤولة ما اقترضه بمقابل محدد سلفا وتحمل البنك ضمانة القرض ولا دخل له في الربح ولا في الخسارة حتى تكون العملية ذات نجاعة.

وختاما فالبنك الإسلامي يجعل المعاملات وكأنها تجري بنظام المقايضات العينية لا بنظام الوسيط الرمزي بين البضائع والخدمات: العملة كأداة تقييم.

ومدح للنظام البنكي الإسلامي توظيف سطحي لإضفاء الشرعية: نظام البنك هو الوساطة في “بيع” خدمة لا المشاركة في إنتاجها: هو تجارة خدمية وليس ربا.

زبدة القول إن البنك الإسلامي لم يضف إلى الخدمات البنكية الدوزة الخلقية الإسلامية بل هو نكص بالاقتصاد إلى منطق المقايضة: تعطيل وليس أخلاقا.

بماذا يمكن أن تتعلق الدوزة الخلقية التي يحتاج إليها النظام البنكي؟

ما ظنوه أسلمة هو إطلاق سلطان البنك الذي أصبح شريكا مع الضمانات.

والشراكة مع الضمانات خداع تام للمقترض: فالبنك الإسلامي بالضمانات يدخل في الربح ويخرج من الخسارة. ومن ثم فهو أكثر ربوية من البنك العادي.

والأمر يتعلق بسلطان البنك على الاستثمار الذي اقترض صاحبه من البنك تمويله: فالبنك تاجر خدمي بضمانة عينية حاصلة ومن ثم فلا مغامرة في تجارته.

لكأن العملية رهن مؤجل إذا لم يدفع المقترض ما به اشترى الخدمة يكون من حق البنك أن يبيع المرهون ليحصل ليسترد ماله ومقابل تأجيره من ثمنه.

وإذن فلا دخل له في الربع ولا في الخسارة. في حالة البنك الإسلامي يصبح البنك هو المستثمر الرابع دائما والخاسر دائما هو المستثمر المقترض منه.

وهنا يأتي دور الأخلاق: لا بد أن نطبق على تمويل الاستثمار نوعين من القيم الخلقية: ما ينطبق على التجارة عامة وعلى تجارة الخدمة المالية خاصة.

وأخلاق التجارة معلومة: وهي كل ما يحول دون التطفيف بنوعيه والغش بنوعيه في البضاعة والخدمة وفي التعاقد حولها. أما أخلاق الخدمة المالية فاشد.

فالنسبة بينهما كالنسبة بين القانون المدني والقانون الجنائي. الأول تعاقدي بين طرفين بشروط التعاقد لكن الثاني للحق العام فيه دخل كبير.

فتجارة خدمة التمويل تهم كل التنمية لأنها شرط الاستثمار عامة وهو مصدر الثروة والتراث لأنه أصل الرعاية (شروط العيش) والحماية (شروط الدفاع).

النظام البنكي ينبغي أن يتبع مباشرة استراتيجية التنمية المادية والعلمية في الجماعة وظيفته جعل هذه الخدمة تشجيع مبدعي الأفكار ومستثمريها.

وهذا هو المعنى الأول لخلقيته والمعنى الثاني هو منعه من أن يتحول إلى نظام تحيل على ضمانات المستثمرين وتخريب الاقتصاد بتمويل المغامرين.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي